كتب – احمد عبد اللاه
كنا صغاراً وكانت عناصر الطبيعة بالنسبة لنا مختلفة عما ذهب اليه فلاسفة الشرق الأقصى أو من أتى بعدهم، فقد انحصرت ببساطة في: المدرسة، ملاعب الطفولة، المطر، حقول القمح ووجه الاستاذ المربي الكبير محمد الفقيه. جميعها ملأت حياتنا و اعتبرناها لا شعوريا “اللطائف الخمس” الحسية التي أيقظت مراكز الإدراك قبل أن يتوسع مداه نحو آفاق بعيدة.
هكذا كانت البدايات جميلة وبسيطة لا يشغلنا شيء خلالها سوى الدروس الصباحية في “الحساب” واللغة والدين و”المحفوظات” وقليل من التاريخ والجغرافيا، ثم نتفرغ لملاحقة الفصول الأربعة التي تتناوب بخفة وسلاسة.. ويثير شغفنا قوس قزح وموسم الجراد والسيول التي تغمر بين حين وآخر مساحات واسعة حولنا. لم نكن نعلم بالتفصيل ماذا يوجد وراء الجبال وإلى أين تنحدر الأودية، وكيف ينسكب الضباب على الأرجاء، ولم يخطر على البال أن نسأل عن النهر السماوي المرصع بالنجوم أو حتى معنى ثاني أكسيد الكربون وكيف يتناوب غبش الدجى مع نقاء الصباح.
أما مدينة الضالع فقد كانت الوعاء الديموغرافي الهادئ الممتلئ بمخزون من القيم والبراءة والعلاقات الصادقة قبل أن تُستدرج إلى تقلبات الزمن وخفاياه.
كانت الأرض خضراء خضراء والسماء لا تؤخر الغيث عن مواعيده عام بعد عام، أما نحن فلم يساورنا شكّ حينها بأننا سنعيش طفولة أبدية.
من هنا ومن هذا الكوكب الصغير ظهر الوجه الأكثر إشراقا في حياتنا حتى اعتقدنا من شدة تعلقنا به أنه أتى من عالم آخر نظراً إلى شخصيته القريبة إلى القلوب و ملكاته الفطرية في التأثير و قدراته المتعددة في التعليم والتربية والخطابة والإقناع وانفعالاته المفعمة بالعاطفة النقية وكثير من صفات النبل والتواضع حتى فاق تعلقنا به أي شيء آخر .
لقد نقل إلينا الأستاذ محمد الفقيه كثير من المعارف في اللغة والدين والسلوك و فتح أبصارنا على فروض الولاء والحب لبلادنا وحمل الينا بصورة مبكرة، وما يناسب اعمارنا حينها، شذرات من التاريخ الإسلامي والعربي وعن بلاد العرب وامتداداتها.
ماتزال نبرات صوته الخصبة في تلاوة القرآن الكريم عالقة في وجداننا خاصة وأنها تأتي من زمن الصفاء والطهر ومن استاذ رأينا فيه “ملخص القيم الحميدة”. ومثل ذلك نحتفظ بكثير من الذكريات، وقد بلغنا هذا العمر، عن زمن كنا نسمع فيه لأول مرة قصص الأطفال في جو ربيعي بديع تحت شجرة عملاقة ظليلة تتداخل فروعها بشكل خرافي وتأوي إليها أفئدة صغيرة من الطيور المختلفة، وكانت بحد ذاتها حينئذ ووفقاً لمقاييس الصبا رواية غامضة! هناك كان يجمعنا أستاذنا في بعض الصباحات الندية، نحس بأنها أجمل ساعات نقضيها.. نستمع بحواس متيقظة وخيال متحرك نحو فضاءات كبيرة لا محسوسة.. يتسع ليستوعب الكثير من تفاصيل الحكايات وبيئتها ومكانها وزمانها. وكانت تعبيرات وجهه وهو يحملنا عبر فصول الروايات تسند إدراكنا وتوجه انفعالاتنا فوق تضاريس السرد كأننا نتدرب على مهارة الاستيعاب لجانب مهم من أدب الأطفال وعلى تنظيم ايقاع عواطفنا الصغيرة وتخصيب وعينا الناشئ بما يلزم من التجارب الإنسانية النموذجية بلغة جميلة محببة وسهلة الاستيعاب.
كانت تلك الدروس الاستثنائية خارج “الجداول اليومية” تمثل إضافة نوعية وقيمة مهمة وغذاء فكري مبكر انتبه إليه هذا الرائد التربوي قبل غيره.
ولهذا ولأسباب كثيرة يفهم الجميع بأنه استاذ ومربي شامل متكامل ترك في اللاوعي منذ الزمن البكر صوراً ثابتة من النبل والنقاء لم تستطع الخطوب والدروب أن تنال منها.. ومع ذلك عاش حياة بسيطة متواضعة مليئة بالعطاء وسخر جل اهتماماته واجتهاداته في تربية الأجيال داخل الفصل المدرسي وخارجه، بالإضافة إلى كثير من مساهماته الاجتماعية واستطاع بحكمة وصبر ان يتعايش مع مراحل صعبة بحيث يظل متألقاً في نبله وعلاقاته وأخلاقيات عمله وحافظ على شخصيته وقناعاته وظل على أي حال صابراً لم يتبدل فيه شيء.. ولا يمكن لأحد نسيان متلازمة حياته التي تجلت في تعاطيه اليومي مع مسؤوليته الدينية والاخلاقية تجاه الفقراء والذين أوجعتهم تقلبات الحياة.
كنا تلاميذه الصغار وبعد أن كبرنا أصبحنا تلاميذه أيضاً، نكبر ويزيد مقامه علواً وتكبر محبته فينا لأننا منذ الصغر اعتبرناه ثابت في حياتنا لا تنال منه الأزمنة ولا تغيره الأعمار وظلت تلك مشاعر طاغية لدى كثيرين ممن تتلمذوا على يده وعرفوه حق المعرفة.
استاذنا الكبير محمد الفقيه عاش حياته مجتهداً بصورة نادرة ليخدم الأجيال والمجتمع في مجالات عدة وكان نموذجاً ورمزاً محبوباً لا يستطيع أحد أن يأخذ مكانه في قلوبنا.
وجهه المشرق وابتسامته النقية ونبرات صوته المميزة وابداعاته المختلفة وكل ما تعلمناه منه صغاراً وكبارا، وكلما خطت يداه على دفاترنا وما ترك من أثر على صفحات حياتنا خلال سنين طويلة… كل ذلك نحمله في وجداننا وذاكرتنا مع كثير من الحب والوفاء ما عشنا على ظهر هذه الأرض.
رحمك الله أستاذنا القدير وأسكنك فسيح جناته.