كريتر / خاص
انهى الاستاذ الدكتور محمد مسعد العودي من تأليف كتابه المعنون ب(( شعرية النص ومناهج قراءته ))
والذي في 350صفحة ولم يتبق الا اللمسات الأخيرة لنشره وهذه مقطتطف من كتاب د محمد مسعد العودي : سحر شعرية الذات الشاعرة
إن ثمة فرقاً بين الذات الشاعرة والذات الماهوية فالذات الماهوية هي ذات الإنسان كان شاعراً أو غير ذلك أي أنها الذات الإنسانية التي تقوم بالتجارب الواقعية, أما الذات الشاعرة فهي مختلفة, إنها الذات التي تسكن في النص الأدبي وهي لا شك مختلفة عن الذات الماهوية, إذ توجد الذات الماهوية خارج النص والذات الشاعرة لا وجود لها إلا في النص، فهي خالقةُ النصِّ مخلوقة فيه، ولا شك أنها امتداد للذات الماهوية لكنها تمثل انزياحا ً عنها، مثلما يشكل عالم القول انزياحا ً عن عالم الواقع, لكنه امتداد له، فالدكتور عبد العزيز المقالح مثلاً مستشار الرئيس ورئيس مركز البحوث يختلف عن المقالح وقد سكن نص “أبجدية الروح” خَلقه وخُلق فيه من جديد، ولا يخفى على القارئ ما تثيره الذات الشاعرة من سحر الشعرية في الذات المتلقية، حين تكون مشاركة في صناعة الأحداث وليس مجرد واصفه لتلك الأحداث، ولننظر لنص بشار بن برد وأي شعرية تمنحها الذات الشاعرة للنص:
وجيشٍ كجنح الليل يزحف بالحصى
وبالشوك والخطي حمرٌ ثعلـــــــــبه
غدونا له والشمس في خــــدر أمها
تطالعنا والطل لم يـــــــــــجرِ ذائبه
بضربٍ يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجا الفرار مثالــــــــبه
كأن مثار النقع فـــــــــوق رؤوسنا
و أسيافنا ليل تهاوى كـــــــــواكبه
بعثنا لهم موت الفــــــــــجاءة إننا
بنو الموت خفاق علينا ســــــبائبه
فراخوا فريقاً في الأسارى ومثله
قتيلٌ ومثلٌ راح في البحر هاربه
من خلال النظر فقط إلى ضمير المتكلمين “غدونا، تطالعنا، رؤوسنا، وأسيافنا، إننا، علينا” ندرك أن الذات مشاركة في صنع الأحداث وليس مجرد واصفة لتلك من خارج العالم الشعري، لقد خلقت الذات هذا العالم وخلقت فيه، فالمعركة ليست التي حدثت، والذات ليست التي تحدثت عنها، فالذات هنا أعادت خلق المعركة وأعادت خلق نفسها فيها، ولعمري إن هذا ليمنح النص سحراً على سحر وجمالاً على جمال، إن الجيش في النص ليس الجيش خارج النص، فالجيش في النص كجنح الليل يغطي الآفاق بل يغطي كل الأشياء وهو خارج النص ليس كذلك ثم يقول:
غدونا له والشمس في خدر أمها
تطالعنا والطل لم يـــجر ذائبـــه
فالذات التي غدت في النص ليست الذات التي لم تغد خارج النص لأن الشاعر كفيف فأنى له أن يغدو ويشترك في المعركة إلى جانب المقاتلين، فالذات في الواقع راصدة للأحداث لكنها مشاركة في صنعها داخل النص، والشمس خارج النص ليست الشمس داخل النص إذ تتأنسن فتاةً تشاهد المعركة، لأن الذات المحاربة بفطرتها تريد أن تراها المرأة وهي تقاتل بشجاعة وهمة عالية، ولمَّا لم تجد الذات الشاعرة المرأة لتشهد فعلها الذكوري العظيم، والحرب فعل ذكوري تاريخياً لا حظَّ للأنوثة فيه إلا حين تسترجل المرأة ويكون مستوى الذكورة طاغٍ فيها على مستوى الأنوثة، نعم لقد أحالت الذاتُ الشمسَ فتاةً تعبر عن الفعل الأنوثي وهو مقتصر في الحرب على رفع المعنويات؛ ووصف البطولات بعد انتهاء المعركة، إن الذات هنا لا تصف بل تخلق العالم من داخله وتُخلق فيه، والذات هنا تعبر دون شعور منها عن حالة الذكورة الباذخة التي تتمتع بها، فثمة شعرية أخرى هنا هي شعرية الذكورة حين يكون المنشئ رجلاً كامل الذكورة، ثم حدث الفعل البطولي:
بضربٍ يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجا الفرار مثالبـــــــــــه
كأن مثار النقع فوق رؤوسنــــــــــا
و أسيافنا ليل تهاوى كواكبــــــــــــه
بعثنا لهم موت الفجاءة إننــــــــــــــا
بنو الموت خفاق علينا سبائــــــــــبه
وحين نتأمل دقة الصورة هنا، نجد مشهداً بديعاً لا يمكن له أن يكون الواقع، فهذا عالمٌ مختلف خلقته الذات الشاعرة خلقاً حسياً بديعاً، رغم أن الذات لا ترى العالم فعلاً؛ نعم الذات خلقت عالماً مختلفاً وخُلقت فيه مبصرةً ومقاتلةًً ومنتصرةً، فهي ترى العدو، وتضربه بالسيف وتنتصر عليه، والواقع لا يقول ذلك، وهنا نستطيع أن نقول إن للشعر عالمه الخاص المستقل عن عالم الواقع، إلى حدٍ كبيرٍ، إن الذات حين لا تكون جزءً من نسيج النص يعاني النصُّ موتا سريرياً، لأنه بلا روح، وأستطيع أن أجزم هنا أن الذات حين لا تكون جزءً من نسيج النص يصبح النص جسداً بلا روح، فالذات التي خلقته وخلقت فيه، هي روحه التي تمنحه الحياة، والجمال والسحر معاً، إنه نص مكتنز لمستوىً عالٍ من الذكورة، ولننظر لوصف المتنبي للمعركة:
أتوك يجرون الحديد كــــــــأنهم
سروا بجياد ما لهن قــــــــــوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم
ثيابهم من مثلها والــــــــــعمائم
إلى أن يقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهـــو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمــــة
ووجهك وضاحٌ وثغرك بــــــاسمُ
تجاوزت مقدار الشجاعة والــنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عـــــالم
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقــــــوادم
حقرت الردينيات حتى طرحتهــــا
وحتى كأن السيف للرمح شاتــــــم
نثرتهم فوق الأحيدب نثـــــــــــــرةً
كما نُثرت فوق العروس الــــدراهم
الذات الشاعرة هنا خارج النص تماماً خارج العالم الشعري المخلوق حديثاً تماماً، نعم هو جميل ولعل هذا النموذج من النماذج الشهيرة في وصف المعارك لكنه جسد بغير روح، لعله جسد جميل لكن لا روح فيه كوردة جميلةٍ أو كغصنٍ جميلٍ لكن بغير روح، حين وصف الشاعر المتنبي ضخامة الجيش لم يقنعنا وصفه له على مستوى المشاعر، مثلما جعلنا بشار نقتنع بما قال ولو كان قوله متجاوزاً للمنطق، لكنه مقنع للمشاعر، الأمر الذي فشل فيه المتنبي؛ القابعة ذاته خارج المشهد، فتحس المبالغة غير المقنعة فيه، ولعل غياب الذات من المشهد رغم أنها شاركت في أحداثه ضرباً بالسيف على مستوى الواقع إلا أن إحساس الذات بمركَّب النقص أمام الآخر، جعلها تختفي من المشهد تماماً فتبدو كأنثى تتلذذ بوصف الفعل الذكوري الذي لا تملك من فعله شيئاً، وكم يذكرنا هذا برثائيات الخنساء، وعلى الرغم من استخدام التقنيات الباذخة في النص إلا أنها باهته:
نثرتهم فوق الأحـــــــــيدب نثرةً
كما نثرت فوق العروس الدراهم
هذا لا ينسجم مع فعل الحرب، وهو تشبيه أنوثي إلى حد بعيد، والصورة في مشهدها الحسي هنا تحيل حسِّ المتلقي إلى العروس ومنظر الدراهم، وهي تتناثر فوقها ولم تحل الصورةُ حسِّ المتلقي إلى المعركة، إن ما يتراءى لعين الخيال العروس والدراهم وليس الحرب، يعني أن المشهد الحسي الذي تراه عين الخيال هو مشهد المشبه به لا مشهد المشبه، وإن تداخل هذا بهذا لكن الغلبة لمشهد المشبه به؛ العروس والدراهم المتناثرة عليها، حين نقرى قول بشار نجد عكس ذلك تماما:
بضربٍ يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجا الفرار مثالبـــــــــــه
كأن مثار النقع فوق رؤوسنــــــــــا
و أسيافنا ليل تهاوى كواكبــــــــــــه
يحيلنا هذا إلى مشهد المعركة؛ مشهد المشبه لا مشهد المشبه به وإن تداخل هذا بهذا لكن الغلبة لمشهد المعركة وحين نقرأ قول المتنبي: “وحتى كأن السيف للرمح شاتم” هذا التصوير الذي يصور فعل التنافس على سيف الدولة بين طرفين هما السيف والرمح، يضمر هذا النسق نسقاً آخر، إذ يعبر عن تنافس المتملقين، وهو منهم على كسب ود سيف الدولة، وكثيراً ما نجد مثل هذا في كل زمان ومكان، فالوصف في كل الأحوال هو وصف الفعل الرجولي من قبل الأنوثة، لأن الأنوثة معنىً، فقد يتأنث الرجل وتسترجل المرأة، فلننظر إلى بعض ألفاظ المعجم الدالة على ذلك “أتوك، وقفتَ، كأنك، تمر بك، ووجهك وضاح، وثغرك باسم، تجاوزتَ، ضممتَ، حقرتَ، طرحتَ، نثرتَ” وأين أنت أيها المتنبي، هذا الحشد يدل على تلذذ الذات المتأنثة بالفعل الذكوري، والفارس لا يتلذذ بفعل الفارس الآخر، ويغيب نفسه تماماً إلى هذا الحد، رغم أنه كان مشاركاً في المعركة بالسيف، وعلى الرغم من أن بشار لم يكن مشاركاً في المعركة، لكنه في الممكن لم يرض لذاته إلا الفعل الذكوري “تطالعنا والطل لم يجر ذائبه” ولم يرض لذاته إلا أن تكون مساهمة في كل تفاصيل الفعل الثوري في المعركة المعبرة عن الفعل الذكوري، إن الذات في نص المتنبي تنكص إلى حد التأنثي:
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالـــغيب عالم
هذا القول لا يقوله مشارك في الحرب بل تقوله امرأة عجوز في مدح محارب.. إن هذا النص رغم ما فيه من جماليات إلا أنه يفتقد الذات، أي يفتقد الروح، ضف إلى ذلك أن النص يفتقد الذكورة فهو نص مخنث بامتياز
وهي سمة بارزة في تجربة المتنبي، إذا لم نجده يتغزل في المرأة إلا بشكل لا يكاد يذكر وذلك يدل على غياب الفعل الذكري نتيجة لنكوص الذات في مستوى ذكورتها لكننا نجده يتغزل في الرجل:
مالي أكتم حباً قد برى جسدي
وتدَّعي حب سيف الدولة الأمم
فكم من ضرَّةٍ تنافسك في سيف الدولة، غير أبي فراس هكذا هم مادحو السلطان، ومتملقوه، في كل زمان ومكان، فما أحوجهم إلى الفعل الذكوري لأن الفعل الذكوري لا يعني في النص غير الفعل الثوري.
وقد يمنح المستوى الأنوثي النص بعدا باذخا في مستوى سحر شعريته، حين يكون منشئ النص أنثى كما في قول الجليلة بنت مرة:
يا قتيلاً قوَّض الــــــــــدهرُ بـه
سقف بيتيَّ جميعاً من عــــــــلِ
ورماني فقده مـــــــــــــن كثبٍ
رمية المصمى به المستـــأصل
هدم البيت الذي استــــــــحدثته
وانثنى في هــــــدم بيتي الأولِ
مسَّني فقــــــــــــدُ كليبٍ بلضىً
من ورائي ولضـــــىً مستقبلي
ليس من يبكي ليوميــــن كمن
إنمـــــــــا يبكي ليومٍ ينجلي
دَرَكُ الثائرِ شافيــــــــــــهِ وفي
دركي ثــــــــــأري ثكلُ المثكلِ
ليته كان دمــــــــــــي فاحتلبوا
درراً منه دمي من أكـــــــحلي
الشعريةُ كل الشعريةِ تنبع فياضةً من معاناة الذات؛ هذه الذات التي عاشت عالمها في الواقع المؤلم فعلاً وفي النص مرةً أخرى وهو أمر وأنكى، وأصابتنا بعدوى الحالة التي تعانيها، لم يعد النص سوى حاملٍ لمشاعر الذات كي ينقلها إلينا، نعم لقد أحزنتنا فعلاً وكأن كليباً قتل الآن، وهنا، قريبا منا ولم يدفن بعد.. إنها شعريةٌ تخترق الزمان والمكان، وتحل حيث يجد القول متلقياً يسمعه ويتفاعل معه ويعيد انتاجه