عمل يورغن هابرماس من الرعيل الثاني في مدرسة فرانكفورت النقدية على تحليل الفعل والبنيات الاجتماعية
كتب : عماد الدين الجبوري
سردنا في الحلقة الثامنة مفهوم الأخلاق عند نيتشه، والتي تعني أخلاق القوة بكل معانيها، فالحياة في صراع دائم والبقاء فيها للأصلح فقط. فالقوة هي الفضيلة والخير، وأما الشر والنقيصة فهو الهوان الذي يخور ويسقط. كما أنها أخلاق فوقية تخص المتميزين في المجتمع، ويتخذها الضعفاء سلاحاً لحمايتهم.
هابرماس (1929)
يعد يورغن هابرماس من الرعيل الثاني في مدرسة فرانكفورت النقدية، لكنه الأكثر باعاً حتى من الرعيل الأول، لا سيما في تركيزه على تحليل الفعل والبنيات الاجتماعية واهتمامه باليسار السياسي والتحرري، ومع أنه أحد فطاحل الفلسفة المعاصرة، فقد تأثر بالأخلاق الكانتية، لا سيما في كتابه “الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي” 1983. وهو ضمن المناصرين بقوة لمشروع الحداثة، خصوصاً في موضوع العقل والأخلاق وفق نظرية كلية واحدة. فبحسب رأيه، أن عملية التنوير لا تنحصر في نقد العقل التنويري فقط، بل في جدلية التنوير نفسه، وبذلك يرى أن عملية التنوير تقوم على ركيزتين. الأولى، فكر البناء الهرمي والاستبعاد. والثانية، إمكانية إقامة مجتمع حر يشعر فيه الجميع بالسعادة في أقل تقدير. (الخطاب الفلسفي للحداثة. طبعة إنجليزية).
في الفقرة الأخيرة أعلاه، يرى هابرماس أن هذا ما يميز الحداثة عن “ما بعد الحداثة” التي تفتقد إلى هذا النهج، في العمل على ممارسة الحرية والسعادة والأخلاق على المستوى الاجتماعي الكلي. ولذلك، يعتقد هابرماس، بأن الحداثة لم تفشل ولم تنته، بالأحرى أن مشروعها “لم يكتمل” بعد، وبذلك لم يتجسد أبداً. ولهذا السبب يظهر هابرماس تمسكه بالحداثة وعدم القطيعة معها، كما يفعل فلاسفة ما بعد الحداثة.
ومن هنا، عمل هابرماس من خلال رؤيته النقدية على تقويم الحداثة والعقلانية، وذلك بتكوين معايير أخلاقية تنحصر مهمتها في ترتيب وضبط عمليات العقلنة وتحركاتها. كما أن هذه المعايير الأخلاقية يكون أساسها على اعتبارات التواصل والانفتاح على الآخر والاعتراف به. فالحقيقة، وفق تصوره، ليست معطى جوهري سابق على الوجود الإنساني، بل نتاج لعمليات تفاعلية في تبادل البراهين والحوارات والمناقشات والتبادل العمومي، فهي ثمرة الطبيعة الاجتماعية من جهة، والاجماع العام الذي نصل إليه من جهة أخرى. وعليه، لا يوجد شيء يمكن إعفاءه من المساءلة والنقد والمناقشة، فكل الموضوعات إنما تكتسب شرعيتها من خلال المناقشات العمومية التي تتيح الوصول إلى الحقيقة الاجتماعية القائمة على سلطة العقلنة والبرهنة.
وعن “المصالح” سواء المعرفية أو المشتركة بين الناس جميعاً، ينص هابرماس، بأننا نطور المعرفة دائماً من أجل غرض معين، وأن تحقيق ذلك الغرض هو أساس مصلحتنا في تلك المعرفة، ولأننا أعضاء في المجتمع الإنساني، لذا توجد مصالح مشتركة في ما بيننا. كما أن العمل وحده لا يميز البشر عن الحيوانات، وإنما اللغة أيضاً، إذ إن نتيجة العمل تؤدي إلى ظهور المصلحة التقنية، التي توجب السيطرة على العمليات الطبيعية واستغلالها لمصلحتنا. فكذلك اللغة، هي الوسيلة الأخرى في تحويل البشر بيئتهم إلى ظهور “المصلحة العملية”، التي بدورها تؤدي إلى ظهور العلوم التأويلية.
ليس هذا فحسب، بل يذهب هابرماس إلى القول إن المصلحة العملية تفضي إلى نوع ثالث من المصلحة، ألا وهي مصلحة الانعتاق والتحرر. كما أن الأخيرة تسعى إلى تخليص التفاعل والتواصل في العناصر التي تشوهها من خلال إصلاحها، وكذلك عمل مصلحة الانعتاق يؤدي إلى ظهور العلوم النقدية.
وفي “نظرية الفعل التواصلي” التي تجعل اللغة الفاعل الرئيس في المجتمع الإنساني، وأن الفعل سلوك إنساني ناتج من نية مسبقة، أو متصل بمعنى ذاتي ما، يشير فيها هابرماس إلى الأخلاق والقانون والسياسة والمجتمع وفق نظرة السلوك الاتصالي، إذ يسعى من خلالها إلى تشخيص الوضع العام في العالم وفي المجتمعات الإنسانية، محاولاً تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة اليومية للبشرية، معتمداً على توسعة العقلانية والنقدية في تدمير هياكل الاتصال في خصوصياتها الإنسانية المرتبطة بالقوى اللاعقلانية في عالم اليوم.
ومن المفيد أن نعرض النظرية بإيجاز شديد، إذ أنفق هابرماس ثلاث سنوات ما بين 1984-1987 في ما يطرحه بفلسفة اللغة، من أجل توسيع قاعدة النظرية النقدية. إذ يدعو فيها هابرماس إلى ضرورة التحرر من منظومة الفكر التجريبي، والتخلص من الفلسفة الأولى أو وفق ما يسميها “فلسفة الوعي” التي تنظر إلى العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الإنسان والعالم. إذ يرى هابرماس إمكانية تحليل الفعل والفهم الإنساني بدرجة فعالة ومفيدة مثل البنية اللغوية، إذ تعتمد كل عبارة على توقع التحرر من الهيمنة غير الضرورية.
كما يمكن استخدام هذه الهياكل أو البنيات اللغوية من أجل التواصل في تأسيس فهم معياري للمجتمع. وكذلك يمكن أن يتخذ الفعل صورتين، أحدهما، الفعل الموسع (الإستراتيجي) وهو الذي يتضمن الفعل الغائي العقلاني. أما الآخر، الفعل التواصلي فهو الذي يهدف للوصول إلى الفهم، والذي يترتب عليه ما يلي:
أولاً: العقلانية الموجودة في لغتنا ذاتها، وليست بمعناها المثالي السماوي، ولا باستخدام افتراضات وجودية خارقة للطبيعة، كما أن هذه العقلانية تستلزم نسقاً اجتماعياً ديمقراطياً لا يستبعد أحداً قط.
ثانياً: الأخلاق الكلية، وهي لا توجه نحو تحليل مضمون المعايير بقدر ما توجهه إلى طريقة التوصل إليها، وذلك من خلال الحوار الحر العقلاني. أي أنها بمثابة تشييد نظام أخلاقي ضمني.
ومن هنا، يرى هابرماس أن الرأسمالية الغربية يمكن أن تنحرف فتؤدي إلى كارثة، لكنها ليست شراً نحترز منه، وما علينا غير تفعيل المناقشة بدرجة حماسية كما كان الأمر مع كبار الجيل الأول في مدرسة فرانكفورت، أمثال ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوزه وإيرك فروم وغيرهم.
ودأب هابرماس على تطوير نظريته والتوسع فيها وفق أفعال الكلام والألسنة والمناقشات والحوارات العمومية، ومنحها تفسيرات اجتماعية وسياسية وقانونية، فمجال التواصل هو الفضاء العام وسُبل تكوين الرأي العام. بمعنى آخر، فإن المجال التواصلي هو الميدان الرئيس للتعبير عن الرأي الفكري والنقدي، وما يتفق عليه الجميع، خصوصاً بعدما احتلت وسائل الإعلام مجال التواصل الاجتماعي وشوهته من خلال سيطرتها على مضمونه وجعله سنداً داعماً للتنظيرات السياسية والمصالح الخاصة. لذلك، صار لزاماً وضع نظرية اجتماعية وثقافية تختص في مجال التواصل، وتسمح لنا بالشروع في تفكير عقلي ونقدي جديد ومستقل في تناول قضايا عصرنا الراهن.
وفي تطوير مفهومه إلى الفعل التواصلي، يرى هابرماس أن الأفعال التواصلية تعمل على تأدية عدة جوانب. أولها، تعمل على نقل وتجديد المعرفة الثقافية وفق عملية تحقيق التفاهم المتبادل بين الأطراف كافة. ثانيها، تقوم بتنسيق العمل نحو التكامل الاجتماعي والتضامن أيضاً. ثالثها، أنها العملية التي يقوم من خلالها الأشخاص بتكوين هوياتهم الفردية.
أن العلاقات التواصلية بين الأفراد والجماعات، يتخذها هابرماس قاعدة في فهم علم الاجتماع من جانب، والابتعاد عن المفاهيم التقليدية من جانب آخر. فالعلاقات التواصلية، عنده، لا يمكن اختزالها في تبادل الأخبار أو المعلومات أو المعطيات بواسطة اللغة، بل إن الفعل التواصلي يقوم بتأويل ما يحدث في حياتنا اليومية، ويسهم في بناء العالم المعاش من خلال التداول. ولهذا وضع هابرماس مفهوم أخلاق المحادثة الذي يعتمد على اللغة العادية، بوصفه مبدأ معيارياً نموذجياً في المجتمعات الديمقراطية. فالإنسان عندما يبدأ فعل التواصل في الحوار والنقاش، فإنه يُعبر عن قبوله بالاحتكام إلى معيار أخلاقي يخضع جميع الاختلافات إلى البراهين والأدلة التي تحقق الاجماع المنشود، وبذلك تنهض المناقشة على أساس عالمي وديمقراطي.
وعلى الرغم من الجهد الذي قدمه هابرماس، إذ تزيد أعماله على 50 كتاباً، لكن يؤخذ عليه أنه لم يتمكن من أثبات أولوية الفعل التواصلي على الفعل الموسع (الإستراتيجي). وكذلك رؤيته في الانعتاق والتحرر، إذ لم يستطع برهنتها عملياً، إضافة إلى محاولته النقدية بالتفرقة بين النقد والحياة اليومية، إذ قوضت وضع التحرر الذي يدعيه. ولكن هذا لا يمنع من القول إن هابرماس سعى بفلسفته إلى تأسيس أخلاق تواصلية ترتكز على مبدأ الاعتراف أو الانفتاح على الاتجاه الآخر، من دون الادعاء إن أحد الطرفين يمتلك وحده الحقيقة داخل فضاء عمومي مشترك بين الجميع. كما يمتاز هابرماس بتفاعل فكره مع حركة المجتمع والتاريخ، ولذلك امتد تأثيره من ألمانيا نحو الغرب وإلى العالم.
نقلا عن أندبندنت عربية