كريتر نت – DW
يريد الرئيس قيس سعيد وقف النزيف الاقتصادي حتى يطمئن التونسيون لقراراته المثيرة للجدل. الوضع في البلد بلغ حدودا تنذر بالكارثة، فمن تسبب فيه؟ ولماذا أخفقت مشاريع التنمية؟ وهل المصالحة تشكل حلا للبداية؟
يختلف التونسيون حول الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد وأسبابها وتداعياتها، خصوصا بعد قرار الرئيس قيس سعيد تجميد البرلمان وإقالة الحكومة، إلّا أن لا أحد منهم سيختلف حول حقيقة الوضع الاقتصادي المتدهور. ففي الوقت الذي نجحت فيه تونس ما بعد الثورة، في أن تكون منارة للانتقال السلمي للسلطة في المنطقة العربية، فقد أخفقت إلى الآن في خلق استقرار اقتصادي.
أرقام النزيف الاقتصادي واضحة، فنسبة التضخم ارتفعت إلى 5,7 بالمئة خلال شهر يونيو/ حزيران 2021، ونسبة النمو تعاني ضعفا منذ عام 2013. كما يغرق البلد في الديون، إذ يتجاوز حجم الدين العام 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكي تسدد القروض، لا حل لدى تونس سوى أن تأخذ قرضا جديدا، ما دفعها لبدء مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على 4 مليارات دولار، فيما تقترب نسبة البطالة من 18 بالمئة.
ولم تكن تونس محظوظة طوال السنوات العشر الأخيرة، فقد عاشت فترة عدم استقرار سياسي، وعانت كذلك من وضع أمني مقلق بسبب بعض العمليات الإرهابية التي أدت إلى تراجع السياحة كما وقع عام 2015، وما إن بدأت السياحة تستعيد بعضا من نشاطها حتى جاءت جائحة كورونا بتداعياتها المعروفة، وأدت إلى تدهور نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 إلى أسوأ معدل على الإطلاق منذ عام 1966، إذ بلغت ناقص 8,6 المئة حسب بيانات البنك الدولي.
استثمار دولي لم ينفع
في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، كان رئيس الحكومة آنذاك الشاب يوسف الشاهد، مسرورا وهو يعلن أن تونس تمكنت من جميع حوالي 15,4 مليار دولار، جلها على شكل تعهدات مالية من أكثر من 70 دولة ومنظمة مانحة، كما تم الإعلان عن استثمارات ضخمة من دول كفرنسا وقطر والإمارات وماليزيا.
كان هذا المؤتمر الذي أشرف عليه الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي جزءا من خطة تنموية لتونس ما بين 2016 و2020، غير أن الحصيلة في عام 2021 لم تبعث على السرور، إذ لم تتجاوز نسبة إنجاز المخطط 40 بالمئة حسب ما ذكرته رئيسة لجنة التنمية الجهوية بالبرلمان ابتهاج بن هلال لوكالة الأنباء المحلية، وذكرت أن أهم العراقيل هي عدم واقعية المشاريع أو عدم جدوى بعضها أو عدم توفر الاعتمادات اللازمة لإنجازها.
أعلنت الحكومة التونسية عن مخطط جديد، لكن طارق الكحلاوي، المدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية (ما بين 2012 و2014) يرى أن مشكل التخطيط يعود إلى عدم وجود رؤية مفصلة معلنة للرأي العام وإرادة لتنفيذها، مشيراً إلى أن المخطط التنموي “أصبح مجرد وثيقة انشائية شكلية بدون متابعة أو تنزيل ترتيبي وليس محور نقاش عام”، وأن الاقتصاد عموما لا يوجد ضمن مواضيع الاستقطاب السياسي.
نموذج اقتصادي ضعيف
يبرّر قيس سعيد الإجراءات التي اتخذها بكون “الاختيارات الاقتصادية الخاطئة” تسبّبت في ضغوط مالية كبيرة على البلاد، وبالنظر إلى النتائج في الواقع، فسعيد لم يجانب الصواب، لكن لماذا فشلت هذه الاختيارات؟
يتحدث الكحلاوي في تصريحات لـDW عربية عن أن مضمون الرؤى الاقتصادية الموجودة يبقى كلاسيكياً ولا يختلف عن اثنين: أولا الاستمرار في النموذج الذي أدى إلى حدوث الثورة، وهو الذي يعمق الهوة بين الفئات الاجتماعية والمناطق. ثانيا مشاريع قادمة من المانحين الدوليين خصوصا صندوق النقد الدولي يكتبها تقنيون أجانب غير متخصصين، وتطلب هدفاً متناقضا: إنهاء برامج اجتماعية والحد من الانفاق العمومي مقابل الحفاظ على الطبقة الوسطى وعدم التأثير سلباً على الفئات الفقيرة.
وهناك من يرى أن عدم الاستقرار السياسي في تونس ساهم في فشل مخططات التنمية بسبب كثرة الحكومات، فوزارة المالية لوحدها شهدت أكثر من 10 وزراء منذ الثورة، يختلف بعضهم عن سابقيهم في الاستراتيجية المتبعة. وهناك عامل آخر أن تونس عانت بعد الثورة من سلسلة إضرابات في كثير من القطاعات أوقفت سلسلة الإنتاج، كما أدت الاحتجاجات على البطالة إلى اضطرابات كما جرى في جزيرة قرقنة، من نتائجها مغادرة الشركة البريطانية بتروفاك للبلد.
من يتحمل مسؤولية الأخطاء؟
تشبه المسؤولية في تونس القول العربي الشهير “ضاع دمه بين القبائل”، بسبب كثرة الحكومات، وكذلك تغيّر سياسة كل رئيس على حدة والاتهامات فيما بينهم، خصوصا أن الوضع في تونس لم يتحسن كثيرا على مدار السنوات الماضية، وفي كل مرة تأتي ذكرى الثورة تحدث احتجاجات على البطالة.
لكن الكحلاوي يرى أن أسس تدهور الاقتصاد تعود أكثر إلى المرحلة التي سبقت انتخابات 2019، بسبب عدم اكتمال البرنامج التمويلي الذي بدأه صندوق النقد الدولي إثر عدم التزام حكومة يوسف الشاهد بتعهدات “البرامج الإصلاحية”، ثم طلب حكومة الياس الفخفاخ إنهاء البرنامج رسميا بهدف التفاوض على برنامج جديد في خضم مواجهة ازمة كوفيد-19 العام الماضي، ثم تباطؤ حكومة هشام المشيشي في إنجاز الاتفاق، ما جعل تونس غير قادرة على تعبئة موارد مالية من الخارج لتغطية العجز المالي المتفاقم.
وعموما يرى الكحلاوي أن الأطراف السياسية لم تأت بتصورات اقتصادية تستطيع إنجازها “بل انشغلت بالصراع من أجل الاستقطاب أو التموقع في الدولة بدون رؤية. وهكذا تم اهمال التحدي الاقتصادي والاجتماعي”.
ومن هذه الأطراف حركة النهضة، إذ يقول الكحلاوي: “عندما ننظر منذ 2011 فإن الطرف الأكثر حضوراً في السلطة هو حركة النهضة سواء كحزب أول أو ثاني لكنه فشل في الإصلاح. ولهذا هناك احتقان كبير مركز عليه، بما يفسر استهداف مقرات الحزب في الاحتجاجات الأخيرة”.
المصالحة.. حل للبداية؟
يعوّل الرئيس قيس سعيد على مشروع قانون جديد هدفه عقد صلح جزائي مع رجال الأعمال المتورطين في قضايا نهب المال مقابل إطلاقهم لمشاريع تنموية وتشغيل الشباب في أنحاء البلاد، وذلك في مسعى منه لعودة ما يعرف بالأموال المنهوبة التي تقدر حسب دوائر تونسية بـ4,8 مليار دولار. ويتهم قيس سعيد 460 شخصا بتهريب هذه الأموال إلى الخارج.
ومن أشهر الأموال المنهوبة، تلك التي أودعها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وأسرته في البنوك الأوروبية، ونجحت تونس في استعادة جزء بسيط منها، لكنها أخفقت في الإجراءات القانونية لاسترجاع المتبقي، وقدرت جمعيات سويسرية إجمالي هذه الأموال بما يصل إلى نحو 320 مليون يورو، بينما تقول السلطات السويسرية إن ما تبقى منها عام 2019 لم يتجاوز 49,9 مليون يورو.
يتفق الخبراء أن عودة الأموال المنهوبة لن تشكل حلا رئيسيا لمشاكل تونس، لكن ذلك سيتيح “استعادة الدولة ومؤسساتها للهيبة وتعبئة المواطنين لإقناعهم بأي يتوجه تقشفي يمكن أن يكون ضروريا لتعديل التوازنات المالية”، يتحدث الكحلاوي.
غير أن فكرة المصالحة ليست جديدة، فالبرلمان التونسي مرّر عام 2017 قانوناً يتيح عدم الملاحقة القضائية لموظفين متورطين في قضايا فساد إبان عهد بن علي. وأسقط القانون في المناقشات فكرة العفو عن أصحاب الأعمال المتورطين في الفساد، لكن قيس سعيد، وبعد تجميده للبرلمان، يريد إعادة هذا البند الذي رفضته المعارضة والجمعيات المدنية حينئذ بشدة، وكان الرئيس السابق الباجي قايد السبسي بدوره يعوّل عليه للمساهمة في إنقاذ البلد اقتصاديا.
وترفض الجمعيات المدنية أيّ تفكير في المصالحة بمبرّر أن هذا التوجه يزكي ثقافة الإفلات من العقاب ويتناقض مع جوهر دولة الحق والقانون التي وعدت بها تونس في فترة ما بعد الثورة، كما يتيح عودة رجال أعمال لم تستفد تونس منهم الشيء الكثير لما كانوا يمارسون أنشطتهم في البلد، بل ساهموا في نهب الأموال وتهريبها للخارج.