كتب : عماد الدين الجبوري
في الحلقة الماضية تناولنا الحرية الإنسانية عند ديكارت، فالحرية هي القدرة على فعل أو ترك الشيء نفسه من دون تمييز، والإنسان كائن حر لكنه معلول وعلته الله السابق عليه في الوجود، والله ألقى في عقل الإنسان أفكاراً فطرية تمكنه من المعرفة، ويوجد فينا نوعان من الفكر هما: إدراك الذهن وفعل الإرادة، وأن أعلى مراتب الكمال لدى الإنسان هو أنه حر الاختيار.
سبينوزا (1632-1677)
طور باروخ سبينوزا الفكرة التي طرحها ديكارت، “أن الله هو مصدر الحرية الإنسانية”، وبما أن رؤية سبينوزا حلولية إذ يؤمن بوحدة الوجود، لذا تجاوز فكرة ديكارت بأن الإنسان جوهر مفكر واع وممتد في الوقت ذاته على الطبيعة من دون سائر الموجودات. فبحسب تصور سبينوزا، لا يوجد شيء خارج نطاق الطبيعة التي هي “طابعة ومطبوعة” في آن. الأولى، تعني الإله الكائن الحر. والثانية، الكائنات الطبيعية غير الحرة. فالله هو الطبيعة، لكونه علة ذاته وعنه تنتج سائر العلل الأخرى، والطبيعة هي الله أيضاً، كونها طيعة ومتضمنة في سائر الموجودات من خلال صفتي الفكر والامتداد اللتين تعتبران صفتين للجوهر. وأن حرية الإنسان تجري وفق النسق الموجود في نظام الطبيعة العام.
بمعنى آخر، فإن حرية الإنسان محددة ومشروطة ضمن جوهر هذه الطبيعة اللامتناهي، والله هو الكائن اللامتناهي الذي يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية، والإنسان في حقيقة الأمر ليس أكثر من جزء لا يتجزأ ضمن سلسلة لا متناهية من العلل التي تحدده بحسب الوضعية التي يوجد فيها داخل نظام الطبيعة المحاط بالإرادة الإلهية، وبذلك يكون الإنسان فيه مجرد حال خاضع إلى قوانين الطبيعة، وتكمن حريته في هذا الخضوع، إنه شرط رئيس في تحقيق تحرره عبر هذا الانصياع والامتثال إلى الطبيعة.
وهكذا يحلل سبينوزا مشكلة الحرية بمنظور جديد، فالطبيعة أو الله هو أصل المصدر، وليست الطبيعة مهمشة معزولة عن الإنسان المفكر الواعي، بل الأخير إن هو إلا حال من أحوالها يسري عليه ما يسري على باقي الكائنات. وأن تعريف الحرية عنده، هو فعل مدفوع بعلية الضرورة. بيد أن هذه الضرورة ليست هي الضرورة الحتمية المتداولة في “الحس المشترك” بعلوم الأحياء والاقتصاد والاجتماع، التي تحيط بالفعل الإنساني، وإنما هي وحدة الوجود أو الإله الذي دعا للتوحد به لأن فيه وحده تكمن الحرية الفعلية والحقيقية، شرط الوعي بالانفعالات.
أما العلية، فهي من القوانين الجبرية التي تنظم الطبيعة تجاه الإنسان وجميع المخلوقات. وإذا كنا نتفاعل حينما يحدث في داخلنا أو خارجنا شيء نكون علته المطابقة، أي عندما يترتب عن طبيعتنا في ذواتنا أو خارجها شيء يمكننا فهمه بوضوح وتمييز من خلاله وحده، فإن سبينوزا يرى، أننا منفعلون عندما يحدث فينا شيء أو يترتب على طبيعتنا شيء لا نكون إلا علته الجزئية من دون أن يعني ذلك الخضوع الكلي إلى الضرورة، ولا التحرر من الذات، لأن العلل هي محددات في تشكيل أي فعل وسلوك إنساني، ومن خلال إدراكه ينفصل الحال فيصبح الإنسان حراً ويتحرر من عبودية الانفعالات.
وبهذا الطرح السبينوزي الذي يدحض وجود الروح قبل الجسد، ويلغي الأفكار الواردة في هذا الشأن من أفلاطون إلى ديكارت، فإنه ينفي أيضاً قدرة النفس الإنسانية على الفعل بشكل حر مطلق، بل فعل هامشي مشترط بالوعي في الأسباب. وهذا يعني، أن سبينوزا يجرد الإنسان من حرية الاختيار، وهو بذلك يقف في الطرف المضاد إلى المعتزلة وديكارت، وبجانب الغزالي؛ والبديل لحرية الاختيار هو مبدأ العلية، إذا وجدت علة ما معينة نتج عنها بالضرورة معلول ما، وعلى العكس، إذا لم توجد علة كان من المحال أن ينتج أي معلول.
وعليه، فإن حريتنا هي الحب الدائم والأزلي لله أو حب الله للبشر، إن “هذه المحبة تجاه الله هي أعظم خير يمكن أن نرغب فيه وفقاً لرغبات العقل، وهي مشتركة بين الناس جميعاً، ونرغب أن يتمتع بها الجميع. وبذلك، لا يمكن تدنيسها بشعور الحسد، ولا كسبها بشعور الغيرة والضعف، بل على العكس، يجب أن نعتز به كلما زاد عدد الأشخاص الذين ينعمون به”. (علم الأخلاق، طبعة إنجليزية).
وهذه المحبة التي يطلق عليها في الكتب المقدسة اسم المجد، بغض النظر إن كان مصدره الله أو النفس، ولتحقيق ذلك علينا أن نتوحد مع الطبيعة والانسلاخ من قبضة الانفعالات، التي يشكل الوعي بها حرية جزئية، والانتقال إلى الحرية الأعظم عبر التماهي والتوحد والالتصاق بالله فهو الكائن الحر الوحيد، وأنه الحرية الكونية المطلقة التي لا يتحكم فيها شيء، ولا يوجد شيء خارج الكون يرغمه على أن يكون حراً. إن القوانين والطبيعة والمادة هي المطلق الوحيد الحر الذي لا حدود له، ولا قيود عليه.
ومن هذا المنطلق، ارتكزت أفكار سبينوزا بقوة على الأخلاق، حتى أنه استهل الجزء الخامس والأخير من كتابه “علم الأخلاق” بهذه العبارة، “أنتقل أخيراً إلى هذا الجزء من علم الأخلاق، الذي يتعلق بالمنهج أو الطريقة التي تؤدي إلى الحرية” (المصدر نفسه). ومن أسباب هذا الاعتماد، أنه لم يستطع إثبات قوى الطبيعة المتنوعة، ومنها قوة الإنسان تجاه القوة الماورائية. وبذلك نظر إلى الإنسان كونه ظاهرة من بين الظواهر الطبيعية الأخرى، إذ يمكننا البحث فيها كسائر الظواهر الطبيعية المحيطة بالإنسان، فهو جزء لا يتجزأ من هذه الطبيعة. وعليه، فلا وجود حقيقياً للإرادة الإنسانية الحرة، لكي يختار الإنسان ما يفعل، فذلك وهم سقط فيه ديكارت.
رفض سبينوزا مفهوم الحرية السائد في عصره، إذ إن فعل الإنسان الحر ليس فعلاً ناتجاً من فعل الإرادة، بل هو ناتج عن نوازع الجسد والهوى ورغبات الذات والنفس، لا سيما أن “جميع الرغبات التي نحن مصممون على فعل أي شيء منها، يمكن أن تنشأ من أفكار تامة وغير تامة على حد سواء” (المصدر نفسه). فكما أن الطبيعة ليست معزولة عن الإنسان، فكذلك الجسد ليس معزولاً عن النفس، وأن الرغبة هي ماهية الإنسان، أنه كائن راغب وليس كائناً عارفاً، وأن نظام الأفكار هو نظام النوازع الجسدية ليس إلا. ولذلك، فإن النفس ليست جوهراً مستقلاً ومميزاً، وإنما صوت الجسد ذاته بتعبيراته العديدة.
إن إنكار سبينوزا إلى ثنائية الروح والجسد، وجعلهما ذات قيمة واحدة في فعل الإنسان الحر، قد خضت العقل الأوروبي ليفيق من غيبوبته الغارقة بعمق في ما هو ديني وماورائي في مشكلة حرية الإنسان. وقوله، إن “الإنسان الذي يسترشد بالعقل يكون أكثر حرية في دولة يعيش فيها، وفق القانون العام، منه في العزلة حيث يتبع أوامر نفسه”، (المصدر السابق نفسه). قد تبناها عمانوئيل كانط في فلسفته الأخلاقية.
نقلا عن أندبندنت عربية