كتب : أمين الزاوي كاتب ومفكر
أمام حجم الكراهية الذي تجاوز كل حجم، تجلّى ذلك في ما حدث في الجزائر وبالأساس في قرية الأربعاء ناث إيراثن بمنطقة القبائل حيث اغتيل الشاب الفنان جمال بن إسماعيل وحُرقت جثته في ساحة عمومية تُسمّى باسم منظر الثورة الجزائرية الشهيد عبان رمضان، كل ذلك تحت أعين الجماهير وكاميرات الهواتف النقالة التي كانت تصور المشهد ببرودة دم!
منظر يندى له الجبين، بخاصة حين نعلم بأن هذا الشاب الخلوق والإنساني جاء من مدينة مليانة (مدينة غرب الجزائر العاصمة) للمساعدة في إطفاء الحرائق التي اجتاحت منطقة القبائل، وأتت على آلاف الهكتارات من الغابات وحصدت في طريقها أزيد من سبعين ضحية بين مدينيين وعسكريين.
البلاد، جراء ذلك، وهذا ما كان يرغب به بعض رؤوس الفتنة الذين يقفون وراء هذا الاغتيال الهمجي الفرجوي، كانت ذاهبة إلى حرب أهلية بين الجهات، وبين الإثنيات التي تشكّل لحمة البلاد منذ قرون، كان سيحدث ذلك لولا حكمة أب الضحية، المواطن البسيط، الذي تصرف بطريقة ملائكية وكثير من الرويّة ورجاحة العقل، إذ دعا إلى التضامن والوحدة ونبذ الجهوية المريضة، تصرّف هذا الرجل كأب “للجزائر” لا كأب لجمال ابنه الذي فقده في هذا الاغتيال الوحشي القبيح، ومنحته الرابطة الأفريقية لحقوق الإنسان جائزة نلسون مانديلا للسلام لعام 2021 جراء هذا الموقف الذي جنّب الجزائر حرباً أهلية كانت تُعدّ في الخفاء.
الوضع هذا بكل دراميته واغتيال الشاب جمال بن إسماعيل بكل وحشيته التي لا توصف ولا يمكن أن يتّصف بها إنسان سوي، وفي شكل “فرجة قتل” تعود إلى تقاليد القرون البائدة، يجعلنا اليوم، وقبل أن نبدأ بإعادة تشجير الغابات المحترقة، نفكر في إعادة “تشجير” الإنسان، لأن من دون التفكير وبجرأة في الأسباب التي أنتجت مثل هذه “الكارثة” وهذا “التوحش” الدموي ومحاولة البحث وبكل جرأة أيضاً عن الاقتراحات لحلها، فإننا نكون “عالجنا” الأمر بماكياج سياسي أو أمني يزول مع أول مطر آتٍ مع أول حريق في الموسم المقبل.
لقد أنتج المجتمع تراكماً من الكراهية بمنسوب يجب مواجهته على جبهات عدة:
الكراهية المؤسسة على الاستعمال السياسي للدين
إن استعمال الدين في معارك سياسية بئيسة ونفعية، جعل المجتمع يعيش حالة من الفوضى، فالمساجد التي كانت أماكن الرحمة والطمأنينة والدعاء للخير والتراحم، تحوّلت إلى مقار حزبية ومنابر دعائية، تجنّد طرفاً ضد طرف آخر، وتكفّر طرفاً وتعطي صكوك الغفران إلى طرف آخر، وتسبب الوضع هذا في إنتاج الـ”خوف” من هذا الإنسان الذي نصّب نفسه حارساً لله، أصبح كثير من الذين يرتادون المساجد لا طاعة لله بل خوفاً من الإنسان السياسي باسم الدين أو طمعاً في تسلّق من هذا السلم، ونتج من ذلك أيضاً “نفاق ديني” بحيث تجلى ذلك، مثلاً، في تغيير اللباس من دون تغيير القلوب، بل بدا الأمر وكأن الجميع في “حفل تنكري” تحت شعار ديني، ونتج من ذلك أيضاً “نفاق سياسي” بحيث ونظراً إلى الخوف وسعياً لجرّ الجمهور، بدأت الأحزاب المسماة ديمقراطية هي نفسها تستثمر في الخطاب الديني وهو ما زاد من حصار “العقل” وزاد من منسوب النفاق واختلط الأمر على المواطن البسيط.
أمام هذا الوضع المتردي دينياً وسياسياً، علينا وبكل شجاعة، العودة إلى الدستور الذي يدعو إلى رفض كل حزب مؤسس على نعرة دينية أو جهوية ومحاولة متابعة الأحزاب على مستوى ممارساتها لا على مستوى “قانونها الداخلي” الذي هو عبارة عن “تقية” إدارية وقانونية.
وأمام هذا الوضع ولتجنّب الاستثمار في الدين سياسياً وحماية للثقافة الروحية النظيفة التي يسمو بها الدين الإسلامي، وحماية أيضاً لحرية المواطن في التوجه مباشرة إلى الله في صلاته الفردية من دون المرور عن طريق “الحزب” أو “الجماعة” أو “الجمعية”، يجب الاستئناس بـ “العلمانية” في إدارة شؤون البلاد، أي فصل الدين الذي يندرج في ثقافة السموّ عن السياسة التي هي أمور بذيئة وقابلة للكذب والمراوغة، ما سيجنّب الدين والمتدين وغير المتدين السقوط في ممارسات الابتذال والنفاق.
الكراهية المؤسسة على العرقية
وهي الكراهية التي تتأسس مع النشأة الاجتماعية للفرد المنتمي لأوساط الأقليات والأكثريات أيضاً، فمعيار “الشريف” و”النسب” و”الأقدمية” التي تتأسس كثقافة في المجتمع الذي يخاف من “تدريس” تاريخه بكل شفافية، بمراحله المظلمة والمنيرة على حد سواء لنفض غبار النسيان وتوضيح المسار المؤمن نحو المستقبل في مسيرة وطنية شاملة لا “أقلية” ولا “أكثرية”.
وتتجذر مثل هذه الكراهية العرقية نتيجة غياب الديمقراطية وغياب حرية التعبير وغلق فضاءات الحوار الثقافي المسؤول والمؤسس على المعرفة، بعيداً من بؤس الأيديولوجيا، وإبعاد الأحزاب عن تدنيس التاريخ أو محاولة السطو عليه وتأميمه لصالح هذا الحزب أو ذاك.
ولتجنّب مرض الكراهية العرقية، يجب الترويج والدفاع المستميت، وهذه من مهمات المثقفين العقلانيين، عن أولوية “المواطنة” قبل “العرق” أو “الجهة” أو “العقيدة”، فالمواطنة هي الثقافة التي يجب أن يحملها الفرد وتدافع عنها وتثمرها الجماعة في المدينة أو القرية أو المؤسسة، فلا عبقرية ولا تفوق إلا في ظل احترام المواطنة، ولا ترقية ولا تنافس إلا باحترام المواطنة أوّلاً، بهذا فاحترام فلسفة المواطنة والدفاع عنها هي القادرة على حراسة الأوطان من أمراض الكراهية العرقية.
كراهية الآخر
وهذه الكراهية تتكرس في المجتمع من خلال أمرين، أولهما العلاقة التاريخية التي تربط بعض البلدان بالاستعمار الكلاسيكي الذي كان يستوطنها، كحال الجزائر مع فرنسا، وهي عقدة لم تستطِع الأنظمة السياسية المتعاقبة على مدى ستين عاماً، في الجزائر كما في فرنسا، من تجاوزها أو طي صفحتها، من دون تمزيقها، ما يجعل هذه الكراهية قائمة في الثقافة السياسية وفي السلوك الفردي والجمعي، وهو سلوك يبدو متناقضاً، فالجزائري حين تضيق به الأمور الاجتماعية أو السياسية أو الصحية، يفكر في الخلاص بالالتجاء إلى هذا “المكروه”، والفرنسي لا يزال يملك شعوراً “نوستالجياً” بالعودة إلى الوراء واسترجاع أيام الآباء والأجداد المعمرين. وأما الأمر الثاني، فهو ما تروّج له الأنظمة كلما تعرضت لهزّات سياسية أو اجتماعية داخلية من قبل مواطنيها بالإلقاء باللائمة على “العدو الخارجي” أو ما يُسمّى بنظرية “اليد الخارجية” أو “المؤامرة الخارجية”، فتحويل الانتباه عن مشكلة مفصلية نتجت من خلل أو سوء تسيير ذاتي داخلي أو فساد، تُرمى التهم ضد “عدو” وهمي خارجي يُحضّر له بعناية.
ولمواجهة كراهية الآخر يجب أن تلعب المنظومة المدرسية والجامعية في تقوية تدريس اللغات الأجنبية لمساعدة الأجيال الآتية على قراءة أدب وثقافة وفكر وتاريخ هذا “الآخر” في متونه الأصلية وبلغته الأصلية أيضاً، كما على هذه المنظومة التربوية والجامعية أن تقدّم نصوصاً قادرة على تقديم الموضوعي عن هذا “الآخر”، وتلعب الثقافة والفنون دوراً مركزياً في تهذيب المشاعر تجاه الآخر وإعادة النظر في أحكام جاهزة قبيحة وافدة من السياسي والأيديولوجي، وذلك بتقديم ثقافة وفنون هذا الآخر من سينما ومسرح وموسيقى وكتب وفن تشكيلي وغيره لجعل الجيل الجديد أمام مشهد صادق وصحيح لهذا “الآخر” من خلال الإبداع الذي هو روح الشعوب.
الكراهية التي ينتجها القاموس اللغوي
نتيجة لتدنّي المستوى الثقافي في مجتمعاتنا، فاللغة المستعملة عادة ما تكون حاملة لكثير من التعابير المشحونة بأنفاس “الكراهية”، كراهية الحياة وكراهية الجار وكراهية الزميل وكراهية المنافس وكراهية المرأة. وأعتقد أن اللغة التي تحمل شحنة كراهية أكبر هي اللغة التي يستعملها مجتمع تغيب فيه الثقافة والأخلاق والقراءة، ويسود فيه العنف وتصفية الحسابات. وكلما كان المجتمع في لحظة عبور أزمة، زاد الأفراد في إبداع “قاموس” الكراهية أكثر، ويعود انتشار هذا القاموس المؤسس داخل الكراهية ولها إلى سبب انغلاق المجتمع وتقييد الحريات وأيضاً إلى طغيان “الفردانية” المريضة التي تخاف من “الجماعة” الإيجابية.
وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة “للحمقى” بأن أصبحوا “يناقشون” المتخصصين في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والصحة من دون رادع ولا وازع. إن هذه الفوضى في التواصل الميسّرة للجميع جعلت من قاصري الفكر والثقافة يعتمدون قاموس الكراهية لتثبيت وجود ولتشويه ما يعتقدونه خصماً.
أمام هذا ولمحاربة ظاهرة “القاموس اللغوي الحامل للكراهية”، يجب إعادة النظر في علاقة “اللغة الفصحى” باللغات العامية وكيف تستطيع الفصحى الرسمية الاستفادة من عبقريات العاميات، بالتالي تقليص المسافة ما بين “لغة المدرسة” الرسمية ولغة “الشارع” الاجتماعية، وهذا دور يجب أن يلعبه مفكرو اللغة وعلماء اجتماع اللغة، كما يجب إعادة النظر في فلسفة الأخلاق المرتبطة باستعمال “وسائل التواصل الاجتماعي”.
نقلا عن أندبندنت عربية