الحرية هي شرط وجود الأخلاق عند عمانوئيل كانط
كتب : عماد الدين الجبوري
في الحلقة السادسة، عرضنا فلسفة سبينوزا في مشكلة الحرية، إذ “إن الله هو مصدر الحرية الإنسانية”، وبذلك يتجاوز فكرة ديكارت بأن الإنسان جوهر مفكر واع، وممتد على الطبيعة من دون سائر الموجودات، فلا يوجد شيء خارج نطاق الطبيعة التي هي الله، والله هو الطبيعة، وأن حرية الإنسان تجري وفق النسق الموجود في نظام الطبيعة العام.
كانت (1724-1804)
ينص عمانوئيل كانط على أن الحرية هي شرط وجود الأخلاق، إذ لا يمكن تأدية فعل أخلاقي من دون حرية الاختيار، سواء كان ذلك الفعل الاختياري أخلاقياً أو غير أخلاقي، خيراً أو شراً، كما أنه يستمد من إرادة فعل الفرد الذاتية، فإذا تحول إلى فعل جماعي تلاشت منه الحرية. ومن خلال الإرادة الحرة التي يمتلكها الإنسان، يستطيع أن يتجاوز الغرائز والانحرافات ليصل إلى مستوى السلوك الأخلاقي الحر، لذلك تعد الحرية من القوى العظيمة في الحياة البشرية، وأنها الجوهر الإنساني، ولهذا عليه أن يتحمل وحده مسؤولية خاصة من دون سائر الكائنات الأخرى غير الحرة والخاضعة لظواهر الواقع الموضوعي بشكل تام.
بيد أن الفعل الأخلاقي الذي يقوم على حرية الاختيار يقترن بالواجب أيضاً، وبحسب رأي كانت، فإن الواجب هو عصب الأخلاق، لأنه الشعور بالالتزام تجاه المبادئ، والمحفز في تنفيذ ما توجبه الأخلاق، كما أن الواجب مرتبط بالإرادة الخيرة دوماً، وعلى الرغم من كونه ملزماً، لكنه لا يحد من الحرية، لأن فعل الواجب نفسه لا يمكن أن يكون ممكناً إلا بالحرية، لذا كيف يتسنى لنا أن نستدل على فكرة الواجب ذاتياً، إن لم نكن نشعر بأنفسنا أننا أحرار. إذ لو لم نكن أحراراً باختيار هذا الفعل أو تركه لما كان للأخلاق أي معنى، وكنا مجبولين على نمط واحد من الفعل الذي نؤدي من خلاله أعمالاً معينة من دون أوامر وقيم ومبادئ، ما يجعل الأخلاق معدومة. وعلى الرغم من أن الأخلاق هي السبب في معرفتنا بالحرية، لكن تبقى الحرية الشرط الأساس في وجود الأخلاق.
وهكذا يرى كانط، أن فكرة فعل الواجب الذاتي هي مبدأ الأخلاق، الذي هو مبدأ الحرية أيضاً، ويعني به قدرة المرء على حسن التصرف تحت قوانين موضوعية يتبناها بنفسه وعبر تفكيره الحر والمعزول عن أي شروط موضوعية خارج ذاته. إذ من طريق الأخلاق يكون هدف الإنسان هو الحرية، وكذلك تشعرنا الأخلاق بانتمائنا الفعلي للحرية.
بمعنى ثان، يكمن فعل الحرية في قدرة الإنسان الشخصية على التعامل مع قوانين وضعها بنفسه ويستجيب لها من دون أي شرط خارجي، فالإنسان كائن حر بمقدوره أن يتجاوز مستوى الغريزة والتسامي إلى مستوى السلوك الأخلاقي، إنه حيوان أخلاقي يمتلك حرية الاختيار، لذلك تقع عليه مسؤولية أخلاقية خاصة، فمبدأ الأخلاق هو مبدأ الحرية على حد سواء.
وفي كتابه “تأسيس ماورائية الأخلاق”، يشرح كانط بإسهاب عن مفهوم الحرية كونها خاصية ذاتية يتميز بها الإنسان عن باقي الكائنات غير العاقلة، فالحرية ليست صفة الإرادة وفقاً إلى قوانين الطبيعة، وإنما خاصية لقوانين ثابتة من نوع خاص، وإلا ستكون الإرادة الحرة شيئاً غامضاً. كما لا يمكن أن تكون حرية الإرادة إلا استقلالية، وخاصية تمتلكها الإرادة لكونها قانوناً لنفسها. وبذلك، فإن الإرادة الحرة والإرادة الخاضعة للقوانين الأخلاقية هما الشيء نفسه. فإذا كانت حرية الإرادة مفترضة مسبقاً، فإن الأخلاق ومبدأها تتبع تحليل مفهوم الحرية فحسب، مع أن مبدأ الأخلاق هو افتراض تركيبي، بمعنى أن النيات الحسنة المطلقة هي التي يمكن أن تكون مع مبدئها نفسه مضموناً دائماً عندما يُنظر إلى هذا المبدأ باعتباره قانوناً عالمياً، فهو تركيبي لأن هذه الخاصية لمبدأ الإرادة لا يمكن العثور عليها من خلال تحليل مفهوم الإرادة الخيرة المطلقة. وأن هذه الافتراضات التركيبية ممكنة فقط إذا ارتبط اثنان من الإدراك ببعضهما بعضاً من خلال ارتباطهما مع ثالث، بحيث يمكن العثور على كليهما، ويقدم المفهوم الإيجابي للحرية هذا الإدراك الثالث، الذي لا يمكن، كما هي الحال مع الأسباب المادية، أن يكون طبيعة عالم المعنى الذي يجمع مفهومه بين مفهوم الشيء كسبب في ما يتعلق بشيء آخر كعلة. وهنا، لا يمكننا حتى أن نظهر على الفور ما هو هذا الإدراك الثالث، وما يسببه تجاه الحرية التي لدينا فكرة مسبقة عنها، كما لا يمكننا حتى أن نتصور استنتاج مفهوم الحرية من العقل العملي الخالص، ومن ثم إمكانية وجود ضرورة حتمية، بدلاً من ذلك، نحن بحاجة إلى مزيد من التحضيرات لكي نصل إلى مفهوم الحرية. (الطبعة الإنجليزية).
وكذلك يرى كانط، أن “المصير النهائي للجنس البشري هو أعظم كمال أخلاقي، بشرط أن يتحقق من خلال الحرية البشرية، حيث يكون الإنسان وحده قادراً على تحقيق أكبر قدر من السعادة. وكان من الممكن أن يجعل الله البشر كاملين، ويعطي كل واحد منهم شعوره بالسعادة، لكن السعادة عندئذ لم تكن لتشتق من المبدأ الداخلي للعالم، لأن المبدأ الداخلي للعالم هو الحرية. وبناءً على ذلك، فإن الغاية أن يحقق الإنسان كماله التام من خلال حريته الخاصة. إن إرادة الله ليست مجرد أننا يجب أن نكون سعداء، بل أن نجعل أنفسنا سعداء، وهذه هي الأخلاق الحقيقية. إن الغاية الكونية للبشرية هي أعلى كمال أخلاقي، إذا أمرنا جميعاً بأن يكون سلوكنا منسجماً مع الغاية الكونية للبشرية، فسيتم بلوغ أعلى مستوى من الكمال. لذلك، يجب على كل واحد منا أن يسعى لتوجيه سلوكنا إلى هذا الأمر، ويجب على كل واحد منا أن يقدم إسهاماً خاصاً به، بحيث إذا أسهم الجميع بالمثل فإن النتيجة ستكون الكمال”. (محاضرات في علم الأخلاق، طبعة إنجليزية).
ويوضح كانط أيضاً، “أن مفهوم القانون الخارجي بشكل عام مستمد بالكامل من مفهوم الحرية في العلاقات الخارجية بين البشر، وليس له أي علاقة على الإطلاق بالغايات التي يمتلكها الإنسان من الطبيعة (هدف تحقيق السعادة)، أو مع تحديد وسائل تحقيقها، وبذلك لا يجب أبداً خلط هذه الغايات الأخيرة كأسباب محددة مع تلك القوانين. القانون هو تقييد حرية كل شخص بحيث تتوافق مع حرية الجميع، بقدر ما يكون ذلك ممكناً وفقاً للعالم والقانون والحق العام، هو مجموع القوانين الخارجية التي تجعل مثل هذا التوافق الشامل ممكناً”. (السلام الدائم ومقالات أخرى، طبعة إنجليزية).
صفوة القول، إن الحرية هي المصدر الذي تنطلق منه المعلولات، إذ لا توجد علة سابقة عليها، كما أنها ليست خاضعة لقوانين الطبيعة، فالأشياء في ذواتها ونجهل كنهها، بحسب مفهوم كانت، وأن ذواتنا تنقسم إلى قسمين: أنا ظاهرية تجريبية خاضعة لقوانين الطبيعة، وأنا ظاهرية متعالية غير خاضعة لقوانين الطبيعة، وتكون الحرية من صميم خواصها. وهدف كانت من جميع هذه الأفكار أن يثبت بأن الإنسان كائن حر أخلاقي، يراعي قوانين الطبيعة ويطيع القوانين التي هو يضعها، فأصاب في جوانب وخاب في جوانب أخرى، لا سيما أنه يقول بما يلي:
“لا يكفي أن ننسب الحرية إلى إرادتنا على أي أساس، إذا لم يكن لدينا أيضاً سبب كاف لإسنادها إلى جميع الكائنات العقلانية، لأنه بقدر ما تخدم الأخلاق كقوانين بالنسبة إلينا، بقدر ما نحن كائنات عقلانية فحسب، فيجب أن تكون صالحة لجميع الكائنات العقلانية أيضاً. وبما أن الأخلاق يجب أن تُستمد من خاصية الحرية فقط، يجب على المرء أن يُظهر أن الحرية هي كذلك خاصية لإرادة جميع الكائنات العقلانية. فلا يكفي إثبات الحرية من بعض التجارب المزعومة من الطبيعة البشرية (مثل هذا الدليل مستحيل تماماً، وبناءً على ذلك، لا يمكن إثبات الحرية إلا بداهة). بالأحرى، يجب على المرء أن يُظهر أن الحرية تنتمي بشكل عام إلى نشاط الكائنات العقلانية الموهوبة بالإرادة”. (الفلسفة الأخلاقية، طبعة إنجليزية).
إن فلسفة الحرية عند كانت تشوبها بعض التناقضات، لذلك حاول هيغل أن يتغلب عليها وفق فكرة وحدة انسجام الأضداد.
نقلا عن أندبندنت عربية