كتب : د. محمد علي السقاف
شهدت تونس في البداية أزمة على أثر القرارات الجريئة والإصلاحية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو (تموز) الماضي بتجميد أعمال البرلمان لمدة 30 يوماً، وتعليق حصانة النواب، وإقالة رئيس الحكومة من مهامه، وتنصيب نفسه النائب العام للبلاد، وإعلان عزمه تعيين رئيس وزراء جديد مكلف تأليف حكومة جديدة.
أثارت تلك القرارات انتقادات ومخاوف لدى بعض الأطراف الداخلية والخارجية حيث زعمت بعض الأوساط الحزبية على مستوى حزب النهضة الإسلامي بأنها تعد بمثابة انقلاب على الدستور، الأمر الذي نفاه بشدة الرئيس التونسي. فقد نقلت الرئاسة عن سعيد، وهو أستاذ سابق للقانون الدستوري قوله: «أعلم جيداً النصوص الدستورية واحترامها، ودرّستها، وليس بعد هذه المدة كلها سأتحول إلى ديكتاتور كما قال البعض». والتقطت المجلة الفرنسية «لوبوان» هذا التصريح ورأت فيه مقاربة بما قاله سابقاً الجنرال شارل ديغول زعيم فرنسا السابق حين أجاب في مؤتمر صحافي على الفقيه الدستوري موريس ديفيرجيه حين سأله إذا كان شارل ديغول مستعداً لضمان الحريات العامة الأساسية إثر عودته إلى السلطة في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، فقال: «لماذا بإمكانكم تصور أن أبدأ وأنا في سن السابعة والستين ممارسة مهنة الديكتاتور؟».
والرئيس قيس سعيد البالغ من العمر 63 عاماً أراد بردّه على ادعاءات خصومه بأنه ليس في هذه السن سيبدأ بالتحول إلى ديكتاتور تونس، مما يطرح السؤال حول تعريف الديكتاتور، وما الديكتاتورية وظاهرة ممارسة بعض الحكام الديكتاتورية في سن مبكرة.
أصل كلمة الديكتاتورية يرجع إلى المصطلح اللاتيني ديكتاتور، حيث إبان الإمبراطورية الرومانية كانت بعض الأحداث والأزمات السياسية تفرض على مسؤولي الدولة تولي أحد القضاة مقاليد السلطة بشكل استثنائي ومؤقت تلغى أمامه كافة القيود الدستورية المعمول بها وقتها، ليُمنح هذا القاضي سلطة مطلقة في إدارة البلاد، وكان يطلق على هذا القاضي المؤقت بهذه الصلاحيات المخوّلة له اسم ديكتاتور.
وبرصد أشهر ديكتاتوريي الحرب العالمية الثانية أمثال موسوليني، وهتلر، وفرانكو، سيلاحَظ أنهم مارسوا الديكتاتورية في مقتبل العمر.
فقد وُلد بينيتو موسوليني في يوليو 1883 واتسم نظامه بالفاشية في فترة حكمه إيطاليا (1922 – 1943) وهو في سن 29 عاماً وتوفي وهو في سن الـ60، في حين وُلد أدولف هتلر زعيم ألمانيا النازية عام 1889 وأصبح مستشار ألمانيا في عام 1933 وتوفي في برلين عام 1945، مما يعني أنه وصل إلى السلطة وهو في سن 44 وتوفي وهو في سن 56 عاماً. أما ما يتعلق بالحالة الإسبانية فقد وُلد ديكتاتور إسبانيا فرانشيسكو فرانكو عام 1892 وقام عام 1939 بالإطاحة بالجمهورية الإسبانية الثانية التي أدت إلى الحرب الأهلية، وبانتصاره حكم بعد ذلك حكماً ديكتاتورياً بدءاً من 1939 حتى وفاته سنة 1975. وإلى جانب ديكتاتورية الفرد هناك ديكتاتورية الحزب أمثال تجربتي جوزيف ستالين وماو تسي تونغ لقيادتهما الحزبين الشيوعيين في كل من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية.
وشهدت فترة الستينات مع موجة استقلال عدد كبير من دول العالم الثالث من قبضة الاستعمار الغربي ظاهرة الانقلابات العسكرية التي مكّنت بعض القادة في أميركا اللاتينية وفي دول القارة السمراء الاستيلاء على زمام السلطة والحكم بشكل مطلق من دون أي قيود قانونية أو دستورية.
ويرى بعض المحللين والمراقبين استمرارية بعض الأنظمة الديكتاتورية السابقة في القرن الـ21 سواء من خلال الديكتاتورية الحزبية لنظام الحزب الواحد الذي يهمين فيه الأمين العام للحزب على معظم السلطات كما هو الحال في الصين الحديثة، أو من خلال الفرد كما في روسيا الاتحادية عبر تجديد آلية التعديلات الدستورية.
من الواضح مما أشرنا إليه أعلاه أن بروز ظاهرة الديكتاتورية في بعض الدول ليس حصرياً على الدول ذات الأنظمة الشمولية، وإنما أيضاً امتدت إلى بعض الأنظمة الديمقراطية ببروز ظاهرة «الشعبوية»، وهذا أمر يهم علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة ورجل القانون وقد درسها منذ نهاية الخمسينات الفيلسوف الفرنسي ريمون آرون في محاضراته في جامعة السوربون في باريس وأعاد تحديثها وطباعتها في كتابه الكلاسيكي «الديمقراطية والشمولية».
بالنسبة إلى ريمون آرون فإن التحليل الفلسفي يهتم بتقييم مزايا الأنظمة السياسية أيها أفضل من الآخر، ومدى شرعية نظام عن الآخر، بينما علم الاجتماع يهتم بدراسة واقع الأنظمة كما هي من دون إجراء تقييم لها، في حين الدراسة القانونية تركز على دراسة نصوص الدستور في كيفية اختيار الحكام، وكيفية التصويت على القوانين، والمراسيم، فرجل القانون يحلل مدى توافق حدث ما مع نصوص الدستور، وطريقة تطبيقها في بلد ما، ومن جانب آخر يهتم علم الاجتماع بأخذ القواعد الدستورية كأحد عناصر التحليل من بين عناصر أخرى، حيث يولي أيضاً اهتماماً لدراسة تشكيلات الأحزاب السياسية ومجموعات المصالح المؤثرة في البلاد، وقواعد اللعبة السياسية، والأخذ في عين الاعتبار نصوص الدستور المكتوبة وتطبيقها على أرض الواقع التي تتحكم في داخل حياة الأحزاب السياسية.
والآن إذا أخذنا في الاعتبار تلك التقسيمات التي ذكرها البروفسور دي فيرجيه، معياري التفسير القانوني وعلم الاجتماع السياسي، وطبقناها في الحالة التونسية على شخصية الرئيس قيس سعيد سنلاحظ ما يلي:
أن الرئيس سعيد – كما أشار إليه هو شخصياً – ليس في هذه السن المتقدمة يمكن أن يكون ديكتاتورياً، وهو نفس المنحى الذي صرّح به قبله الجنرال ديغول في فرنسا، إضافةً إلى أن الرئيس التونسي لا ينطبق عليه تعريف مصطلح الديكتاتور الذي تمت الإشارة إليه أعلاه.
أن الرئيس سعيد شخصية مستقلة ووصل إلى الرئاسة عبر الانتخاب المباشر من الشعب التونسي بأغلبية ساحقة من الأصوات والقطاع الأكبر ممن صوّتوا له هم من الشباب، أي يمثلون رؤية الجيل الحديث المتعلم والمثقف، جيل الثورة والسوشيال ميديا الذي اعتمد عليهم سعيد في الترويج لأفكاره والدعاية له ولم يحظَ مثل بقية المرشحين المدعومين من أحزابهم بإمكانياتهم المالية الضخمة.
جميع القرارات التي اتخذها استندت إلى نصوص الدستور، كما أوضحنا سابقاً في مقال لنا في هذه الصحيفة بتاريخ الأول من أغسطس (آب) الحالي، وأجرينا مقاربة بين الفصل الثامن من الدستور التونسي والمادة 16 من الدستور الفرنسي فيما يخص السلطات الاستثنائية التي يحق لرئيس الجمهورية اتخاذها في حالة خطر داهم مهدِّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، ومنها اتخذ الرئيس سعيد قراراته بتاريخ 25 يوليو الماضي والتي أثارت هذا اللغط خصوصاً من حزب «النهضة» ذي التوجه الإسلامي، والذي وجهت إليه عدة أطراف مسؤولية اغتيال بعض النشطاء الحقوقيين التونسيين ويجري التحقيق بشأنها.
حرص الرئيس التونسي في كل القرارات التي يثير بعضها الجدل في إطار المناكفات السياسية من بعض الأحزاب السياسية ضده يؤكد دوماً أنها قرارات اتُّخذت وفق القوانين النافذة ولا يفسِّر مسؤول قراراته هكذا إذا كانت لديه نزعة ديكتاتورية.
نقلا عن الشرق الأوسط