كريتر نت – العربي الجديد – زكريا الكمالي
يحاول رواد مواقع التواصل الاجتماعي، في مدينة تعز اليمنية، تصحيح الصورة المرسومة عن الإعلام الحديث، عبر تحويلها من منصات لنشر ثقافة الكراهية والمعلومات المضلّلة، إلى تجمع شعبي لمراقبة الأداء الهشّ للحكومة، وتحويل “الأحداث” إلى قضايا رأي عام.
طيلة سنوات الحرب الماضية، سخّرت السلطات والفصائل المسلحة المسيطرة على المدن اليمنية شمالاً وجنوباً، وسائل التواصل الاجتماعي لتعميق الانقسام بين اليمنيين وتكريس الحقائق البديلة التي يتم ضخها بشكل مكثف على الجمهور، من فئة أخبار كاذبة ومعلومات مضللة يتعامل معها الناس باعتبارها حقائق دامغة.
في مدينتي صنعاء وعدن، أدّت القبضة الحديدية المفروضة من جماعة الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي إلى تواري الأصوات الناقدة للوضع بشكل تام، خشيةً من الاعتقال والإخفاء القسري، وفي “أحسن” الأحوال، تحوّل آخرون إلى الكتابة بأسماء مستعارة، فيما حظي ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي في مدينة تعز بهامش نسبي من حرية مراقبة أداء السلطات التابعة للحكومة المعترف بها دولياً.
وعبر تلك المنصّات، تحضر القضايا الحقوقيّة والإنسانية فقط بالنسبة للناشطين القاطنين في العاصمة صنعاء الخاضعة للحوثيين، حيث باتت حملة إلكترونية سابقة ضد مرتكبي جريمة قتل عامل في محل لبيع الهواتف النقالة قبل نحو عام، قريبةً من تحقيق أهدافها بإعدام الجناة الأربعة.
وخلافاً لصنعاء وعدن، لا سقف للحملات التي يطلقها الناشطون في تعز على مواقع التواصل الاجتماعي. تحضر كافة قضايا المدينة التي يحاصرها الحوثيون، سواء في المجال السياسي أو العسكري والأمني أو الاقتصادي، كما ساهمت إدارة المحافظ نبيل شمسان لمهامه عن بُعد من خارج اليمن، في ولادة قضايا ساخنة بشكل شبه يومي.
القبضة الحديدية المفروضة من جماعة الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي في مدينتي صنعاء وعدن أدّت إلى تواري الأصوات الناقدة للوضع بشكل تام
تكوين رأي عام
كشفت الانتهاكات التي تعرضت لها، أخيراً، إحدى الأسر في مدينة تعز من قبل عصابة مسلّحة ينتمي بعض أفرادها إلى المؤسسة العسكرية والأمنية، عن الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه وسائل التواصل في تحويل الانتهاكات غير المرئية منذ سنوات إلى قضايا رأي عام تُجبر السلطات على التحرك السريع لتحقيق العدالة. للمرة الأولى، ساهم الحراك الإلكتروني الواسع الذي نفّذه الناشطون في التأثير على دوائر القرار الحكومية، حيث ظهرت ردود فعل من رئيس الحكومة معين عبد الملك، والنائب العام، وبرلمانيين، طالبت جميعها بوضع حد للانفلات الأمني ومعاقبة الجناة، أياً كانوا، الأمر الذي جعل المسؤولين الأمنيين في مدينة تعز يشعرون بالانزعاج مما يحدث.
في حديثه لقناة “عدن” الحكومية، هذا الأسبوع، حاول مدير شرطة تعز منصور الأكحلي التنصّل من اتهامات بوجود اختلالات أمنية داخل المدينة بالصورة التي تقدمها وسائل التواصل، وأرجع السخط الشعبي الحاصل ضد السلطات إلى ما وصفهم بـ”المفسبكين”، الذين يقومون بتضخيم الأمور بشكل غير طبيعي، حسب تعبيره. شنّ المسؤول الأمني حملة تحريض على ناشطي السوشيال ميديا، عندما قال إن مواقع التواصل الاجتماعي “بدلاً من أن تُكرّس لدعم الاستقرار تتحول إلى نوع من المزايدات”. واستند في تلك الاتهامات إلى ظهور مقطع صوتي زعم ناشطون أنه لسيدة من أسرة الحرق تشكو مما تعرض له منزلها من انتهاكات وتهاجم الجيش والأمن، الأمر الذي نفته الأسرة في وقت لاحق، قائلةً إن المقاطع المتداولة مفبركة.
ترجمت فصائل مسلحة تحريض مدير شرطة تعز على الناشطين، ونفذت حملة ملاحقة طاولت الصحافيين نائف الوافي وطه صالح، اللذين تعرضا لملاحقة ومداهمة منزليهما في مدينة تعز من قبل عناصر مسلحة، وفقاً لبيان أصدرته نقابة الصحافيين اليمنيين، ونددت فيه بأساليب التخويف ومحاولة تكميم الأفواه. لكن إدارة شرطة تعز نفت في المقابل، وجود أي أوامر قبض قهرية بحقهما.
وفقًا للمتحدث باسم شرطة تعز أسامة الشرعبي، فإن الأجهزة الأمنية لم ترفع أي قضية على ناشط سياسي أو حقوقي رغم أن القانون يتيح لها ذلك، مرجعاً ذلك إلى حساسية المرحلة والوضع الحرج الذي تعيشه المدينة. وفيما أشار إلى أن هامش الحرية مرتفع إلى درجة أنه بمقدور الناشطين انتقاد و”جلد” أي مسؤول دون رادع، وأن تعز هي الوحيدة التي يوجد فيها نشاط سياسي مرتفع أكثر من كل المدن اليمنية المحررة من الحوثيين، دعا المتحدث باسم شرطة تعز الناشطين والصحافيين إلى عدم استخدام مساحة الحرية الموجودة في المناكفات السياسية خدمة لأحزاب وكيانات، ولا تسلم منها أجهزة الأمن والجيش.
ويقول الشرعبي لـ”العربي الجديد”: “لا نضيق بالنقد مهما كان لاذعاً أو تجاوز الحدود، بل ننظر إليه بأنه ظاهرة صحية تُرشدنا لخلل ما ونستفيد منه في إصلاح الأخطاء بشكل كبير، ولكن ندعو الصحافيين والناشطين للالتزام بالمهنية والمحافظة على المصداقية، واستغلال مساحة الحرية أيضا في إظهار ما تعانيه تعز من معاناة جراء الحصار الحوثي إلى المحافل الدولية”.
مجتمع حيوي
لم تكن الانتهاكات التي تعرضت لها أسرة “الحرق” هي الحادثة الأولى التي تحولت إلى قضية رأي عام في تعز، وخلال السنوات الماضية، ساهمت حملات إلكترونية في الضغط على السلطات وتشكيل رأي عام. وفي مناسبات مختلفة، كان السخط يتسلّل من شبكات التواصل الاجتماعي إلى الشارع على شكل مظاهرات، كما حدث خلال الأيام الماضية عند تدشين أولى فعاليات حراك “يكفي” للتنديد بالانفلات الأمني.
وجد ناشطو تعز أنفسهم أمام مسؤولية كبيرة جراء تردي الأوضاع داخل مدينتهم. ووفقاً للصحافي والناشط السياسي اليمني وسام محمد، فإنه لا توجد في تعز، في الوقت الحالي، سلطة تمنع الانهيار غير سلطة الناس، من خلال ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانية الضغط على السلطات الرسمية للقيام بدورها ومواجهة الاختلالات الحاصلة.
ويقول محمد لـ”العربي الجديد”: “مجتمع تعز حيوي، ووسائل التواصل تعكس هذا الأمر بوضوح في ظل غياب الأحزاب وانهيار السياسة بشكل عام بفعل الحرب، لكن المشكلة أنّ التوقف عند حملات الضغط غير المنظّمة لا يراكم إصلاحات حقيقية أو حتى تجاوز لأبسط المشاكل، لهذا تظل تتكرر الحملات من وقت لآخر”. ويعتقد محمد أنّ المشهد في تعز بحاجة إلى “عمل منظم على الأرض ذي طبيعة مسيّسة يكون رديفا للضغوط الشعبية وحملات مواقع التواصل”، معرباً عن أسفه من أن ذلك لا يتوفر حتى الآن.
ويعتمد الناشطون في مدينة تعز بدرجة رئيسية على موقع “فيسبوك” في تكوين رأي عام داخلي ضدّ السلطات المحلية، فيما يبرز موقع التدوين المصغّر “تويتر” كمنصة لتناول الهموم الوطنية الكبرى والتخاطب مع المنظمات الأممية والمجتمع الدولي، وينشط عليه مسؤولون يمنيّون، حيث يكتبون مواقفهم كذلك.
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل رأي عام على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية. وخلصت دراسة نفذتها مؤسسة “منصة للإعلام والدراسات التنموية” في اليمن، إلى أن مواقع “فيسبوك” و”تويتر” وكافة منصات التواصل “ساهمت بشكل كبير ومباشر في تشكيل التوجهات العامة لليمنيين وتعزيز الوعي السياسي والاجتماعي”.