يرى جورج هيغل أن الفكر هو صلب الحقيقة ومقياسها الوحيد
كتب : عماد الدين الجبوري
في الحلقة السابقة تناولنا رأي كانت في الحرية، التي هي شرط وجود الأخلاق، إذ لا يمكن تأدية فعل أخلاقي أو غير أخلاقي من دون حرية الاختيار، وبغض النظر عن نوع ذلك الفعل إن كان خيراً أو شراً، كما أنه يستمد من إرادة فعل الفرد الذاتية، فإذا تحول إلى فعل جماعي تلاشت منه الحرية.
هيغل (1770-1831)
يرى جورج هيغل أن الفكر حر، وهو صلب الحقيقة ومقياسها الوحيد، وعندما يتجه عائداً صوب ذاته، فهو يتجه نحو إكمال حريته، لأن الفكر ينتج ذاته ويثبتها بحسب معرفته بذاته، عكس الأشياء الطبيعية التي لا توجد من أجل ذاتها لأنها ليست حرة. وعليه، فإن كل شيء موجود يكون مرده إلى الوعي بالذات الذي يقوم به الفكر وحده، ويفسره تفسيراً عقلانياً، وكلما أدرك الفكر أنه حر كان ذلك أفضل. وعلى الرغم من أن تجربة الحرية وحدها التي تحرر الفكر في ذاته أو من أجل ذاته، فإنه يبقى حراً دوماً.
وفي هذا الصدد يقول هيغل، إن “حرية الفكر تأخذ فقط الفكر الخالص كحقيقته، وهذا نقص ملموس يملأ الحياة. لذلك، فهو فكرة الحرية فحسب، وليس معايشة الحرية نفسها، لأنه، بادئ ذي بدء، التفكير بشكل عام هو مجرد جوهرها، والشكل على هذا النحو الذي ابتعد من استقلالية الأشياء وعاد إلى نفسه”. (ظاهراتية العقل، طبعة إنجليزية).
إن الفكر، بحسب مفهوم هيغل، وحدة عضوية ذات أجزاء أو حقائق واقعية صغرى منفصلة عن بعضها بعضاً، لكنها متصلة ومترابطة معاً، إذ يكشفها الفكر ويعبر عنها وفق مراتبها العليا والسفلى. بمعنى، أن مراتب الفكر أجزاء متعاونة من مجموع الحقيقة، ولا يوجد بين الأفكار سابق ولاحق، بل كل فكرة تتضمن الأخرى، وبمجموعها الكلي الأرفع والأوضع، السابق منها واللاحق لها، إذ يحوي بعضها بعضاً، والتاريخ هو تجلي الحقيقة المطلقة التي لا ينقطع وجودها.
ومن هنا، فإن هذه الوحدة في الفكر الحر إنما هي “وحدة بين أضداد” في الحياة العادية، فيتوهم العقل بأن أجزاء الكل متناقضة ومتعارضة، ولا يوجد في ما بينها اتساق ولا انسجام، وسبب وقوع العقل في هذا الخطأ، لأنه يرى الجزء فيحسبه كلاً في حد ذاته. لذلك، درج الناس على أن يروا أجزاء الكل منفصلة، كل جزء على حدة، من دون أن يربطوا بينها برباط الوحدة الشاملة لها جميعاً، والواقع أنه لا يوجد ثمة جزء مستقل بذاته، بل كل جزء لا بد أن يتضمن في ذاته شيئاً آخر، ولتجاوز ذلك علينا النظر إلى مجموعة الحقيقة ككل واحد مرتبط الأجزاء.
وهكذا يواجه هيغل مشكلة الحرية الإنسانية، بالتغلب على التناقضات من خلال الانسجام بين الأضداد بمزيد من الاستيعاب والتجاوز في الوعي المطلق. فالحرية هي طريق وجود الروح، وإذا كانت حرية الروح خاضعة إلى المبدأ العام الذي تخضع له سائر الكائنات، فإن الحرية العقلية ليست كذلك، بل هي الحرية الناتجة من الكرب المرتبط بالخطيئة والدنس، والألم هو صداع الحرية.
بمعنى آخر، فإن الإنسان روح لذلك فهو حر، لكنه يجهل ذلك، لأنه ليس روحاً نقية مثل الروح المطلقة أو الفكر المطلق أي الله، لكي يرتبط بشكل وثيق بالطبيعة. ومن أجل أن يدرك الإنسان حريته هذه، عليه أن يتبع طريقتين. الأولى، نظرية بواسطة الفكر من خلال فهم الحاجة. والثانية، عملية من طريق الدولة.
والدولة تعني القانون، وهو اعتراف بحرية إرادة الفرد، الذي له حقوق إزاء الآخرين. وخصص لها هيغل ثلاثة أشياء، المِلكية والتعاقد والعقوبة. الأولى، حق المِلكية وهو المجال الذي تظهر فيه شخصية الفرد كونه المالك، وعلى أفراد المجتمع الآخرين أن يحترموا ويصونوا مِلكه، ويعترفوا له بحق التصرف فيه. والثانية، فإن حرية تصرف الفرد في ملكه توجب التعاقد بين الناس على ذلك، لكيلا تتعارض إرادة شخص ضد آخر. أما الثالثة، فإذا ما نشأ نزاع بين الإرادات بأن اعتدى هذا على حق ذاك ونقض ما بينهما من اتفاق، وجب أن نوفق بينهما بالعقوبة التي نوقعها على المخطئ، وإلزامه مبدأ العدالة بين الجميع.
إن مجال الحق أو القانون بالنسبة إلى هيغل هو المجال الروحي الذي تكون ركيزته الإرادة الحرة، وتشكل الحرية جوهره، وتحقيق نظام الحرية فيه، إذ إن عالم الروح ينتج كطبيعة ثانية من نفسه. وهذه “الطبيعة الثانية” تعني عند هيغل، نظام الحق بكل شموليته القانونية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي من خلالها تتوقف الحرية عن الشعور الداخلي، والشعور بالقدرة على الاختيار عملياً.
إن “الروح في شكل الحرية المطلقة، إنه نمط الوعي بالذات الذي يدرك بوضوح أنه في يقينه الذاتي يكمن جوهر جميع المجالات الروحية المكونة للحس الملموس، وكذلك للعالم الفائق، أو على العكس من ذلك، فإن هذا الوجود الجوهري والواقع الملموس يتكونان في معرفة الشعور له من نفسه”. (المصدر السابق).
وفي كتابه “فلسفة التاريخ” الذي تتبع فيه قانون التقدم الإنساني، بين هيغل أن أحداث الماضي كلها تتجه إلى تحقيق هدف الحرية. فكل شعب يتاح له أن يرتقي ذروة المجد لحقبة من الزمن، فإنه يكون أداة لا شعورية في تنفيذ إرادة الروح العامة، ويستمر على هذه الحال حتى ينهض شعب آخر فيخلفه بفكرة عن الحرية أوسع من فكرة سلفه، وفهم أسمى لدور الإنسان في الحياة.
إن مراحل التاريخ تكشف لنا عن تزايد الحرية كلما مضى الزمن، ففي بادئ الأمر لم يتمتع بالحرية غير فرد واحد وهو المستبد، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة تمتع بالحرية طائفة من الناس، ثم تلا ذلك أن أصبح الناس أحراراً جميعاً. وبحسب تصور هيغل، فإن الطبيعة الأساسية للحرية سوف تظهر هكذا في استمرارية عملية تفسير تاريخ العالم.
لذلك، يشير هيغل إلى أن “مسألة الوسائل التي من خلالها تتطور الحرية في العالم تقودنا إلى ظاهرة التاريخ نفسه. على الرغم من أن الحرية في المقام الأول فكرة داخلية، فإن الوسائل التي تستخدمها خارجية وظاهرية، تقدم نفسها في التاريخ إلى رؤيتنا الحسية”. (فلسفة التاريخ، طبعة إنجليزية).
لقد استخدم هيغل كثيراً من الافتراضات في فلسفة الحرية، بعضها غامض لأنها ضمن سياق مفهومه العام لوحدة انسجام الأضداد، إذ كل إثبات يتضمن نفياً، والعكس صحيح أيضاً، بحسب زعمه الذي صاغه نظرياً، لكن عملياً يعني خليطاً فوضوياً بين جميع الموضوعات بلا استثناء. لذلك، لم يقدم هيجل تعريفاً محدداً للحرية، بل عمد إلى جعل مفهوم الحرية “غير محدد” ليتوافق مع منهجه وفكره الفلسفي.
ومن بين الذين نقدوا هيغل، كارل ماركس (1818-1883)، فعن الحرية والقانون والدولة كتب متسائلاً عما يلي:
“هل الحقيقة إذاً أنه في الدولة التي هي، بحسب هيغل، أعلى وجود للحرية، وجود العقل الواعي بذاته وليس القانون ووجود الحرية، بل الضرورة الطبيعية العمياء هي التي تحكم؟ وإذا تم الإقرار بأن قانون الشيء يتعارض مع التعريف القانوني، فلماذا لا نضع قانون الشيء، في هذه الحالة السبب، على أنه قانون الدولة؟ ثم كيف تحتفظ بوعي بهذه الثنائية؟ يريد هيغل دائماً تقديم الدولة على أنها تفعيل العقل الحر، ومع ذلك، فهو يحل جميع النزاعات الصعبة من خلال ضرورة طبيعية هي نقيض الحرية. وهكذا، فإن انتقال المصلحة الخاصة إلى المصلحة الأحادية ليس قانوناً واعياً للدولة، بل هو حالة يريد هيغل في كل مكان تحقيق الإرادة الحرة”. (نقد فلسفة الحق لهيغل، طبعة إنجليزية).
وإذا كان قوام الحرية الإنسانية، بحسب رأي هيغل، هو الفكر والفكر حده، فإن برغسون يقترب من هذا المفهوم، ولكن من منطلق النمو الحياتي نحو الحرية.
نقلا عن أندبندنت عربية