القاهرة – أحمد حافظ
تعرضت دار الإفتاء المصرية لانتقادات حادة من رجال دين بسبب وضعها لحكم شرعي يبيح للأب أن يوزع تركته وهو على قيد الحياة على بناته، واتهمت المؤسسة بمخالفة التعاليم الدينية المتوارثة، حيث أثارت الفتوى التي أصدرتها نقاشا مجتمعيا محتدما حول ميراث المرأة، ورغم أن هذه الخطوة من شأنها أن تحفظ للمرأة حقها الشرعي والقانوني، فإنها كشفت عن قصور في طرق الوصول للناس وإقناعهم بها.
وأحدث الحكم الشرعي الذي وضعته دار الإفتاء المصرية أخيرا حول ميراث المرأة نقاشا مجتمعيا محتدما بعدما أباحت للأب لأول مرة أن يوزع تركته وهو على قيد الحياة على بناته باعتبار أن المال ملك له ومن حقه أن يفعل به ما يشاء، ما عرض مؤسسة الفتوى لانتقادات حادة من رجال دين، بعضهم ينتمي إلى الأزهر الشريف، وآخرون معروف عنهم توجهاتهم المتطرفة.
مثّلت الفتوى بالنسبة إلى كثيرين طعنا في الموروث الاجتماعي القديم الذي يحرّم على الأب توزيع تركته على بناته وهو على قيد الحياة أو يقترب من الميراث بأي شكل بدعوى الحفاظ على حقوق المرأة من النهب بعد الوفاة، وبدا الأمر كأن دار الإفتاء ترتكب جرما شرعيا بإباحة تصرف يتناقض كليا مع الشرع ويجعلها متهمة بمخالفة التعاليم الدينية المتوارثة.
وبنى رافضون لإباحة توزيع الأب ميراثه على البنات بأن ذلك يمنع باقي الورثة من الحصول على حقوقهم مثل الأعمام والعمات، وأن المرأة بطبيعتها لا تستطيع الحفاظ على أموالها مثل الذكور، وهي نظرة اجتماعية سلبية اعتاد بعض الأهالي التعامل مع النساء وفقا لهذا المنظور الضيق، وطالما كان ذلك سبب في حرمانها من الميراث عبر عقود طويلة مضت في بعض الأماكن بمصر، خاصة في جنوبها.
كانت البداية بإطلاق مفتي الديار المصرية السابق علي جمعة فتوى تبيح كتابة الأب التركة لبناته في أثناء حياته بهدف تأمين مستقبلهن دون أن ينوي حرمان أحد من الميراث، أيّ أنه طالما لم تتوافر نية إلحاق الأذى بالآخرين فلا إثم على الأب في ذلك، حتى انقسم المجتمع بين فريقين، الأول يشيد بالفتوى والآخر يعتبرها اعتداء على الشرع ويطالب بعدم الاعتراف بها.
حسمت دار الإفتاء الجدل المجتمعي ودعمت رأي المفتي السابق حول حرية الإنسان في التصرف بتركته في حياته، وقالت من المقرر شرعًا أن التسوية بين الأولاد في العطاء والهبة أمر مستحب، “فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي محمد (ص) قال: ساووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا أحدا لآثرت النساء على الرجال”.
وأضافت الدار، “لكن قد يخص الشخص الواهب بعض أولاده بعطاء زائد عن البقية، أو يوزع تركته على بناته لحاجة كمرض أو كثرة أولاد أو صغر السن، أو مساعدة للزواج، أو مساعدة على التعليم والدراسة ونحو ذلك، فلا يكون الإنسان حينئذ مرتكبا للظلم، ولا إثم عليه في ذلك، لأنه تصرف فيما يملك حسب ما يراه محققا للمصلحة”.
وأمام احتدام الجدل ضاعفت دار الإفتاء من تفسيراتها الخاصة بأحقية الرجل كتابة أملاكه لبناته أو منح إحداهن حقها وهو على قيد الحياة بحكم ضعف العلاقات الأسرية في الوقت الراهن، ووجود الكثير من الخلافات العائلية التي تجعل الأب يخاف على أولاده من الورثة، وهذا لا يعني أن يخالف الشرع، بل يتصرف في حر ماله الخاص دون ارتكاب تحريم.
مقدمة لنهب الميراث
تظل وفاة الأب الذي لم ينجب ذكورا، مقدمة لنهب ميراث النساء من أقاربهن الرجال، بدعوى توزيع التركة على العائلة، ما يعرض المرأة لظلم بيّن، ويجعلها عرضة للقسوة والإذلال وسرقة أموالها وحقوقها تحت مسميات كثيرة، مثل العرف المجتمعي والعادات والتقاليد، وهناك من يستعين بفتاوى متشددين لتبرير تصرفه بعدم منح النساء حقهن في الميراث.
واعتاد معظم الآباء في المجتمع المصري عدم الاقتراب من الميراث أو توزيعه قبل وفاته بسبب الموروثات الدينية الخاطئة التي تتوعده بأنه سيكون مصيره نار جهنم، حتى جاء تدخل مؤسسة الفتوى لتنسف كل المعتقدات القديمة بشكل يصب أولا وأخيرا في صالح النساء اللاتي لم تجن من العادات والتقاليد سوى البؤس والفقر وقلة الحيلة لحرمانهن من الميراث.
وأكد أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية والفقه المقارن بجامعة الأزهر أن الظروف الاجتماعية تغيرت وصار الكثير من الآباء يخافون على أولادهم وبناتهم بعد الوفاة، وهناك علاقات عائلية متوترة، والذي يكتب تركته لبناته يكون بذلك منحهن هبة من أمواله، وهذا ليس حرام شرعا، ومشكلة المتشددين أنهم يحرمون في المطلق بناء على موروثات مجتمعية قديمة.
وأضاف كريمة لـ”العرب” أن كتابة التركة للبنات والأب على قيد الحياة حل مثالي لعلاج أزمة مجتمعية جاهلية وهي الحرمان من الميراث، وعلى المعارضين لهذا الرأي التحرك أولا وتحمل مسؤولياتهم الدعوية في الحفاظ على حق المرأة في إرثها الشرعي لا تكريس إذلالها وقهرها والتعامل معها كمخلوق درجة ثانية ليس مؤهلا للحفاظ على أمواله وممتلكاته ويحتاج لوصي.
أحمد كريمة: كتابة التركة للبنات والأب على قيد الحياة حل مثالي لعلاج أزمة مجتمعية
وفتح الرأي الديني الجديد الباب على مصراعيه لأي أب ليكتب لبناته ما يشاء من ميراث وهبات وعطايا وتركة مالية أو عقارية أو غيرها، بغض النظر عن العرف المجتمعي السائد، طالما أنه اقتنع بفتوى المؤسسة الرسمية، لكن المعضلة في تعامل البعض مع آراء دار الإفتاء باعتبارها أقرب إلى تنفيذ فكر ورؤية الدولة التي يعتبرها هؤلاء مناهضة للموروث الديني القديم.
واستقبل فؤاد مهدي، وهو أب لست بنات، فتوى دار الإفتاء بسعادة بالغة، واصفا إياها بأنها أزاحت عليه عبئا ثقيلا، فقد كان يريد كتابة تركته لبناته فقط تأمينا لمستقبلهن، وخوفا عليهن من نهب ميراثهن من الأقارب بعد وفاته، لكن كان يخشى من غضب الله ومخالفة الشرع، فالمجتمع لم يعد يرحم وصلة الرحم صارت نادرة وتوزيع الولي للتركة أصبح ضرورة حتمية.
وأكد الأب لـ”العرب” أن أخواته (أعمام بناته) لا يسألون عنه، وبعضهم ألمح له بأنه كلما امتلك عقارا جديدا فذلك
سيفيد العائلة عند الميراث بدعوى أنه لم ينجب ابنا ذكرا، وكل أولاده بنات، كأنهم يريدون موته في القريب العاجل حتى يرثوا ما جناه طوال حياته بعد تعب وجهد وعناء، مضيفا أن “إباحة توزيع الأب لتركته على بناته تضع حدا لنهب ميراث المرأة في مصر”.
وأوضح الأب أن استجابة المجتمع لفتوى توزيع الميراث على فئة بعينها، تحديدا النساء، خوفا على مستقبلهن يتوقف على منسوب التحضر والوعي والفكر، والمشكلة أن صوت المتشددين أقوى من خطاب المؤسسة الوسطية، فأحد الآباء يستفتي شيخا سلفيا في فتوى توزيع التركة ويأتي الرد بالتحريم ما ينسف الفكر المواكب للعصر.
حفنة من الأموال
خوف الآباء ناتج عن الموروثات الدينية الخاطئة
المتابع لأحوال أغلب النساء اللاتي رحل آباؤهن دون توزيع للتركة قبل الوفاة، يكتشف حجم المعاناة والصعوبات اللاتي يعشنها، إذ يتم حرمانهن من الميراث لسنوات طويلة، وقد تموت إحداهن دون أن تستفيد من الأموال والأملاك التي تركها الأب، ومهما تعرضت إحداهن لأزمة مالية أو صحية وطلبت حقها من أخواتها وأعمامها فإنها تواجه بمعاملة بالغة القسوة ويتم التربص بها.
وفي الكثير من المجتمعات القبلية يتعامل المجتمع مع مطالبة المرأة بالميراث وكأنها ارتكبت جريمة، وكيف تصل بها الجرأة لهذا المستوى الذي يرفضه العرف والتقليد، وحتى إذا كانت هناك استجابة لطلبها، وهذا نادر حدوثه، يتم منحها حفنة من الأموال على فترات متقطعة على سبيل المصروفات التي تعينها على الإنفاق ومواجهة صعوبات الحياة.
ومن هؤلاء، سماح إبراهيم، وهي زوجة وأم لأربعة أبناء، كلما طالبت أخواتها بميراثها لتجهيز أحد أولادها للزواج يأتي الرد بالرفض القاطع، وعندما اقترحت عليهم بيع ميراثها من الأرض التي تركها والدها تتم معاملتها بقسوة حتى صارت علاقتها بهم شبه منقطعة وبعدما تدخل وسطاء ومعارف لتراكم الديون عليها لم يمنحوها شيئا.
وقالت الأم لـ”العرب” إنها تتذكر عندما طلبت ميراثها من والدها قبل وفاته أبلغها بحرمة هذا التصرف، وأنه لا يريد لقاء الله وقد ارتكب فعلا يتنافى مع الشرع، ورغم إصابتها بمرض السرطان مؤخرا وحاجتها للمال لم يتنازل إخوتها عن موقفهم المتحجر بدعوى أن تسليمها ميراثها سوف يستفيد منه زوجها وتفتيت الأرض بشكل يتناقض مع الوجاهة الاجتماعية للعائلة.
أزمة شريحة في المجتمع مع الفتاوى الوسطية التي تبيح للآباء توزيع التركة قبل الوفاة أو كتابتها لأبناء بعينهم أن الآراء الدينية لعلماء نفس المؤسسة مختلفة إلى حد بعيد، فليس هناك رؤية موحدة عند كل رجال الدين حول مسألة الميراث ما تسبب في زيادة الارتباك المجتمعي بشكل يؤثر سلبا على حقوق النساء، وجعلهن عرضة للقهر والإذلال والفقر ولو ينتمين إلى أسر ميسورة.
ورغم إباحة دار الإفتاء لهذا التصرف، إلا أن لجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامية كان لها رأي معارض، وقالت إنه لا يحق للإنسان أن يورّث من يشاء ويحرم من يشاء، لأن ذلك يضعه في خانة الاعتداء على الشرع وارتكاب فعلا يحرمه الدين، وهو نفس الرأي الذي يتناغم ضمنيا مع القناعات الاجتماعية التي تؤمن بأحقية حرمان المرأة من ميراثها لأنها ليست أمينة على المال.
وأشارت رحاب العوضي أستاذ علم النفس والاجتماع بالقاهرة إلى أن ارتباك المجتمع بشأن ميراث المرأة سببه اختلاف وجهات النظر عند رجال الدين الذين لم يتفقوا على رأي واحد، وللأسف يكرس هذا التناقض بينهم حرمان النساء من حقوقهن، والكثير من المؤتمنين على الفتوى لا يدركون أن الظروف تغيرت وصارت العلاقات العائلية تشهد انقسامات شديدة، ولم تعد مثل الماضي.
متمردة وعاصية
رحاب العوضي: ارتباك المجتمع بشأن ميراث المرأة سببه اختلاف وجهات نظر رجال الدين
وذكرت لـ”العرب” لو أن عددا من رجال الدين اجتمعوا في الغرف المغلقة بعيدا عن التلاسن والاختلاف علانية وحسموا مسألة الميراث بشكل يحفظ حقوق المرأة كاملة ومنحوا الأب سلطة أن يطمئن على بناته قبل وفاته لما كان حدث هذا الجدل والانقسام، وكفى ما تسبب فيه علماء الفتوى من استقطاب مجتمعي بسبب قناعاتهم الشخصية.
أكدت العوضي لـ”العرب” أن تصاعد الاختلاف حول قضية ميراث المرأة، وحق الأب في كتابة جزء أو كل التركة لها يقنع المجتمع بأن الإرث الثقافي القديم هو الحل بأن يرحل رب الأسرة ويترك الورثة يوزعونه بطريقتهم، وهذا يكرس حرمان المرأة من أبسط حقوقها الشرعية ويجعلها عرضة للأذى والاستهداف، فماذا يضير رجل الدين إذا أراد الأب أن تستمتع بناته بأمواله؟
إذا لجأت المرأة إلى القضاء للحصول على حقها في الميراث، فإنها توصم بالمتمردة والعاصية والعاقة، فهناك قانون يبيح لها حبس الممتنع عن تسليمها نصيبها الشرعي، لكن هذه الخطوة ليست فاعلة لعدم جرأة أغلب النساء على مقاضاة إخوتها ما يتطلب حراكا دينيا على مستوى أوسع يصل إلى المجتمع الذي يقدس العادات والتقاليد في مسألة الإرث الشرعي.
وثمة معضلة أخرى مرتبطة بأن الرأي الوسطي حول أحقية كتابة الأب تركته لبناته يكاد لا يكون معروفا سوى لدى شريحة قليلة في المجتمع، وهم متصفحو منصات التواصل الاجتماعي الذين تركز عليهم المؤسسة الدينية، بينما الأغلبية المجتمعية التي تكرس حرمان المرأة من ميراثها غالبيتهم من الأميين والحاصلين على تعليم متوسط وليس لهم أدنى علاقة بالتكنولوجيا.
ولم تفكر المؤسسة الدينية في أن يتم إدراج مسألة توزيع التركة بالتساوي أو قصرها على البنات فقط لو لم يكن هناك ذكور من خلال خطبة الجمعة الموحدة على كل المساجد، أو يتم الترويج لها إعلاميا على نطاق واسع أو تتبنى جهة الفتوى بالتعاون مع مؤسسات فكرية وثقافية وإعلامية ودعوية نشر هذه الفتوى وأسانيدها لتصل إلى عموم الناس بشتى الطرق.
ويمكن البناء على ذلك أن الأزمة ليست في صدور فتوى عقلانية من شأنها نسف معتقدات مجتمعية أزلية تحفظ للمرأة حقها الشرعي والقانوني، لكن المشكلة في كيفية وصولها للناس وإقناعهم بها، وهزيمة الخطاب المتطرف المناوئ لها، فمن السهل تجديد الخطاب الدعوي، لكن من الصعب أن تقنع المجتمع بمفرداته وتمتلك أدوات نشره بين الفئة المستهدفة.
العرب اللندنية