كتب محمد أبوالفضل
حافظ المشير محمد حسين طنطاوي على غموضه وهو في قلب السلطة وعقب خروجه منها، فالرجل الذي رحل الثلاثاء بعد أن شغل منصب وزير الدفاع في مصر لأكثر من عقدين ورأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة عندما أعلن الرئيس الراحل حسني مبارك تنازله عن السلطة، لم يكن معروفا عنه الحديث لوسائل الإعلام، وظل كاتما لأسرار العديد من التطورات المهمة، ولا أحد يعلم هل دوّن مذكراته عن الفترة التي كان شاهدا فيها على كثير من الأحداث أم طوى صفحاته معه وترجل.
وأعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حالة الحداد الرسمي في البلاد بعد وفاة طنطاوي، وقرر خلال افتتاحه الثلاثاء عددا من المشروعات للتنمية في سيناء إطلاق اسمه على قاعدة الهايكستب العسكرية “تقديرا واحتراما لدوره في الحفاظ على مصر”.
كما أكد السيسي أن طنطاوي قاد الوطن في مرحلة صعبة، وكان سببا حقيقيا في عدم سقوط مصر وانهيار الدولة، قائلا “هذا الرجل بريء من أي دم وقع في أحداث محمد محمود، وماسبيرو، وأحداث المجمع، وأي أحداث حدثت وتآمرت لإسقاط الدولة“.
دور عسكري سياسي
من صفات معظم الجنرالات الكبار في مصر الصمت والكتمان والغموض والحرص على الهالة التي يضفيها ذلك عليهم، وكان طنطاوي واحدا من الذين لعبوا دورا على المسرحين العسكري والسياسي في مصر ولم يسمح لكثيرين بالاقتراب منه، ما مكنه من القبض على زمام أمور كثيرة سواء عندما تولى منصب وزير الدفاع في مايو 1991 أو وقت ترأس المجلس العسكري في فبراير 2011.
في الحالتين حافظ المشير طنطاوي على قدر كبير من الصلابة والصمود والسرية والتوازن واحترام انتمائه لمؤسسة الجيش العريقة والالتزام بشرفها العسكري، وهي من أكثر المزايا والصفات التي ساعدته في عبوره الكثير من المطبات التي واجهها شخصيا أو تعرضت لها مصر وقت أن كان عنصرا فاعلا في أحداث مختلفة أو على مقربة منها، ما مكنه من الاحتفاظ بصورة ناصعة في الوجدان العام للمصريين.
انحياز للشعب
الإخوان استحسنوا اسم السيسي حين تردد كبديل عن طنطاوي، لاعتقادهم أنهم يوجهون ضربة معنوية للأخير لأنهم فضلوا عليه تلميذه ومدير مكتبه السابق
يحوي تاريخ الرجل مجموعة كبيرة من المحطات التي جعلته شخصية محورية في السلطة وخارجها، من أهمها رفض انصياعه للدعوات التي طالبت باستخدام القبضة العسكرية للتعامل مع المحتجين في الشارع عقب اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وانحيازه الواضح للشعب الذي تمكن من إجبار مبارك على التنحي عن الحكم بعد أن كانت هناك سيناريوهات سياسية يتم تجهيزها لتولي ابنه جمال مبارك السلطة من بعده، ولم تكن محل قبول من كبار قيادات المؤسسة العسكرية.
وحفلت الفترة السابقة على ثورة يناير والتالية لها بتجاذبات خفية بين رئيس الدولة وقادة الجيش بسبب ما عرف بسيناريو التوريث ورفض مبارك الاستجابة لنداء الرحيل الذي كان مدويا في ميادين وشوارع الثورة بمصر، وتسربت معلومات حول خلافات متباينة كبحها الانضباط الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية والحكمة التي تمتع بها مبارك في أيامه الأخيرة، وحنكة طنطاوي في إيجاد صيغة آمنة لتجاوز المأزق.
يتردد في التاريخ العربي الحديث أن هناك قائدا عسكريا واحدا تنازل طوعا عن السلطة، وهو الفريق عبدالرحمن سوار الذهب في السودان عندما قاد انقلابا على الرئيس جعفر نميري عام 1985 وسلم السلطة إلى قيادة مدنية منتخبة، كذلك هو الحال بالنسبة إلى المشير طنطاوي في مصر حيث واتته الفرصة ليكون على رأس السلطة بعد تنحي مبارك لكنه آثر إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية انتهت بالإعلان عن فوز مرشح جماعة الإخوان محمد مرسي وتسليمه السلطة في الثلاثين من يونيو 2012.
ولم يعرف عن طنطاوي خلال توليه رئاسة المجلس العسكري بأنه كان يريد الاستمرار في الحكم أو شغف به، غير أن الفترة التي حكم فيها ثم قيامه بتسليم السلطة لمرشح الإخوان وحتى سقوط مرسي بموجب ثورة شعبية ثانية في الثلاثين من يونيو 2013، حفلت بأحداث لا أحد يعلم تفاصيلها الدقيقة غيره.
السيناريو البديل
لا تزال بعض الأحداث عصية على الفهم لأن طنطاوي الذي كان أحد شهودها لم يتحدث عنها مباشرة، يكفي ما تسرب حول الدراما السياسية التي صاحبت الإعلان عن فوز مرسي على حساب الفريق أحمد شفيق، وهو آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، في الانتخابات الرئاسية، ووقتها كان طنطاوي على رأس المجلس العسكري والمسؤول عن إدارة البلاد.
تناثرت الأخبار حول فوز الفريق شفيق في البداية بنسبة ضئيلة ودارت الاستعدادات الرسمية للإعلان عن فوزه وفجأة تحولت النتيجة من نجاح شفيق إلى مرسي، وظهرت وقتها الكثير من التقديرات والتكهنات حول أسباب التغير المفاجئ، وتظل الرواية الأكثر منطقية هي أن سبب التحول تهديدات الإخوان التي وصلت إلى المشير طنطاوي بإشعال النيران في المرافق الحيوية للدولة إذا لم يعلن فوز مرشحهم.
في ذلك الوقت كانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في أوج دعمها لجماعة الإخوان، ورأت أن هذه هي الفرصة لتصعيدهم في مصر، ما يعني أن تبني طنطاوي لخيار مواجهة الجيش للإخوان سيعرضه لضغوط قاسية وقد تجعل واشنطن طرفا مباشرا فيها، خاصة أن خطة الجماعة اعتمدت على الإعلان مبكرا عن فوز مرشحها والتغيير يعني حدوث تزوير.
وقتها كانت مصر تعاني من أزمات مزمنة، فبعد خروجها من ثورة يناير انفلتت الكثير من المؤسسات وبدت الفوضى عارمة في الشارع، وظهرت أيادي جماعة الإخوان والمتحالفين معها قوية، والجيش والشرطة مشغولان بالحفاظ على ما تبقى من عافية في الأجهزة السيادية، وأي مواجهة واسعة مع الجماعات المتطرفة ستقود إلى انهيار تام وحرب أهلية لا أحد يعلم نهايتها.
التاريخ العربي الحديث يذكر أن هناك قائدا عسكريا واحدا تنازل طوعا عن السلطة، هو الفريق السوداني سوار الذهب، لكن المشير طنطاوي أيضا واتته الفرصة ليكون على رأس السلطة بعد تنحي مبارك إلا أنه آثر إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية
رجّحت الكثير من الروايات التي تناولت هذه الفترة الحساسة جدا أن المشير طنطاوي هو صاحب فكرة تسليم الإخوان السلطة والإعلان عن فوز مرسي بدلا من شفيق حتى لو كان الأخير فائزا فعلا، وهو كذلك، لأن العكس يؤدي إلى الاقتتال، ولو جرى عبور هذا السيناريو فمن المؤكد أن العراقيل سوف توضع أمام شفيق ويسقط ولو بعد حين باعتباره محسوبا على نظام مبارك، في هذه الحالة يقبض الإخوان على زمام السلطة، وتدخل البلاد دوامة من الاستسلام لحكمهم أو تظهر دورة خطيرة من العنف.
تأتي منطقية هذا السيناريو لدى طنطاوي من عاملين، الأول السعي لإعادة تماسك مؤسسات الدولة المصرية وتجهيزها لخوض معركة متدرجة مع الإخوان تستنزفهم سياسيا وماديا، والثاني أن الجماعة لا تملك من الخبرة ما يمكنها من النجاح في إدارة دولاب الدولة المصرية المعقد، فكل ما يهمها التمكين والسعي نحو السيطرة على مفاتيحها الرئيسية، وهي مسألة عصية، لأن الجيش يقبض على مفاصل مؤثرة في الدولة وسيكون من الصعوبة أن يستسلم لحكم الإخوان العقائدي.
وكانت أول خطوة مهمة يتخذها مرسي هي إقالة المشير طنطاوي في الثاني عشر من أغسطس 2013 من منصبه كوزير للدفاع على اعتبار أنه أزال أحد المفاتيح الرئيسية من طريقه، فبعد الانتخابات الرئاسية سلم المجلس العسكري السلطة لمحمد مرسي، وبإقالة طنطاوي ومعه الفريق أول سامي عنان رئيس الأركان، تصورت قيادة الإخوان أنهم أحكموا قبضتهم على الدولة المصرية.
كان السيناريو البديل جاهزا وهو أن يتفق الجيش على ترشيح اللواء عبدالفتاح السيسي ليشغل منصب وزير الدفاع، ووقتها شغل منصب رئيس جهاز المخابرات الحربية الذي لعب دورا حيويا في متابعة أحداث ثورة يناير وتوابعها حتى تمكنت البلاد من الإجهاز على القوة الضاربة لجماعة الإخوان، وفي هذا السياق دارت معارك خفية، لأن الإخوان تلقوا دعما من أجهزة خارجية.
وعندما تردد اسم السيسي كبديل عن طنطاوي في منصب وزير الدفاع استحسنه الإخوان لاعتبارين، الأول اعتقادهم أنهم يوجهون ضربة معنوية لسلفه على أساس أنهم فضلوا عليه تلميذه حيث شغل السيسي من قبل منصب مدير مكتب طنطاوي، والثاني أن المعلومات التي وصلتهم أنه من أسرة متدينة ويسهل إقناعه بمشروعهم.
ولم يفطن الإخوان أو تجاهلوا أن طنطاوي المعلم الأول للسيسي من الناحيتين السياسية والعسكرية، إذ عملا معا فترة طويلة، ظهرت تجلياتها في المودة والاحترام والتقدير الطاغي من التلميذ إلى معلمه.
الفتى الأسمر
البعض يقول إن طنطاوي فضّل إعلان فوز مرسي لا شفيق، تجنباً للفتنة
لعل النعي الذي كتبه السيسي في حق طنطاوي يكشف بوضوح عن أبعد من ذلك، حيث قال “فقدتُ أبا ومعلما وإنسانا غيورا على وطنه، كثيرا ما تعلمت منه القدوة والتفاني في خدمة الوطن. إنه المشير محمد حسين طنطاوي الذي تصدى لأخطر ما واجهته مصر من صعاب في تاريخها المعاصر”.
احتفظ السيسي بالعلاقة الإنسانية مع المشير طنطاوي بعد اعتزاله العمل العام وأطلق اسمه على عدد من المشروعات، وكان محل تقدير في جميع المناسبات الرسمية بعد أن تولى الحكم ونجاحه في إدارة معركة شاملة مع جماعة الإخوان وفلولهم من المتطرفين والإرهابيين.
وقيل إن سيناريو صعود السيسي كان من تخطيط وترتيب وتدبير طنطاوي أيضا، وهو ما حوله إلى أيقونة سياسية وعسكرية داخل الجيش المصري ورمز في الوفاء والإخلاص والرشادة لدى كثير من القيادات المدنية، لأنه أسهم بدور معتبر في تجاوز البلاد واحدة من المحن والمحكات المصيرية التي لا تزال بعض جوانبها خفية.
شغل طنطاوي الكثير من المناصب الرفيعة، وهو دليل من الملامح العبقرية في الدولة المصرية، حيث ينحدر من أسرة تنتمي إلى جماعة النوبة التي تقطن في جنوب مصر وذات جذور ضاربة في تاريخها، وكان وجود الفتى الأسمر على رأس المؤسسة العسكرية العريقة والرافعة المحورية في الدولة كفيلا بدحض المعلومات المغلوطة التي ترددت حول وجود اضطهاد للنوبة.
لم يشعر المواطنون بأن وزير دفاعهم لمدة عقدين أقل منهم ولاء للوطن، بل على العكس تماما ما قام به من دور يعزز حب أهل النوبة عموما للدولة المصرية واعتزازهم بالانتماء إليها، وهي قضية فرعية كان يحلو للبعض العزف عليها عندما يريدون مكايدة السلطة في القاهرة.
ما لا يعرفه كثيرون أن المشير طنطاوي لم يتهاون في التفريط في عقيدة الجيش المصري القائمة على الحفاظ على الحدود، والتي تحدد أدبياتها الأعداء والخصوم الرئيسيين والثانويين ومكمن المخاطر القادمة والعناصر التي تعتمد عليها.
لم يتهاون خلال عهد مبارك أو يتقبل فكرة التجاوب مع محاولات الولايات المتحدة إقناعه بتغيير عقيدة الجيش المصري، والتي تقوم على ضرورة تحويلها من عقيدة عسكرية نظامية إلى وحدات وقوات متفرقة لمكافحة الإرهاب خارج الحدود، ما يعني تفتيت الجيش ومنح الفرصة لإسرائيل لتكون لها اليد الطولى إلى الأبد في المنطقة.
فشل هذا المخطط ويعود الفضل فيه إلى الدور الذي لعبه المشير طنطاوي في ذلك الوقت، وهو ما بات راسخا في ذهن تلميذه السيسي الذي خاض معركة الإرهاب بنجاح وتفوق فيها وقضى على الجانب المركزي في قواعده بالداخل، وتمكن من بناء جيش قوي من خلال تعدد منابع أسلحته وتغيير الاستراتيجية التي اعتمد عليها مبارك ورهنت إرادته للسلاح الأميركي.
استمد السيسي الجاهزية والحرص على التنوع من أفكار طنطاوي، فقد اقترب منه بما يكفي، ولم تهتز الثقة بينهما في أي من المراحل، سواء عندما كان طنطاوي حاكما أو محكوما، وهي أحد الأسرار التي تفسر العلاقة المتينة بينهما وتبرر استمرارها، الأمر الذي لم يحدث مع أي من القادة الآخرين، فخصوصية طنطاوي لدى السيسي تنبع من الجوانب الوطنية التي جمعتهما والطموحات التي عولا عليها لوضع بنية قوية للدولة المصرية تمكنها من مجابهة التحديات العسكرية.
العرب اللندنية