كتب : عبدالباري طاهر
نقيب سابق للصحافيين اليمنيين
“… كلمة قد تذهب مع الريح، ولكن قد تذهب بالأوتاد”.
الكواكبي
في تعز، يوم الثلاثاء 28 سبتمبر/ أيلول 2021، صدر عن “منظمة الحزب الاشتراكي” ما يمكن اعتباره “المنفستو”، أو “البيان رقم (1)”. فالبيان معبر، عميق وصادق عن لحظة اليقظة، والمقاومة للحالة البائسة التي تعيشها مدينة الثقافة الوطنية، ومدينة التمدن اليمني- تعز.
البيان الصادر في تعز صوت وضمير وعقل الوطن اليمني كله، وتحدي الإنسان اليمني في طول اليمن وعرضها. إنه “منفستو” السلام من مدينة السلام والثقافة التي تأسّست فيها الأحزاب السياسية الحديثة، والحركة النقابية العمالية، واعتبرت المدينة الثانية بعد عدن في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي في التأسيس للمجتمع المدني، والصحافة والتجارة.
المدينة، تعز، محاصرة ومحروبة داخليًّا وخارجيًّا منذ سبعة أعوام. من تعز في العام 2011، انطلق الصوت الأول: “الشعب يريد إسقاط النظام”. أليس مفارقة أن أيوب الصالحي -الصوت الأول الداعي لإسقاط النظام في المدينة- مختطف، ولا يزال مختفيًا حتى اليوم؟
اختطاف أيوب الصالحي -صوت الربيع العربي في اليمن- يرمز إلى أن الربيع في تعز هو الآخر مختطف ومختفٍ قسريًّا، وليس في تعز وحدها، وإنما في اليمن كله.
من جديد ينبعث من تعز صوت الربيع العربي المقموع في اليمن، والمحروب في غير بلد عربي، وفي اليمن، وتحديدًا في تعز- المدينة الأولى التي انطلق منها صوت الربيع العربي- المحاصرة داخليًّا وخارجيًّا، والتي تُسخَّر ضدها الحرب، ويُقتل فيها، بدم بارد، الضابط الأول اللواء عدنان الحمادي- قائد اللواء “35 مدرع”، الذي حمى المدينة، ويتم التستر على جريمة قتله.
المدينة المدافِعة عن الثورة اليمنية، شمالًا وجنوبًا، تدفع الثمن مضاعفًا من أعداء الثورتين في الشمال والجنوب.
بمقدار اشتداد الحرب، واتساع رقعتها، بمقدار البرهنة على عدم القدرة على حسمها عسكريًّا؛ فالحروب الأهلية لا تتوقف إلا بالتصالح والتسامح، والحروب الأهلية في اليمن إرث وبيل، وتركة ثقيلة.
“المنفستو” السلامي يمثّل الرد الصائب، والإجابة الصحيحة على أسئلة الحرب، ومآسي اليمن شمالًا وجنوبًا. فأمام تفاقم الأوضاع المعيشية المتردية “لأبناء شعبنا” -حسب البيان- والتي وصلت إلى مستوى كارثي، وُضعت الغالبية الساحقة من الشعب اليمني أمام شبح مجاعة فاجعة؛ مشيرًا إلى الانهيار الاقتصادي، وتدهور قيمة العملة، وارتفاع الأسعار، وتغوُّل الفساد، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وانتشار الأوبئة الفتاكة.
يربط البيان هذه الحالة البائسة بالحرب المميتة التي تطحن -بحسب توصيف البيان- “بآلتها الجهنمية عظام الملايين من شعبنا على امتداد الرقعة الوطنية، ومع استمرار حصار الميليشيات الانقلابية في فرض حصار جائر على سكان مدينة تعز، واستمرار الإفقار والتجويع التي تشترك فيها قوى دولية وإقليمية ومحلية”.
ويعلن البيان، باسم اشتراكيّي تعز، أن معركة اليمنيين وحراكهم الشعبي السلمي يرتكز على أولوية السلام والخبز والحرية ضد الحروب والتجويع. ويقينًا، فإنه ومنذ البيان الشيوعي، ونضالات الشيوعيين العرب منذ مطلع القرن العشرين الماضي، كان الربط العميق والجدلي بين الخبز والحرية والسلام حاضرًا، وأكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، هذه المعاني الرائعة والعظيمة، وكفلها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. إن السلام هو الحرف الأول في أبجدية الحياة والحرية والخبز.
يقرأ البيان حالة الحراك الجماهيري الغاضب في عدن وأبين وحضرموت وشبوة، ويرى أنه “من المتوقع أن يتوسع ليشمل محافظات أخرى كردّ فعل لسياسات التجويع والتنكيل والقهر في ظل تجاهل ولا مبالاة السلطة الشرعية”.
في البيان، تتمازج بلاغة الموقف مع بلاغة وفداحة المأساة؛ فيصرخ البيان: “لقد بلغت القلوب الحناجر، وتجاوز الظالمون المدى، وتساوت الحياة والموت، وأصبح أنين الملايين من المسحوقين والمُفقرين، صيحة غاضبة تضج بها أرجاء البلاد”.
يضع البيان الكفَّ على الجرح العميق والغائر في الجسد اليمني؛ “المآلات الكارثية حصاد مُرّ لسبع سنوات من الحرب الضروس التي حولت البلاد إلى ساحة مفتوحة لتدخلات إقليمية ودولية عطّلت موانئ ومطارات البلاد، وأعاقت تصدير النفط والغاز عن سابق إصرار وترصد، وحولت الشعب اليمني إلى شعب جائع يفتقر لأبسط مقومات الحياة، ناهيكم عن استلاب القرار الوطني وارتهان فاضح لغالبية النخب اليمنية، وتحولها إلى أدوات طيّعة بيد الخارج يعبث من خلالها بالوطن كما يشاء”.
البيان الأول لا بد وأن يتجسد في التأسيس لكتلة سلامية في طول اليمن وعرضها، تتبنى الدعوة السلامية، وتدين الحرب، وتتنادى لاحتجاجات مدنية سلمية كطريق بديل للحرب، وسبيل وحيد للحوار والتصالح المجتمعي والوطني.
ويرى البيان أن الحرب أدّت إلى انهيار الكيان الوطني، وفتحت أبواب الجحيم على الشعب، وأدّت إلى انتشار الجماعات المسلحة والمتطرفة، واستعباد المجتمع وقهره وإذلاله ومصادرة حقوقه، ويدعو البيان إلى طيّ الحرب الكالحة؛ حتى يستعيد المجتمع أنفاسه. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس كما يقال، أو بالأحرى، مربط الوحوش البشرية والسباع الضارية من تجار الحروب وسماسرتها.
لقد أدرك هؤلاء الشباب في تعز، والذين كانوا في طليعة الدعوة للربيع العربي، وأول الخارجين الصائحين: “الشعب يريد إسقاط النظام”، أدرك هؤلاء الشباب أن الحرب كانت أساسًا لعسكرة الربيع العربي المدني السلمي؛ ولإعادة الاحتكام للقوة والانتصار بالسلاح، وهو ما حدث في بلدان الربيع العربي في سوريا وليبيا والسودان والبحرين، وأدّى إلى قمع الاحتجاجات السلمية في لبنان والعراق والجزائر؛ فالخلاص من الحرب ومن أدواتها القاتلة، يعني العودة لمربع الربيع.
يدعم البيان الاحتجاجات الجماهيرية، ويدين قمع المتظاهرين، ويدعو للإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والمختطفين؛ شاكرًا القطاع التجاري على احتجاجه المدني، وداعيًا للاستمرار في التظاهر السلمي، وللمشاركة الفاعلة في الاحتجاج، مؤكدًا على أن معركة اليمنيين وحراكهم الشعبي المدني السلمي، يرتكز على أولوية السلام والخبز، ولا خيار أمام اليمنيين سوى مقاومة من ينتزع خبزهم، ويدفع بهم في جحيم حرب مهلكة- حسب البيان.
كما يشير إلى أن “المكان الطبيعي لممارسة مهام الدولة هو العاصمة عدن، وليس شتات المهجر”، مشدِّدًا على وضع حدٍّ للانهيار الاقتصادي المتسارع، ويدعو إلى توظيف الموارد، وتشغيل الموانئ، ورفع كل أشكال الحظر الذي تمارسه بعض دول التحالف العربي بالتخادم مع أطراف داخلية.
واعتبر البيان الحظر بمثابة قرار تجويع يجعل الشعب رهين المجاعة وحرب بالوكالة، ويُبقي البلاد أسيرة لهيمنة القوى الإقليمية والدولية والمؤسسات الإمبريالية، كالبنك الدولي والشركات متعددة الجنسيات، ويُحمّل البيان كل قوى السلاح المحلية المرتهنة لأجندات إقليمية، مسؤولية الانهيارات، ويحدد قوى الانقلاب الحوثية وإيران، والسلطة الشرعية الكسيحة، والتحالف العربي، كما يدعو إلى تحييد المؤسسات العسكرية والأمنية والميليشيات من التدخل في الموارد المالية، والكفّ عن فرض الجبايات، داعيًا إلى الوقف الفوري لإطلاق النار في عموم اليمن كمقدمة لإنهاء الحرب، والدخول في حوار يمني – يمني يُفضي إلى سلام عادل وشامل ومستدام.
ويرى البيان أن المزيد من الحرب العبثية، وانتشار المكونات غير الرسمية، وفتح جبهات جديدة من الاقتتال البيني، هو استمرار للحرب المدمرة، رافضًا استخدام تعز كمنصة لإذكاء صراعات أهلية تستنهض المزيد من تآكل الهُوية الوطنية الجامعة، ويخلص إلى التأكيد على تكتّل القوى الشعبية المدنية المتضررة من الحرب باتجاه بناء كتلة وطنية تاريخية للسلام تنتصر لليمنيين، وتنقذ كيانهم الوطني، وممارسة الدور الفاعل من أجل إنقاذ بلادنا وشعبنا، ووقف التدهور، والوقوف ضد إطالة أمد الحرب، واستمرار القتل والفساد والإفساد.
ويختتم البيان: “لننتصر للملايين من اليمنيين الجائعين والمسحوقين والمخذولين والمكلومين على امتداد رقعة الوطن الذي يُذبح من الوريد إلى الوريد، الخبز والسلام يوحدنا، والمقاومة المدنية السلمية خيارنا”.
البيان الأول لا بد وأن يتجسد في التأسيس لكتلة سلامية في طول اليمن وعرضها، تتبنى الدعوة السلامية، وتدين الحرب، وتتنادى لاحتجاجات مدنية سلمية كطريق بديل للحرب، وسبيل وحيد للحوار والتصالح المجتمعي والوطني.