يرى أفلاطون أن جمهوريته تهدف إلى قيام نظام عادل، وبمعنى أدق، بعث جديد لنظام تسوده العدالة تجاه أنظمة ظالمة
كتب : عماد الدين الجبوري
المشكلات التي تناولها الفلاسفة في تنظيراتهم العقلية تجاه الواقع الحياتي هي المشكلة السياسية، فالحكم والنظام والسلطة وما يصاحبها من نزاعات وصراعات تؤدي أحياناً إلى قتال وحروب، كلها شغلت المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ. لذلك، يعد الاستقرار السياسي عاملاً مهماً بغية البناء والتطور في كل دولة من دول العالم. ومن هنا، شارك الفلاسفة نظرياً أو عملياً في رسم السياسات، وفق رؤيتهم للدولة وعلاقتها بالفرد والمجتمع.
أفلاطون (427-347 ق.م)
منذ مطلع شبابه خاض أفلاطون المعترك السياسي بحكم جذور أسرته الثرية، وكان عمه أقريطياس آخر حكام أثينا بعد انتهاء حروب الـ “بيلوبونيز” (431-404 ق.م)، التي حارب فيها أفلاطون في ثلاث معارك، ونال جائزة الشجاعة. وعندما انتصرت “أسبرطة” على أثينا، تغلّب نظامها السياسي الرجعي على النظام الديمقراطي الأثيني، فارتحل أفلاطون إلى جنوب إيطاليا، ثم انتقل إلى صقلية تلبية لدعوة من حاكمها يونيسوس الأول، ولكن سرعان ما دب الخلاف بينهما، فنفاه إلى جزيرة “إيجينا” حليفة أسبرطة، فأصبح أسيراً فيها وبيع كالعبيد، وافتداه “أينقيريس”، وعاد حراً إلى أثينا، وأسس في إحدى ضواحيها، قرب حدائق البطل أكاديموس، مدرسته الخاصة لتعليم وتثقيف الشباب الأثيني، واستمر فيها نحو 40 سنة، وصارت تُعرف باسم “الأكاديمية”.
لم يغادر أفلاطون “أكاديميته” إلا في رحلتين قصيرتين إلى صقلية، بعد موت يونيسوس الأول وتولي الحكم أبنه يونيسوس الثاني، الذي تجمعه بأستاذه أفلاطون صداقة حميمة، وهدف الرحلتين باء بالفشل، إذ كان أفلاطون يطمح لإقامة نظام سياسي مثالي في مدينة فاضلة يسودها العدل. بلا ريب، إخفاق أفلاطون بتحقيق آرائه السياسية على أرض الواقع، دفعه إلى تشييد نظام سياسي خيالي يقف على رأس الهرم فيه الفيلسوف الحاكم، فأصل مشكلة السياسة، بحسب رأيه، تكمن في الأخلاق، والمعرفة أساس الأخلاق، ولذلك فإن المدينة الفاضلة أو الدولة المثالية هي التي تتكون من أولئك الذين عندهم العلم والمعرفة، ويحتكمون إلى العقل والفلسفة.
وعليه، فالسياسة هي امتداد إلى الأخلاق، وغاية الأخلاق هي الدولة لا الفرد، لأن الفرد صورة مصغرة للدولة، أو أن الدولة صورة كبيرة للفرد، كما أن “الدولة تنشأ بسبب عدم تمتع أحدنا بالاكتفاء الذاتي بشكل فردي، بل بحاجة إلى أشياء كثيرة… ولذلك، كل فرد محتاج إلى مساعدة الغير، لأننا نحتاج إلى الآخرين الذين يحتاجون أيضاً إلى آخرين. وهكذا، فنحن بحاجة في مسكن العديد من الرفقاء والمساعدين، وإلى هذا المسكن المشترك نعطي الاسم مدينة” أو دولة. (جمهورية أفلاطون، ترجمة إنجليزية).
ومن هذا المنطلق، نقد أفلاطون السفسطائيين الذين أنكروا قوانين الأخلاق وقوانين الدولة، عادينها من اختراع الضعفاء لحماية أنفسهم من جبروت الأقوياء، وقالوا على الأقوياء الاستئثار بالحكم لأن الحق للأقوى فقط. ومقابل ذلك، طرح أفلاطون آراءه السياسية في “الجمهورية” وعلى نحو مشابه في “النواميس” وكذلك في “الخطاب السابع”، فالحكم يجب أن يتمثل بقوة التعقل والمعرفة لا بقوة البطش والجشع.
يرى أفلاطون أن جمهوريته تهدف إلى قيام نظام عادل، وبمعنى أدق، بعث جديد لنظام سياسي تسوده العدالة تجاه أنظمة ظالمة، ويقسّم فيه الطبقات الاجتماعية وفقاً إلى قوى النفس الإنسانية، وهي الناطقة والغضبية والشهوانية. الأولى، النفس العاقلة تقابلها طبقة الفلاسفة، والثانية، النفس الغضبية وتقابلها طبقة الجند، أما الثالثة، النفس الشهوانية فتقابلها طبقة الصنّاع والمحترفين وأصحاب المهن.
وبحسب تصور أفلاطون، أن هذه الطبقات الثلاث لها صلة بدرجات المعادن أيضاً، فالله مزج الذهب بجوهر الفلاسفة، والفضة بجوهر الجند، والنحاس بجوهر سائر الناس. بيد أن أفلاطون لا يعني استمرارية هذه الطبقية بالوراثة، فابن الحاكم ليس شرطاً أن يكون حاكماً، ولا ابن العامل يكون عاملاً، بل كل فرد وفق مؤهلاته التي يحصل عليها بعد فرز الدولة إلى طبقات المجتمع.
وبما أن القوة العاقلة في الفرد لا تحقق العدالة فيها إلا بسيطرة العقل، لذا، فإن العدالة في الدولة لا تتحقق إلا بسيطرة الفلاسفة كقوة حاكمة للدولة، لأنهم وحدهم يعرفون الفضيلة قولاً وفعلاً، وبمقدورهم سنّ القوانين والأنظمة التي ترشدهم إليها، ويتحقق العدل والخير والجمال. فطبقة الفلاسفة نابعة من عموم المجتمع، ويتم اختيارهم من خلال مراحل التعليم التربوي الذي تبدأ مناهجه من الصغر حتى الكبر.
وأبدى أفلاطون اهتماماً خاصاً بالتربية والتعليم لكلا الجنسين الذكور والإناث، فالدولة تتولاهم منذ نعومة أظافرهم بالرعاية والتعليم والرياضة والفن والأدب والموسيقى، فتكون نشأتهم البدنية والعقلية والنفسية سليمة. ومن الجانب الحياتي إلى الجانب الروحي، وتعليمهم الدين والإيمان بوجود الله وخلود النفس. وبعد بلوغهم سن الـ 18 ينقطعون عن الدراسة، ويتجهون نحو التدريبات الرياضية والتمرينات العسكرية لمدة سنتين، بعدها تجري لهم الدولة امتحاناً لانتقاء القادرين على تحصيل العلوم العقلية، الفاشلون يذهبون إلى طبقة العمال وتسند إليهم الحرف اليدوية، والناجحون يتابعون التحصيل الدراسي الأعلى في الرياضيات والفلسفة لمدة 10 سنوات، ثم تجري لهم الدولة امتحاناً عسيراً، المتخلفون يذهبون لطبقة الجند ويولون مناصب عسكرية في الجيش، أما الفائزون فهم النخبة أو الأقلية من الأكفاء الذين يواظبون على دراسة الفلسفة لخمس سنوات أخرى، بعدها توكل إليهم القيادة الحربية والحكم في الدولة، ويستمرون بالممارسة العملية لمدة 15 سنة، وعند بلوغهم سن الـ 50 يكونون قد حققوا من الخبرة والعلم والحكمة أن أصبحوا جديرين باستلام زمام الحكم، فهؤلاء هم الفلاسفة الحكام.
وأعضاء حكومة الفلاسفة عليهم أن يتجردوا من ماديات الحياة كلها، وينذروا أنفسهم لخدمة البلاد فحسب، فلا يخصص لهم مال أو عقار من مبدأ التفضيل، بل يتقاضون أجرهم بحسب الحاجة من دون مزيد. وبما أن طبقة الفلاسفة هم رجال حكم، وليسوا أرباب أُسر، لذا فإن تحررهم من الأسرة يجعلهم ألا يقترنوا بامرأة واحدة، وإنما جميع النساء مشاع لهم، ويجب ألا يعرف والد ولده، ولا مولود والده، لكيلا يبذل جهداً في غير مصالح الدولة، ولا تنشأ العواطف والميول خارج مصالح الدولة. ولم يكترث أفلاطون إلى مستويات العامة من الناس في المجتمع، إذ عليهم أن يتبعوا الأخلاق والأعراف السائدة والالتزام بالقوانين.
فإن أصاب خلل ما هذه الدولة العادلة تنقلب إلى مضاداتها، إذ يتحول بعض الفئات على البعض الآخر، فيصبح الجندي حاكماً والعامل جندياً، وتتحكم الشهوات وتسوء الأخلاق، وتنشأ دول غير عادلة، حددها أفلاطون بأربعة أنواع هي: التغلب، التيموقراطية “Timocracy” وهي دولة المجد العسكري والنفوذ والجاه، وتهيمن القوة الغضبية على العقل فيتراجع شأن الفلاسفة ويفسد الحكم بسبب المنفعة واللصوصية، اليسار، الأوليغارية، “Oligarchy”، وهي حكم الأقلية ذات الثراء التي تسيطر على الدولة وخيرات البلاد، وتعلو شهوة المال على حب العقل والشجاعة. الجماعية، الديموقراطية “Democracy”، وهو حكم الأكثرية الذي يكون فيه الجميع أحراراً متساوين، بلا رئيس أو حاكم يوجه، فتنتشر الفوضى وتزول الوحدة. الاستبداد، الدكتاتورية “Dictatorship”، وهو حكم الطغيان والظلم، ويكثر فيه فتك الأحرار والنفي والتشريد وابتزاز الأموال بالقوة.
وبحسب مفهوم أفلاطون، أن هذه الدول تنشأ بسبب الأفراد غير العادلين، وهم منحدرون من الفرد العادل الذي أهمل قوته العقلية، وترك قوته الغضبية أو الشهوانية تتحكم به، وبذلك بدأ يسير نحو الهلاك، وكذلك بالنسبة إلى الأفراد الذين يأتون بعده، إذ تطغى قواهم السفلى على العليا. وأن أسوأ هذه الدول هي الدولة الجماعية، بسبب اختلاط الديموقراطية والفوضوية، أما أفضلها فهي الدولة العادلة التي يحكمها الفيلسوف بمساعدة طبقة من الحكام الحكماء.
عمد أفلاطون في “الجمهورية” إلى الجمع بين الفرد والمجتمع في طبيعة الحكم ذي البناء الهرمي، ففي قاعدته طبقة العمال والفلاحين والصنّاع والتجار، وفي وسطه طبقة الجند التي تحمي البلاد وتدافع عنه، وطبقة الحكام التي يرأسها الفيلسوف. بيد أن أفلاطون في “النواميس” الذي كتبه في أواخر حياته، تجاوز مسألة مشاعية النساء والأولاد والأملاك، وأعطى قدراً أكبر إلى “قوة القانون”، إذ “ستشرح القوانين نفسها الواجبات التي ندين بها للأطفال والأقارب والأصدقاء وزملائنا، وكذلك الخدمة التي تتطلبها السماء نحو الأجانب، وسوف تخبرنا بالطريقة التي يجب أن نتصرف بها بصحبة كل من هؤلاء الفئات من الناس، إذا أردنا أن نحيا حياة كاملة ومتنوعة من دون خرق القانون. ستكون طريقة القوانين إقناعاً جزئياً، وجزئياً (عندما يتعين عليهم التعامل مع الشخصيات التي تتحدى الإقناع) والإكراه والتوبيخ، ومع تمنيات الآلهة الطيبة سيجعلون دولتنا سعيدة ومزدهرة”. (النواميس، ترجمة إنجليزية).
وهكذا، فمن تركيز أفلاطون على العقل تجاه الواقع إلى إبراز أهمية القانون في تحقيق النظام، وهذه التغييرات وغيرها ناتجة من استدراك أفلاطون لأفكار طرحها نظرياً ولا سبيل إلى تطبيقها عملياً، بل حتى إن طُبقت فلا ضمان إلى نجاحها واستمرارها، ولذلك، قلّل من سقفها المثالي لتقترب من الواقع الحياتي. ومع ذلك، تدارك أرسطو خطأ أستاذه أفلاطون، إذ إن صيغة الحكم لا تتأثر بالفرد إن كان عادلاً أو ظالماً، بل بتأثيرات أخرى، أهمها ظرفي الزمان والمكان، والبيئة وما يتصل بها من الجوانب الحضارية والطبيعية.
نقلا عن أندبندنت عربية