كتب : عيبان محمد السامعي
يمكن القول وبثقة كاملة إنّ الأشقاء الثلاثة: عبدالله، وعلي، وأبو بكر باذيب، قد مثّلوا حالة نضاليّة مُميَّزة ومتفرِّدة على مدى ما يزيد على سبعة عقود من عمر اليمن؛ فقد كان لثلاثتِهم مسارات خصيبة في الفكر والثقافة والنضّال السياسيّ. وثلاثتُهم جسّدوا نموذجاً مَسلكياً مُضيئاً يُقيم علاقة ارتباط وتناغم هَارمُوني بين القول والعمل، بين النظريّة والممارسة، بين الأفكار والمواقف والقناعات، فالثقافة والمعرفة بالنسبة لهم موقف وانحياز مطلق لعموم الناس أولاً وأخيراً.
لم يكنْ لديهم من سلاح سوى الفكرة المُضيئة، والكلمة المنحازة لكل ما هو إنسانيّ وجاد ومثمر ومستقبليّ، وقد آمنوا عن يقينٍ تام بأنَّ قيمة الإنسان إنّما تكمنُ في تحصيل المعرفة العلمية وخدمة الناس والانتصار لقضاياهم.
تحاولُ هذه السطور أن تبرز بعض ملامح التجارب النضاليّة للثلاثيّ البَاذّيبيّ، مع الإقرار المُسبَق بصعوبة هذا الأمر؛ فالكتابة عن تجارب المناضلين الثلاثة ستظل قاصرةً ومنقوصةً؛ ما لم تَنْهض جهة مؤسسيّة جادَّة بمهمّة جمع تراثهم الفكري وتوثيق وتخليد نضالاتهم ودراستها والاستفادة منها على نحوٍ أمثل.
تقولُ السيرة النضاليّة للأشقاء الثلاثة بأنهم ينحدرون من أسرة كادحة يعود جذورها إلى مدينة الشحر أو “سعاد” الحضرميّة الساحليّة، وقد نشأوا وترعرعوا في مدينة عدن حاضرة اليمن وثغرها الباسم. وفي بداية حياتهم واجهتهم صعوبات ومشقّات جمّة، فقد وقف الوضع المادي الصعب للأسرة حجرة عثرة أمام الشقيق الأكبر عبدالله عبدالرزاق باذيب لاستكمال تعليمه الثانوي؛ لكنّه لم يُسلِّم بهذا الوضع، بل تسلَّح بالإصرار والعزيمة فانكبَّ على تثقيف نفسه ذاتياً حتى أصبح أحد المفكرين الماركسيين البارزين على مستوى البلاد العربية، وأول أمين عام لحزب الاتحاد الشعبيّ الديمقراطيّ، أول حزب ماركسيّ على مستوى اليمن بل الجزيرة العربية بأسرها، وأحد الصحافيين اللامعين الذي لا يزال صداه يتردّد منذ خمسينات القرن العشرين وحتى اليوم.
*عبدالله باذيب.. رائد الاشتراكية العلمية في اليمن:*
تعودُ بِدايات ارتباط المناضل عبدالله عبدالرزاق باذيب (1931 – 16 أغسطس 1976) بالفكر الماركسيّ إلى مُطالعته المبكرة للكتب الماركسية، وهو لا يزال شاباً يافعاً أثناء ما كان يدرس المرحلة الثانوية، تلك الكتب التي كانت تدخل إلى “مستعمرة عدن” آنذاك بعيداً عن أَعْيُن سلطات الاحتلال البريطاني وأعوانِها، وقد كانت كتابات القائد الشيوعيّ السوريّ البارز خالد بِكدَّاش من أبرز الكتابات التي تأثّر بها الفقيد.
يُفيدُ الأستاذ المناضل أنيس حسن يحيى ــ عضو المكتب السياسي لحزبنا في شهادة شخصية عن رفيقه عبدالله باذيب، بأن الفقيد كان يتردّد على أحد ساكنيّ حي “الرزميت” في عدن وهو محمد ناصر علي، الذي كان له إطلاع مبكر بالكتابات الماركسية، وهو ما جذب الفقيد إليه، ويضيف بالقول بأن الفقيد كان يصطحب في كل زياراته رفيقيّ دربه علي باذيب وأحمد سعيد باخبيرة. [1]
منذ ذلك الحين، أي أواخر أربعينات ومستهل خمسينات القرن الماضي بدأت الخلايا الأولى لحزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي بالتشكُّل؛ غير أنّه ولظروف موضوعيّة فضلاً عن الجو المُعادي للشيوعية في اليمن والعالم العربيّ حينذاك لم يتسنَّى له عقد مؤتمره التأسيسي إلا في 22 أكتوبر 1961، الذي ــ بالمناسبة ــ تصادف هذه الأيام مرور الذكرى الـ60 لتأسيسه.
كان طيّب الذكر عبدالله باذيب قد وضع بصمات مضيئة في سياق النضّال الوطنيّ ضد الاستعمار البريطانيّ، إذ أسّس عام 1949 مجلة “المستقبل” إحدى أهم المجلات التي ساهمت في مقارعة الاحتلال والدفاع عن أبناء الشعب اليمني، وقد تميّزت كتابات الفقيد في تلك الفترة بتأثير واسع في أوساط الجماهير، وشكّلت صداعاً مؤرقاً قضَّ مضاجع سلطة الاحتلال وأعوانها، إلى درجة أن سلطة الاحتلال عقدت محاكمة للفقيد بسبب مقال نشره في صحيفة “النهضة” عام 1955، وكان يحمل عنوان “المسيح الجديد يتكلم الإنجليزية”، وتضمّن المقال تفنيداً موضوعياً للدعوات الزائفة التي تدعو إلى التآخي والمحبة بين الجماهير الشعبيّة المسحوقة والقوى الاستعماريّة والأجنبّية وأعوانها من رموز الرجعيّة المحليّة، لكن وبخلاف ما أرادته السلطة الاستعماريّة تحوّلت جلسة محاكمة عبدالله باذيب إلى محاكمة للمستعمِرين وأعوانهم، فقد توجَّهت تظاهرة شعبية عارمة متضامنة مع عبدالله باذيب إلى أمام المحكمة في مدينة التواهي وحاصرت المحكمة أثناء ما كانت تعقد جلسة المحاكمة، مما دفع بالقاضي البريطاني إلى الافراج عن عبدالله باذيب في مقابل أخذ تعهُّد منه “بحُسن السلوك لمدة خمس سنوات وبضمان مالي قدره ألفا شلن”.
كان هذا الحدث ثوريّاً وتاريخيّاً بكل المقاييس، فقد وجَّه صفعةً مدويّةً للاحتلال وأعوانه، وفي خضِّم هذا الحدث المشهود كتب الشاعر لطفي جعفر أمان قصيدة شهيرة، يقول فيها:
أخي كبّلوني
وغلّ لساني واتهموني
بأني تعاليت في عفتي
ووزعت روحي على تربتي
فتخنق أنفاسهم قبضتي
لأني أقدّس حريتي
لذا كبّلوني
****
أخي يا أخي
أيصفعني الخوف؟ لا يا أخي
أأحبس ناري ؟ لا يا أخي
أنا لطخة العار في موطني
إذا انهار عرضي ولم أصرخ
****
بحق الوطن
بهذا القسم
أخي قد نذرت الكفاح العنيد
لهذا الوطن
إلى أن أرى أصدقائي العبيد
وهم طلقاء
يقولون ما مات حتى أنتقم
رغم كل المضايقات والملاحقات التي تعرَّض لها الفقيد عبدالله باذيب، إلا أنها لم تنثنِ له إرادة ولم تلِن له قناة، فقد بَقِيَ متمسكاً بحق الشعب في نيل الحريّة من الاستعمار وبناء نظامه الوطنيّ الديمقراطيّ المستقل.
اضطر عبدالله باذيب، بعد ذلك، للجوء إلى مدينة تعز والبقاء فيها لمواصلة نضاله ضدّ الاستعمار، ومن هناك أصدر جريدة “الطليعة” وفتح مكتباً لإدارة العمل السياسي المناهض للاستعمار وتحرير جنوب اليمن المحتل.
ساهم الفقيد أثناء إقامته في مدينة تعز في نشر الوعي الثوريّ والفكر الاشتراكيّ في أوساط الشباب، هذا الدور سَيُثمِر لاحقاً ــ بالتحديد في سبتمبر 1965ــ عن قيام ثُلّة من الشبيبة بتأسيس فصيل ماركسيّ هو اتحاد الشبيبة الديمقراطيّة اليمنيّة المعروف اختصاراً بـ”أشدي”، وكان من بين أبرز قياداته: د. عبد الغني علي أحمد وزير الاقتصاد والخزانة في أول حكومة بُعيد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، وعبدالله صالح عبده وسلطان أحمد زيد وأحمد صالح جبران وعبدالله حسن العالم وغيرهم، وسيتطوّر هذا الفصيل ليصبح عام 1970 حزب اتحاد الشعب الديمقراطيّ ــ فرع الشمال.
أما في الشطر الجنوبي فقد تأسس حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي في 22 أكتوبر 1961، كما أسلفنا، لقد كان الحزب بمثابة الإشعاع التنويريّ والتثويريّ للطبقة العاملة اليمنيّة ولحركتها النقابيّة، إذ كانت جريدة “الأمل”، التي كان يُصدرها الحزب ويترأس تحريرها عبدالله باذيب، منبر العمال وصوتهم الصّادِّح، وساهمت في إِذكّاء الوعيّ العماليّ والطبقيّ والوطنيّ في صفوف الحركة العماليّة وسائر جماهير الشعب في عدن وعموم اليمن.
وقد صدر عن الحزب وثيقة برنامجيّة هي “الميثاق الوطني” وتحت شعار “نحو يمن حر ديمقراطي موحد”، وفي الواقع لم يكن هذا مجرد شعار، بل كان يعكس بدقة متناهية وعمق كبير مضامين تلك الوثيقة البرنامجيّة الهامة، التي ربطت وبشكل إبداعيّ خلّاق بين مسارات النضال الوطنيّ في جنوب الوطن وشماله، إذ أشارت الوثيقة إلى العلاقة العضويّة والتلازُّمّيّة القائمة بين تحقيق التحرر الوطني من الاستعمار البريطانيّ وركائزه من السلاطين والحكام الاقطاعيين في الجنوب، وبين النضال الاجتماعي الساعي للانعتاق من سلطة الإمامة الكهنُّوتيّة في الشمال، وأن تحقيق هذَّين المسارين سيوفّر الشروط الموضوعيّة لتحقيق الوحدة اليمنيّة على أسس ديمقراطيّة سليمة.
لقد مثّل “الميثاق الوطني” بحق رؤية برنامجيّة علميّة، اتسمّت بالدّقة والشّمول والتحليل الموضوعيّ للواقع الاجتماعيّ والطبقيّ في جنوب اليمن وشماله، وحددت بدقة مهام النضال الوطنيّ بآفاقه الاشتراكيّة.
*علي باذيب.. المفكر النَّابِه، والأديب المثقف:*
كان للفقيد المناضل علي باذيب (1934 – 21 يناير 1991) إسهامات مشرقة في أكثر من مجال، في السياسة والثقافة والأدب والصحافة والإعلام والعمل النقابيّ والسلك الدبلوماسيّ. وتقلَّد مناصب عديدة، أبرزها: وزير الثقافة والإرشاد، وزير الإعلام، ونائب رئيس الوزراء، وسفير اليمن الديمقراطيّ لدى ألمانيا الديمقراطيّة، وهو أحد مؤسسي حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي، ومن ثمَّ من مؤسسيّ الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ وعضواً في مكتبه السياسيّ منذ مؤتمره التأسيسيّ في 13 أكتوبر 1978م. كما ترَّأس تحرير عدداً من الصحف، وكان عضواً في هيئة تحرير مجلة النَّهج الصادرة عن مركز الدراسات الاشتراكيّة في العالم العربيّ.
كان حلمه الأسمى ككل المناضلين الوطنيين الشرفاء رؤية بلده وشعبه وقد سارا على طريق الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية والمواطنة حيث ينال كل فرد من أبناء الشعب اليمني حقوقه الإنسانيّة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
لعب الفقيد علي باذيب دوراً طليعيّاً في مختلف المحطّات التاريخيّة في تاريخ اليمن السياسيّ المعاصر، وهو المفكر الذي تفرَّد عن سائر رفاقه وأقرانه بوضوح الرؤية، وبالموقف النّاضج والمُتقدِّم زمنيّاً ونوعيّاً والواعي لظروف الواقع ومُلابساته. فكان بحق المفكّر الذي حمل القضية الوطنيّة وتطلّعات الشعب هَرَمَاً رابعاً، وسعى في سبيل ذلك إلى تقديم الرُّؤى البرنامجيّة بأُفُق سياسي رحب ووضوح نظريّ ومنهجيّ تام.
لعلّ الكُتيّب المُعنون بـ “حركتنا الوطنية.. أين تتجه؟؟” الذي نُشِرَ في يناير 1961م يمثل نموذجاً لامعاً لهذا الوضوح النظريّ والتماسك المنهجيّ الذي اتَسّم به علي باذيب. فقد حدد مسار النضال الوطنيّ والتحرريّ بوضوحٍ تام في ظروف سياسيّة وتاريخيّة مُلتَبسة، حين ربط قضية التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني؛ بقضية الديمقراطية الاجتماعية والتحرر من قوى الاقطاع والاستبداد السياسيّ في الجنوب والشمال؛ وبناء بديل وطنيّ وتحقيق الوحدة اليمنية بمضامين ديمقراطيّة تقدميّة.
ورأى علي باذيب أن ذلك كله لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وحدة القوى الوطنيّة في سائر اليمن. ولهذا دعا إلى تشكيل “جبهة وطنية متحدة” لتكون بمثابة الإطار الوطنيّ الجامع لمختلف القوى السياسيّة والاتجاهات الفكريّة التي تلتقي حول أهداف مشتركة وهي: مواجهة الاستعمار والقوى الرجعية، والسعي نحو تحقيق التحرّر الوطنيّ، والتقدّم الاجتماعيّ، وتحقيق الوحدة اليمنيّة.
جاءت هذه الدّعوة “الباذيبية” المبكرة والمُتقدِّمة قياساً بالخطاب السياسي السائد يومذاك، تتويجاً لتحليل موضوعيّ لواقع اليمن في خمسينات القرن الماضي، حيث كانت اليمن تغرق في حالة من التمزُّق والتشطير والتخلف، وتعاني من فظّاعات الاحتلال البريطاني في الجنوب ومرارات الاستبداد الاماميّ الكهنوتيّ في الشمال.
أدرك علي باذيب أن جسامة المهمّات الوطنية وتعددها وتنوّعها على مختلف الأصعدة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي واقع معقّد كواقِعنا اليمني، تتطلب مثل هذا الشكل التحالفيّ الجبهويّ الوطنيّ الواسع؛ ذلك لأنه لا يمكن لأيّ طرف أو تيار أو بضعة تيارات أن تنهض بأعباء هذه المهمات وتنجزها مهما توهمّت ذلك..!
وفي هذا السياق، يشخِّص علي باذيب أسباب أزمة الحركة الوطنية التي من أبرزها: التعصُّب والانغلاق والاستغراق في الخصومات والمهاترات السياسيّة العبثيّة، والانصراف عما هو أساسيّ وجوهريّ، والانشغال بما هو ثانويّ وهامشيّ، وكل ذلك كان يصب في مصلحة الاستعمار وأعوانه وفي مصلحة الاستبداد السياسي.
ونظراً لخطورة هذا الأمر على مسار النضال الوطني، دعا علي باذيب إلى الديمقراطية وتجسيد قيم الإخاء الوطني والقبول بالآخر ونبذ التعصب، و”ضرورة العمل على أن ندير مناقشاتنا بإخلاص وتواضع، بعيدين عن الغرور الأجوف، والادعاء الكاذب، والتهجّم الرخيص، ومستعدين لأن نتقبل مناقشة بعضنا بعضاً بروح الإخاء الوطني ومن أجل أن نصل إلى الحقيقة.”[2]
كما حذّر علي باذيب من خطورة فرض الصيغة الأحادية أو التنظيم الواحد كبديل عن الجبهة الوطنية الواسعة، داعياً إلى اعتماد الأسلوب الديمقراطي في التعاطي مع مختلف القوى الوطنية، وضمان حرية النشاط السياسي وسائر الحريات الديمقراطية.
لقد قُوبلت دعوة علي باذيب بتشكيل “الجبهة الوطنية المتحدة” بموقف رافض وممانعة شديدة من مختلف القوى التقليدية والقومية، وتساوت في هذا الموقف القوى الانفصالية مثل رابطة أبناء الجنوب العربي، والقوى التقليديّة المهادنة للاستعمار كالاتحاد اليمني، وكذا القوى القوميّة من بعثيّة وحركّيّة وناصريّة.
*أبو بكر باذيب.. التنويري الكبير، والسياسي المخضرم:*
يُعدُّ الفقيد المناضل أبو بكر باذيب (11 ابريل 1940 ـــ 16 أكتوبر 2021) واحداً من أبرز مناضليّ الحركة الوطنيّة التقدميّة على امتداد 7 عقود من الزمن.
بدأ الفقيد مشواره النضالي الحافل بكل الأمجاد من خلال انخراطه في مجال التعليم، فقد أسهم بفاعليّة في تأسيس “كُليَّة بلقيس”، التي افتتحت في 16 أكتوبر 1961، وهي المؤسسة التعليميّة الوطنيّة الرائدة والمستقلة من عَباءة الاستعمار البريطاني، فقد أُنشئت كلية بلقيس بهدف إتاحة حق التعليم أمام جميع أبناء اليمنيين من الشمال والجنوب، والذين حَرَمَتهم قوانين سلطة الاحتلال البريطاني من هذا الحق الأصيل، إذ سَنَّت السلطة الاحتلاليّة فَرَمَاناً تحت مُسمى “حقوق المواطنة في عدن” أو ما عُرف شعبيًّا بفرمان “المَخْلِقة”، الذي بموجبه اُعتُبِرَ كل من يولد في عدن، سواء من أهالي عدن أو من أبناء أعضاء الجاليات الأجنبية من دول الكومنولث، مواطنين مكتسِبِين لكامل حقوق المواطنة، والتمتّع بحق التعليم في مدارس التعليم الحكومي، بينما حُرِمَ الآخرون وهم أبناء اليمنيين الذين ينحدرون من بقية المناطق الجنوبيّة والشماليّة من تلك الحقوق.
وبسبب هذه القيود، لجأ الوطنيُّون اليمنيُّون إلى إنشاء مدارس أهليّة، من أبرزها: كلية بلقيس لإتاحة فرص التعليم لأبناء اليمنيين من الشمال والجنوب على السَّواء، الذين حرمتهم منه قوانين الاستعمار. وضمّت الكلية فصولًا دراسية للبنين والبنات، وكانت الهيئة التدريسيّة في الكُليّة وطنيّة خالصة، وتتكون من:
حسين علي الحبيشي ــــ عميد الكلية.
أبوبكر عبدالرزاق باذيب.
علي عوض بامطرف.
عبدالعزيز عبدالغني.
عبدالله عيدروس السقاف.
محمد أنعم غالب.
أحمد عمر بن سلمان.
عبدالرحيم الأهدل. [3]
استمرّ الفقيد يُسجّل حضوراً مميزاً في مضمار التعليم من موقعه كمعلم ومُربّي قدير في مدرسة الجلاء بخور مكسر، ثم عميداً لكلية التربية العليا في بداية تأسيسها في سبعينات القرن الماضي.
ارتبط الفقيد أبو بكر باذيب بعلاقات وثيقة بالشيوعيين المصريين أثناء دراسته الجامعية في القاهرة في أوائل ستينات القرن العشرين، وأَمكنَ له ذلك من الاطلاع على نتّاجّات المفكرين الماركسيين العرب والأجانب، مما كوَّن لديه تراكماً معرفياً ونظريَّاً ثريَّاً وظّفه الفقيد بصورة خلّاقة في مسيرته النضاليّة الحزبيّة والتنويريّة العامة.
اشترك الفقيد في وضع اللبنات الأساسية لحزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي بمعيّة شقيقيه: عبدالله وعلي باذيب، بالإضافة إلى المناضل الفذّ أحمد سعيد باخبيرة ومناضلين آخرين.
كما أسهم بفاعليّة في تأسيس الحزب الاشتراكيّ اليمنيّ، وأصبح عضواً في مكتبه السياسي في أوائل الثمانينات، ثم سكرتيراً للدائرة التنظيميّة للجنة المركزيّة، ثم أميناً عاماً مساعداً للحزب للشؤون الفكريّة والتنظيميّة في مطلع الألفيّة الثالثة.
كان الفقيد وهو يتسنّم هذه المواقع مثالاً مُشرقاً للسياسيّ الحكيم، صاحب الرؤيّة الثّاقِبة. لقد تسنّى لي التعرُّف على الفقيد أبو بكر عن قُرب في عام 2013 حينما كنتُ ضمن فريق الاشتراكيّ في مؤتمر الحوار الوطنيّ، وأثناء انعقاد الاجتماعات والمناقشات، وحينما كانت الآراء تتضارب والأصوات تتخالط والأجواء تتلبّد، كان الفقيد يتدخل ويعيد الأمور إلى نصابها، يناقش بهدوء وبموضوعيّة ورصانّة واتّزان نفسيّ وعمق فكريّ، يستخدم لغة الإقناع ببراعة، ويلفت انتبّاه الآخرين لزوايا مُهْمَلة، يوّسّع دائرة التفكير وفي الآن ذاته يُصوّب بدّقة نحو لُّبّ القضيّة.
*جوهر التجربة الباذيبية:*
المُلفت للنظَّر في تجارب البَاذّيبيين الثلاثة هي القدرة الإبداعيّة على المَزج بين حقول متعددة: الفلسفة والفكر والسياسة والثقافة والأدب والصحافة والنضال الجماهيريّ والنقابيّ؛ هنا يتجلى نموذج المثقف العضويّ في أروع وأبهى صورة، ذلك المثقف الذي يربط النظرية بالتطبيق، والأخلاق والمبادئ بالممارسة والسلوك اليوميّ.
لقد أدرك الثلاثة الكبار، ومنذ وقت مُبكّر، أن رسالة المثقف هي تنوير الناس بالمعرفة العلمية التقدمية ضِدّاً على الجهل والخُرافة والتخلّف والظّلاميّة، وتسيسهم وتثويرهم لنيل حقوقهم الإنسانية، ومشاركتهم في تحقيق التغيير المنشود، فبدون الارتباط بقضايا الناس ينتفي معنى المثقف وقيمة الثقافة.
آمن الباذيبيون بأنّ الديمقراطية تمثّل قيمة إنسانيّة كونيّة كبرى، فهي ليست مجرد شكل ديكوريّ أو شعار ديماغوجيّ أو مجال محدود لممارسة السلطة، بل هي منظومة متكاملة، تنظّم عملية التنافس السياسي الشريف بهدف تقديم النماذج الفُضلى لخدمة المجتمع، وهي الشرط الضروري للتفتّح والإبداع والابتكار وتحقيق التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وبها يرتقي ويتطور الوعي الاجتماعي وتزدهر الآداب والفنون والعلوم، وهي سيّاج تحمي المجتمع من الانزلاق في مَهاوي الصراعات والتمزّقات الأهلية، وتُنمّي الحسّ العام المشترك تجاه الجديد والأجّد.
وهي ــ أيضاً ــ النقيض الموضوعي الحدّي للفاشيّة والعنصريّة الاستعلائيّة التي تحصر الحكم في مجموعة من الأفراد دُوْناً عن بقية الناس، بالاتّكاء على أوهام الفرادة والتفوق العرقيّ أو السلاليّ أو الدينيّ أو الطائفيّ أو القبليّ أو الجهويّ أو القوميّ… إلخ.
الديمقراطية من المنظور البَاذّيبيّ، إذن، هي ممارسة الناس للسياسة باعتبارها ــ أي السياسة ــ حقاً أصيلاً ومُشاعاً، ومن خلال العمل السياسي الديمقراطي يتحوّل الشعب من مجموعة بشرية مُستبعدة أو تابعة إلى كيان سياسيّ ديناميّ فاعل، يتفاعل مع الواقع، يغيّر ويتغيّر، يتحرك ويمارس ويتطوّر ويبدع، إنها الممارسة الإبداعية للنضال أو “البراكسس” بلغة المفكر الشيوعيّ الإيطاليّ أنطونيو غرامشيّ.
والباذيبيون، قبل ذلك وبعده، هم التجسيد الحيّ لحيويّة الماركسيّة ومُواكَبَتِها للمستجدات، فالماركسية بالنسبة إليهم دليل نظريّ ومنهج علميّ لدراسة الواقع الاجتماعيّ واستيعاب عملياتهِ وظروفهِ وملابساتهِ المتشابّكة والمعقّدة بهدف تغييره، وليست نصاً دوغمّائيّاً مغلقاً وجامداً ونهائياً، بل هي رؤيّة جدليّة تغييريّة عميقة مفتوحة على الجديد المتوَثّب والفَتيّ المتناميّ.
كان الباذيبيون لحظةَ بَصِيْرة استثنائيّة ثاقِبة في ظروف كانت تطغى فيها الشعارات الرومانسيّة البرَّاقة، وتسيطر عليها الحركات الشعبويّة ومبدأ “حرق المراحل” و”العنف الثوريّ”… إلخ!
فلطالما حذروا من التطرّف اليسارويّ والإجراءات التعسفيّة، تلك التي لا تستوعب واقع المجتمع وخصوصيته، ولا تُقِيْمُ وزناً للواقع الموضوعيّ وملابساته؛ من بين تلك الإجراءات مثلاً: إجراءات التأميم، واحتكار السلطة، ومنع التعدديّة السياسيّة والحريّات المدنيّة، وفرض الحكم الشموليّ والصيغة الأُحاديّة في الفكر والسياسة والإدارة الاجتماعيّة بالقوّة والعنف.
وإزاء ذلك، قدَّموا رؤىً موضوعيّة نَابِّهة، ونَابِّعة من فهم ودراسة مُعمّقة للواقع وللشروط الموضوعيّة للنضال، ولكن وُوجِهت تلك الرؤى بأُذُنٍ من طين وأخرى من عجين! فكانت المَهلَكَة وكانت الكارثة!
حقاً لقد كان الباذيبيون الثلاثة صوت العقل والحكمة، وضمير الشعب والأمة اليمنيّة..
لقد رحلوا عن دُنيانا بأجسادِهم، لكنّ فكرهم سيبقى مشعلاً بروميثيوسياً ينير طريق الأجيال نحو “وطن حر وشعب سعيد”.
الهوامش والإحالات:
1- راجع: أنيس حسن يحيى، “الفقيد عبدالله باذيب.. قامة وطنية سامقة ومفكر تنويري تقدمي نادر” (مقال)، ضمن كتاب: “عبدالله باذيب.. القائد والمفكر الاشتراكي”، تعز، منتدى تعز الثقافي، ط2، 2013.
2- للمزيد، راجع: علي باذيب، حركتنا الوطنية.. أين تتجه؟، يناير 1961، (د.ن).
3- راجع: كرامة مبارك سليمان، التربية والتعليم في الشطر الجنوبي من اليمن (1930 – 1970)، ج1، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 1994.