بسبب “إميل أو التربية” وعلى خطى رقابة السوربون والكنيسة
إبراهيم العريس باحث وكاتب
في أيامنا هذه يبدو كتاب جان جاك روسو “إميل أو التربية” مجرد نص مميز يتناول أصول تربية الصغار، ومبادئ التربية القويمة بشكل عام، أو هذا ما يمكننا أن نفترضه من خلال قراءة سريعة له أو عبر ما كتب عنه ومن حوله طوال 250 سنة مرت على نشره للمرة الأولى عام 1762، وتحديداً أواسط حقبة عرفت بكونها حقبة التنوير والتعليم الكبرى في التاريخ الحديث، وانتهت باندلاع الثورة الفرنسية التي ربما اعتبر الكتاب من الداعين إليها، كما اعتبر مؤلفه من كبار الممهدين لها إلى جانب فولتير وديدرو ومونتسكيو والموسوعيين وغيرهم من التنويريين الكبار.
فإذا كانت الحال كذلك واعتبرت إسهامات “إميل” في التمهيد للثورة أساسية جنباً إلى جنب مع فولتير بشكل خاص، فلماذا كان فولتير ذات يوم في مقدم مهاجمي الكتاب، بل أكثرهم شراسة مزايداً في ذلك على الكنيسة التي رفضت الكتاب جملة وتفصيلاً، وحكمت على مؤلفه بالحرمان كما على الرقابة السياسية الرسمية، والأدهى من ذلك أن موقف فولتير تطابق يومها مع موقف جامعة السوربون التي شجبته بدورها؟
تكسرت السهام على السهام
مهما يكن من أمر، فلئن كنا سنفهم موقف الكنيسة بوضوح من خلال ما سيلي، وإن كنا سنرى في موقف السوربون امتداداً للموقف السلطوي الرسمي في زمن لم تكن فيه الجامعات سوى رديف لتلك السلطات إلى حد اتهامها بأنها حصن رجعي، فسيبقى من الصعب علينا أن نفهم موقف فولتير الذي كان دائماً في ذلك الحين من كبار دعاة حرية الفكر، فما باله يكتب عن مؤلف زميله في الفكر الحر والتنوير، في نص أصدره غفلا من التوقيع عنوانه “شعور المواطنين”، متهماً إياه بالزندقة والنذالة، بل أكثر من هذا ها هو فولتير يستغل الفرصة ليكشف عن أن روسو ارتكب ما هو أسوأ، “إذ إن روسو، كما تقول مقالة فولتير، عرض أطفاله لخطر الموت على باب أحد المستشفيات يوماً رافضاً أن يتلقوا العناية بمكرمة من فاعل خير”، وعلى هذا اتهم فولتير روسو بالتمرد “مطالباً بإنزال أشد العقاب عليه”، ومن المؤكد أن ذلك الموقف غير المتوقع كان هو ما حض روسو وقد بلغ به الحزن والغضب أعلى الدرجات على الهرب إلى كانتون فو السويسري مبارحاً فرنسا، لكننا نعرف أن كل تلك المواقف مجتمعة لم تقلل من شأن “إميل أو التربية” بل عززت مكانته مقللة في طريقها من مكانة فولتير، وراسمة وصمة عار في تاريخه من المؤكد أنه لم يبرأ منها أبداً.
القراءة بين السطور
ولكن هل كان كتاب روسو هذا يستحق كل ذلك الرجم؟ أبداً إذا نظرنا إلى الأمور نظرة سطحية وقرأنا فصول الكتاب بوصفه تربوياً ينطلق من نية حسنة، بيد أننا إن قرأناه بين السطور وربطناه بالظروف السياسية مفسرين إياه على ضوئها، فسنصل إلى نتيجة معاكسة تماماً تقوم على أساس أننا هنا إزاء كتاب سياسي أولاً وأخيراً، يدعو إلى ما يتجاوز ومن بعيد مسائل التربية حتى وإن كانت تلك المسائل عموده الفقري، فالجوهر هنا، بل بيت القصيد بالنسبة إلى روسو، كان مزدوجاً، إذ نجده يوجه سهامه الحادة ناحية هدفين هما الأكثر علواً في البلاد من ناحية السياسة (السلطة السياسية الحاكمة بمؤسساتها وقوانينها) ومن الناحية الدينية (الكنيسة وأساليبها القمعية في تربية الصغار وتعليمهم)، وهذا من خلال القول “إن الكتاب يزعم أنه يقص على قرائه حياة وتربية الفتى إميل الذي أنيطت تربيته بالمؤدب جان جاك، أي مؤلفنا نفسه، فراح يقص علينا كيف ربى الفتى على الضد مما كان سائداً في ذلك الزمن”، وما يقصه علينا الكاتب إنما يقوم على برنامج تربوي ثوري سنجد حتى أكثر ضروب التربية في القرن العشرين متخلفة عنه.
إيمان البسطاء الطيبين
في المقام الأول لا ينكر روسو أن الدين أمر جوهري في حياة الناس، وفي هذا السياق يرى روسو ضرورة تعليم الصغار شؤونه شرط أن يقتصر ذلك التعليم على ما يمكنهم فهمه، بمعنى أنه لا لزوم لتعليم الصغار دقائق الدين وتفاصيله ولا أسرار الإيمان، فبما أن الرب موجود بالتأكيد ويؤكد العقل ذلك، فيجب أن يكتفي الصغار وهم على عتبة سن البلوغ بمعرفة أن الله خير وأنه يريد سعادة البشر، فتكون مهمتهم بالتالي البحث عما هو خير في علاقتهم به.
ويرى روسو أن هذا البحث في حد ذاته ما يوصل الصغار إلى الرب الذي يتولى بدوره فتح أعينهم على ما يتوجب عليهم فعله وتأمله، والطريف أن هذه الفكرة التي قد تبدو لنا اليوم بديهية، بدت لروسو من الخطورة بحيث أنه عبر عنها في الكتاب في فصل عنونه بـ “فعل إيمان قسيس من سافواي” على لسان رجل دين كاثوليكي متواضع، بل هو من التواضع لدرجة أن الإيمان الذي يدعو إليه إنما هو إيمان الناس البسطاء الطيبين، الذي يبدو الأقرب إلى الله في رأيه والقريب جداً من مسيحية القديس فرانسوا الأسيزي، وبالنسبة إلى الكاتب فإن هذه الغريزة الألوهية هي، وأكثر كثيراً من العقل في حد ذاته، ما يمكنها أن تسمو بالإنسان فوق أصناف الحيوان.
الزميل الأكثر إيلاماً
بالنسبة إلى روسو، وهو ما يكرره ويؤكده مرات عدة في “إميل أو التربية”، فالإنسان طيب بطبعه وبالتالي يمكنه أن يعرف الخير ويمارسه من دون أن يكون عالماً، وبعدما أنكر الحاجة إلى رجال الدين للتعرف على الخير والعناية الإلهية، ها هو هنا ينفي الحاجة إلى المفكرين والفلاسفة أيضاً كوسيلة تساعد الناس في الوصول إلى معرفة الخير، ومن هنا كانت تلك الضجة المستنكرة التي جابهت كتاباً كان يمكن له، لو خلا من مثل هذه الأفكار التي كانت تعتبر ثورية في حينه، أن يمر ويعتبر دليلاً جيداً في التربية، لكن روسو لم يكن من الذين يرضون بأنصاف الحلول، فكتابته إما أن تكون جذرية أو لا تكون، وبالتالي ها هي السلطات تتحرك حتى قبل انتظار حثها على التحرك من قبل الكنيسة، ففي حين رفضت جامعة السوربون الكتاب يوم السابع من يونيو (حزيران) من ذلك العام 1762 جملة وتفصيلاً، أمر برلمان باريس المنعقد في التاسع من الشهر نفسه بإحراقه، وهو نفسه ما كانت فعلته مدينة جنيف مسقط رأس روسو، والتهمة كانت نفسها: الزندقة والتحريض السياسي.
وفي سويسرا كان من السهل على روسو أن يبدي رد فعل عنيفاً، إذ نراه يسارع إلى التخلي عن جنسيته السويسرية احتجاجاً، لكن فرنسا لم تكن بمثل تلك السهولة، ومن هنا بارحها خصوصاً أن الهجوم ضده تكاثر وتحديداً على إثر الهجوم المباغت وغير المتوقع الذي بادره به فولتير، مما حرك ضد الكاتب أصواتاً وأقلاماً كانت تقف في صفه عادة،
سنوات المرارة الأخيرة
ولسنا في حاجة هنا بالطبع إلى تأكيد أن هجوم فولتير عليه كان الأكثر إيلاماً له، وهو الذي سيجعله يكتب لاحقا في الكتاب العاشر من كتابه العمدة “الاعترافات” الذي لن ينشر بالطبع إلا بعد سنوات من رحيله، أن مع ذلك الهجوم “بدأت بالنسبة إلي عصور الظلمات الكئيبة التي وجدتني غائصاً فيها طوال نحو ثماني سنوات من دون أن أتمكن من إحداث ولو ثقب في كثافة حصارها لي”، والمؤسف أن جان جاك روسو (1712 – 1778) الذي سيرحل عن عالمنا وفي نفسه كل تلك المرارة، لم يعش ليرى الأفكار التي عبر عنها بقوة وثقة في “إميل أو التربية”، وقد شاعت طوال الأزمنة التالية إلى درجة بات معظمها يشكل القواعد العامة والمبدئية للتعامل التربوي مع الصغار.
نقلاً عن أندبندنت عربية