الخيال المناخي صعد بسرعة إلى مرتبة النوع الأدبي المعترف به، وتزايدت أعداد من يتخيلون أزمنة مستقبلية كي يحتموا بها من فوضى الحاضر
كريس باك
قبل أن تبلغ الساحل، ترى الرافعات تتزاحم وتعلو صوب السماء كأنها الأشجار في غابة. في ضباب الحرارة، يتردد صدى تلك الآلات الحديدية عند منتصف المسافة، إذ تنكب بدأب على نقل التراب ودكّه في الأرض بقوة مزلزلة.
خلف موقع الإنشاءات، يتلألأ البحر تحت أشعة الشمس، تجتازه سفن قديمة تارة وجديدة طوراً. كأنما المدينة برمتها تقتدي بالساحل، لا تراها تستريح أبداً هنا أعمال البناء والهدم وإعادة البناء.
يمضي المسؤولون في السلطة قدماً كي يحققوا برنامجهم المستمر لتغيير وجه العالم بتشييد أرض جديدة. إننا إزاء مجتمع يشهد عملية تحول لمصلحة تصور مستقبلي محدد قوامه إنشاء عوالم مستحدثة قادرة على مواجهة التحديات التي يطرحها ارتفاع عدد السكان، وتوفير مساحة أكبر وأنماط عيش جديدة. لكن، أي نوع من المستقبل يُبنى؟ وبأي ثمن؟
لسنا إزاء ضرب من قصص الخيال العلمي. إنها القصة الحقيقية عن استصلاح الأراضي في هونغ كونغ، حيث ترعرتُ، في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته. يشمل استصلاح الأراضي ملء المسطحات المائية بالتربة لتوسعة مساحة اليابسة أو إنشاء جزر اصطناعية.
لم يكن مستطاعاً إنشاء المساكن والبنية التحتية بالحجم الكبير الذي شهدته هونغ كونغ ممكناً لولا حجم هذه الأرض الذي يفوق الـ70 كيلومتراً مربعاً، وقد خضعت للاستصلاح. لكن، جاء ذلك كله على حساب الناس، والتنوع البيولوجي، وسلامة موائل الحياة البرية، على حد سواء.
خلال سنوات طفولتي في هذه المدينة التي غمر ماء المحيط جزءاً منها أخيراً، بدأت أرسم تكهنات بشأن الطرائق العنيفة التي نتوسلها في تغيير المكان، والآثار غير المتوقعة المتأتية من ذلك.
إذ كنت طفلاً منغمساً في كلاسيكيات الخيال العلمي من قبيل أعمال الروائي الأميركي فرانك هربرت، فأدركت بسرعة أن الخيال يساعدنا في أخذ تلك الآثار غير المتوقعة بعين الاعتبار وبناء تصورات بشأنها وتخطيها. لذا، ليس مستغرباً أن “الخيال المناخي” Climate Fiction (اختصاراً “كلاي- في”cli-fi ) سرعان ما أصبح نوعاً من أدب الخيال معترفاً به في السنوات الأخيرة.
من رواية “سلوك الطيران” بقلم الكاتبة الأميركية باربرا كينغسولفر إلى “حرب أميركية” للروائي والصحافي المصري الكندي عمر العقاد، يبدو جلياً أن الناس مهتمون بتخيل أزمنة مستقبلية محتملة بوصفها وسيلة للنظر في طريقة نلوذ بها من هذه الفوضى.
إننا متأكدين تماماً من أمر ما، هو أن المستقبل سيبدو مختلفاً بصورة جذرية عما كنا نتخيله، وسيتطلب عمليات تعديل.
لذا، تطلب المنظمات والحكومات مشورة مؤلفي الخيال العلمي، وذلك بهدف مساعدتنا على التفكير في مخاطر المستقبل وتحدياته بأساليب يتعذر على تخصصات أخرى طرقها. ومع اقتراب موعد انعقاد مؤتمر الأطراف “كوب 26” Cop26، مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ الذي أرجئ سنة عن موعده المقرر السابق في 2020، بمدينة غلاسكو الاسكتلندية، نجد أننا بحاجة ماسة إلى مزيد من هذه الدفقة الخيالية.
لا ريب في أن الخيال العلمي سبق أن أدى دوراً في هذا الخطاب. معلوم أن لتسخير طاقة الشمس تاريخاً طويلاً في قصص الخيال العلمي، وغالباً ما يُنسب إلى الروائي والمخترع البريطاني آرثر سي كلارك ابتكار فكرة القمر الصناعي للاتصالات المستقر جغرافياً بالنسبة إلى الأرض، الذي يعمل بالخلايا الشمسية.
في الوقت نفسه، يعد نظام الأقمار الصناعية التابع لوكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، وسيلة بالغة الأهمية في مراقبة تغير المناخ ويمكن إرجاعه جزئياً إلى قدرة الخيال العلمي على التفكير في العوالم والأنظمة. وبطبيعة الحال، تعتبر المركبات والمحطات الفضائية، بل في الواقع، توسعنا نحو الفضاء، من بنات أفكار الخيال العلمي.
متأثراً بأيامي الأولى في هونغ كونغ، اتجهتُ إلى تحديد مهنتي. وصرت أبحث في الخيال العلمي، مثبتاً تركيزي على نظامين تقنيين يغيران الكوكب حيث نعيش هما “الأرضنة”terraforming (إعادة تأهيل جرم فضائي ما كي يصير شبيهاً بكوكب الأرض)، والهندسة الجيولوجية geoengineering.
واستطراداً، إذا تجسدت الأرضنة في إدخال تعديلات على كواكب أخرى بغية جعلها موائل ملائمة لأشكال الحياة على الأرض، فمن المستطاع تعريف الهندسة الجيولوجية بأنها إدخال تعديلات أساسية على كوكب الأرض، من قبيل التدخل المتعمد في النظام المناخي.
واستكمالاً، لقد أصبح النقاش الجدلي حول الهندسة الجيولوجية أكثر إلحاحاً نظراً إلى الإخفاق الكارثي في الحد من مستويات انبعاثات غازات الدفيئة، وبالتالي، فمن الممكن أن يساعدنا الخيال العلمي حول الأرضنة والهندسة الجيولوجية في وضع تصورات محتملة من الحلول لأزمة المناخ والآثار التي تترتب عنها.
في السطور التالية، نلقي نظرة فاحصة على مثل محدد كي نكتشف لماذا يكتسي تبني هذا النوع من التفكير أهمية بالغة أيضاً في ما يتصل بأزمة المناخ عموماً.
سلطة القصص
تسترشد مقترحات الهندسة الجيولوجية والأرضنة كلتيهما بالتاريخ والقصص التي نرويها لبعضنا بعضاً. في مقدور الخيال العلمي أن يتخيل ويفكر في الآثار السياسية وأيضاً العلمية للخيارات التكنولوجية التي نتخذها. وتُقدّم قصص الخيال العلمي تكهنات وتشخيصات وإيضاحات بشأن التجارب والمشاكل التي انشغلت بها مناقشات عالمية حول التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معها.
لا يرمي الخيال العلمي إلى إيجاد حلول لمشاكل المجتمع (على الرغم من أن بعض الأعمال في هذا الحقل يقدم حلولاً نحن كقراء مدعوون إلى نقدها ومراجعتها والدفاع عنها وحتى تبنيها)، ولا يتعلق بالتنبؤ أيضاً. لذا، لا ينبغي أن نستند في تقييمنا له إلى نجاحه أو إخفاقه في هذا المضمار. وبدلاً من ذلك، يتمثل دور الخيال العلمي في التأمل بالاحتمالات.
إذن، لا ينبغي قراءة الخيال العلمي بمعزل عن غيره. الفضاء الخيالي عالم تخيلي لاختبار الأفكار والقيم، ومحاولة تصور أزمنة مستقبلية يمكن أن تسترشد مجتمعاتنا بها الآن.
واستطراداً، يسعى هذا النوع القصصي إلى تجاوز افتراضات الزمان والمكان الأوحدين عبر توفير مجموعة من الطرائق البديلة في تصور الأفكار والسياقات والعلاقات. كذلك يتطلب الخيال العلمي التحدي. إذ يدعونا إلى أن نضع قصة في موازاة قصة أخرى، وننظر في العوالم المصورة ونستنطقها ونرى ماذا تخبرنا بشأن مواقفنا من القضايا المعاصرة الأساسية.
تساعدنا قراءة قصص الخيال العلمي في التفكير التأملي بعيداً عن الجوانب التقنية في التكيّف مع آثار أزمة المناخ والتخفيف منها، وبطبيعة الحال التدخل للحد منها، وفي فهم المواقف التي نتخذها كأشخاص ومجتمعات تجاه تلك الشواغل.
الخيال العلمي عالم متخيل لاختبار الأفكار والقيم ومحاولة تخيل أزمنة مستقبلية يمكن أن تسترشد مجتمعاتنا بها الآن
وبالتالي، لقد أصدرتُ كتابي تحقيقاً لذلك الغرض تحديداً. وأجريت فيه مسحاً تاريخياً للقصص التي تتناول الأرضنة والهندسة الجيولوجية والفضاء وتغير المناخ. في الواقع، يعلمنا الخيال العلمي أن التكنولوجيات ليست مجرد أنظمة تقنية.
ليس العلم مسعى نظري وتقني فحسب. بل إن ممارسة العلم وتطوير التكنولوجيات يعتبران عمليتين اجتماعيتين وثقافيتين في جوهرهما. لذا نجد أن باحثين كثراً يستخدمون مصطلح “الاجتماعية- التقنية” sociotechnical في وصف النظم التكنولوجية.
كوكب مُهَنْدَسْ جيولوجياً
في العالم، السياسي، الواقعي، تمد قصص الخيال المخيلة بالمعلومات. يتراى للبعض عالماً في المستقبل تغطية آلات تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء وتضخه تحت الأرض حيث يتحول إلى صخور مسامية.
يتخيل البعض الآخر عالماً يستمد طاقته من مجموعة كبيرة من مزارع الرياح والطاقة الشمسية، ومحطات الطاقة الكهرومائية والطاقة الحرارية الأرضية. ويتصور البعض أن أمور الحياة ستسير كالمعتاد إلى حد كبير، ما عدا تغيرات متواضعة في كيفية إنتاج الطاقة واستخدامها، وتغيير بسيط أو معدوم في طريقة تنظيم اقتصاداتنا وحياتنا.
ويقترح البعض أن نرسل طائرات إلى طبقة الـ”ستراتوسفير” (ثاني طبقات الغلاف الجوي للأرض)، ونضخ جسيمات كي تعكس ضوء الشمس إلى الفضاء مجدداً وتحول السماء إلى اللون الأبيض.
كانت تلك الرؤية المذكورة أخيراً، وتسمى علمياً “إدارة الإشعاع الشمسي” (اختصاراً “أس آر أم” SRM)، موضوع نقاش حاد جداً. ينطوي هذا النوع من هندسة المناخ على التحكم في كمية ضوء الشمس المحتبس في الغلاف الجوي للأرض.
كذلك يدعو عدد من العلماء، من بينهم كين كالديرا وديفيد كيث (يشار إليهما أحياناً بلقب “جيوكليك” geoclique بمعنى مجموعة صغيرة من أشخاص يتباحثون في الهندسة الجيولوجية) إلى إجراء بحوث إضافية في “إدارة الإشعاع الشمسي”، لكن مجموعات ضغط مختلفة تعارضهم بشدة.
أخيراً، كتب بيل ماغواير، راعي منظمة “العلماء من أجل المسؤولية العالمية” Scientists for Global Responsibility والأستاذ الفخري لعلوم الأرض في “كلية لندن الجامعية”، رواية من نوع الخيال العلمي عنوانها “بذور السماء” Skyseed (2020)، تتخيل الفشل المروع الذي يمنى به نهج قائم على تكنولوجيا النانو لإدارة الإشعاع الشمسي. وتصف هذه الرواية استحالة، وضع تنبؤات بشأن عواقب هذه التكنولوجيا المستندة إلى التخمين، بالنظر إلى حدود المعرفة المتوفرة في متناولنا حالياً.
على نحوٍ مماثل، تتباين المقترحات التي تقدمها “إدارة الإشعاع الشمسي” تبياناً هائلاً، لكن الأكثر شيوعاً منها تشتمل على تبييض السحب البحرية، أو حقن جسيمات في طبقة الـ”ستراتوسفير” كي تعكس ضوء الشمس بعيداً عن الأرض. يُفترض أن تساعد تلك التدخلات في خفض درجة حرارة كوكب الأرض، على الرغم من أنها ستقف ساكنة أمام امتصاص الكربون والغازات الأخرى المكافئة له من الغلاف الجوي، ولن تتصدى لزيادة حموضة المحيطات.
تتضمن الأفكار الأكثر جموحاً بناء مظلات في الفضاء ووضعها في تكوينات مدارية مختلفة. إذا بدا أن هذه الفكرة تجيء مباشرة من رواية خيالية علمية، فلأنها كذلك فعلاً. إذ تظهر مثل تلك المرايا المدارية في عمل جيمس أوبرغ بعنوان “كواكب أرض جديدة”New Earths (1981)، ورواية لويس ماكماستر بوجولد المعنونة “كومار” Komarr (1998).
إدخال تعديلات على الكواكب
لكن، ماذا تخبرنا الأرضنة عن الهندسة الجيولوجية والأرض؟ كانت فكرة تحويل أماكن خارج الأرض، كواكب أو أجسام مكانية أخرى، بغية جعلها أكثر قابلية للحياة البشرية ركيزة أساسية للخيال العلمي طوال عقود من الزمن.
وكذلك تستند ضرورة الحفاظ على نظم داعمة للحياة في موائل ومركبات فضائية، إلى العلوم عينها التي تدعم تكنولوجيات التصدي لتغير المناخ. تطرح قصص الخيال العلمي أسئلة سديدة كثيرة في هذا الشأن ينبغي أن نتنبه إليها عندما نفكر في خطواتنا التالية على الأرض أو خارجها.
وفي معناها الواسع، تشير الأرضنة إلى إجراء تعديلات في كواكب أو أجرام كونية أخرى كي يصير ممكناً لأشكال الحياة على الأرض أن تعيش فيها. وقد حمل رواد أعمال من أمثال إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة “سبيس إكس” SpaceX، الأرضنة واستعمار المريخ على مداعبة خيالنا عبر مشروع طموح أساسه إرسال الناس إلى الكوكب الأحمر في غضون عقد من الزمن. وليس ماسك وحيداً في هذا المجال. إذ يتنافس رواد أعمال آخرون من بينهم ريتشارد برانسون (مؤسس شركة “فيرجن غالاكتيك”) وجيف بيزوس (مؤسس شركة “بلو أوريجينز”) على استغلال الفضاء وأخذ الجنس البشري إلى هناك.
هل ستنجح البشرية في أرضنة المريخ يوماً ما؟
يتعين على الرؤى المعاصرة عن أرضنة المريخ أن تتقبل التقييمات الحديثة التي تكشف أن أرضنة الكوكب باستخدام التكنولوجيا المعمول بها حالياً أمر محال، نظراً إلى غياب ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى التي من شأنها أن تسمح بتكوين غلاف جوي على المريخ. بيد أن البحث العلمي في مجال الأرضنة ما برح يجد مساحة لإمكاناته المستقبلية.
صحيح أنها موضوع البحث العلمي الحالي، لكن في الحقيقة كان كاتب الخيال العلمي الأميركي جاك ويليامسون (كتب بالاسم المستعار ويل ستيوارت) أول من استخدم مصطلح terraforming “أرضنة” في قصته القصيرة الصادرة سنة 1942 “مدار الاصطدام” Collision Orbit، التي تدور حول كويكب خضع لعملية أرضنة.
تستعرض القصة تقنيات للأرضنة تتضمن “تركيب جاذبية اصطناعية” تتوغل في قلب كويكب وتعطيه قوة جاذبية جزئية. وفي الوقت نفسه، يُصار إلى توليد الأوكسجين والماء من أكسيد المعادن، وفي هذه العملية تتحرر “غازات ماصة تحتجز الحرارة الضعيفة للشمس البعيدة”.
في القصة، يلجأ الكاتب إلى تسخير تأثير الاحتباس الحراري كي تصير الأجرام الكونية الأخرى صالحة للسكنى. تيسرت عملية الأرضنة هنا بفعل طرائق جديدة للتلاعب المادة الذرية. لكن ويليامسون مهموم أيضاً بالعواقب غير المقصودة التي تخلفها الاختراعات والسبل الجديدة في توليد الطاقة.
وبفضل النظم الجديدة للطاقة تصبح الأرضنة قابلة للتنفيذ بالنسبة إلى المجموعات الصغيرة والمؤسسات الكبيرة على حدٍ سواء، ما يعد بإعادة تشكيل الطاقة في مختلف أنحاء النظام الشمسي مع حلول نهاية القصة.
دروس للمستقبل من قصص الخيال
صببت اهتمامي في السطور السابقة على الأفكار التي تطرحها الهندسة الجيولوجية والأرضنة لأنها تمثل أكثر النظريات أو المقترحات غرابة عندما نأتي على ذكر “الحلول” المحتملة لأزمة المناخ. لكن بالطبع، كل ما كتبته ينسحب بالقدر عينه على التفكير في مقترحات أقل تعقيداً.
إذ يقدم الخيال العلمي أسئلة وتكهنات لا نهاية لها، وسيكون من الغباء للمرء أن يحاول تحديد تلك الأشد ملاءمة أو أهمية أو الأكثر ارتباطاً بمؤتمر “كوب 26”.
لذا، بدلاً من ذلك، أود تسليط الضوء على كتب احتفظت بها طويلاً خلال سنوات عملي في هذا المجال، وأن أشرح لماذا أعتقد أنها ربما تكون مادة للتفكير بالنسبة إلى أي شخص يحضر أو يناقش “كوب 26″، أو ببساطة يتابعه.
1- “الكلمة المرادفة للعالم غابة” لأورسولا كيه لي غوين (1972)
تستعرض هذه الرواية القصيرة التي ألفتّها أورسولا كيه لي غوين، الكاتبة الأميركية ذات التأثير الكبير في أدب الخيال العلمي، عالماً من الغابات يسكنه مجتمع من سكان أصليين. ويتعرض ذلك العالم للاحتلال في بداية الرواية ويصار إلى اجتثاث أشجاره لتزويد كوكب الأرض بالأخشاب. ليس هذا مشروع تقني فحسب، بل يحمل ناحية اجتماعية أيضاً إذ ينطوي على تحول كامل للسكان الأصليين، الذين يكابدون ضغوطاً شديدة من العصابات بهدف توفير قوة عاملة قابلة للاستغلال طواعية وبالمجان. والمشروع اجتماعي أيضاً ما دامت سلسلة التوريد هذه موجهة نحو مطالب ورغبات سكان الأرض.
ربما نرى أصداء هذه القصة تتردد في فيلم المخرج الكندي جيمس كاميرون “أفاتار” Avatar (2009)، ولكن، في الأخير الهدف من التنقيب معدن نفيس يسمى “أونوبتانيوم”unobtainium . وفي رواية فرانك هربرت الشهيرة “كثبان” Dune، الهدف المنشود مادة تسمى “خليط توابل المسنين”. في الحقيقة، لا تكتسي ماهية تلك الموارد أهمية، بل طبيعتها النادرة والقيمة في عوالم القصص.
تُعد مشاهد غرس الأشجار وإزالة الغابات على نطاق واسع أحد أشكال الأرضنة أو الهندسة الجيولوجية لأنها تغير قدرة الكوكب على تنظيم مناخه. لم تتناول رواية لي غوين هذه المسألة بشكل مباشر. لكن المؤلفة تبحث فعلاً في قضية الأرضنة في روايتها الصادرة في 1974 بعنوان “النازحون”The Dispossessed ، التي تركز على العلاقة السياسية والاقتصادية بين دولة لاسلطوية موجودة على قمر يسمى “أناريس” Anarres من جهة، وبين موطنها الأصلي على كوكب يدعى “أوراس”Urras من جهة أخرى. تستكشف هذه الرواية كيف يمكن أن تبدو الحياة على قمر خضع منذ فترة طويلة لعملية أرضنة.
تخبرنا تلك الأمثلة أنه في بعض السياقات، فإن غرس الأشجار أو إزالتها اللذين يفضيان إلى تحولات في المجتمعات وبيئاتها يعملان كشكل من أشكال الأرضنة أو الهندسة الجيولوجية. علينا أن نقر بالمطالبات السابقة بالأراضي (من جانب السكان الأصليين) ونعمل مع المجتمعات لتطوير أخلاقيات الرعاية في تلك البيئات، تكون قادرة على مقاومة الاستغلال العدواني.
2- ثلاثية المريخ لكيم ستانلي روبنسون (1992-1996)
ربما كان الأميركي كيم ستانلي روبنسون كاتب الخيال العلمي الأكثر بحثاً في النقاشات المعاصرة حول تغير المناخ.
وقد تناول روبنسون الذي أطلقت عليه مجلة “تايم” لقب “بطل البيئة” سنة 2008، سياسات تغير المناخ في مجموعة من الأعمال تدور حول الأرض والنظام الشمسي. شخصياً، استفضتُ في الكتابة حول عمل روبنسون الذي يتكهن بمجموعة من العلوم والتقنيات استكمالاً لابتكار طرائق جديدة للعيش محورها العدالة الاجتماعية والبيئية.
والأهم، أن روبنسون يربط تلك التقنيات بالمجتمعات التي تصورها الأعمال، ويتتبع النضالات وأوجة الظلم التي تخاطر التطورات بترسيخها.
يتخيل روبنسون تضاريس المريخ في ثلاثيته “مريخ أحمر” Red Mars (1992) و”مريخ أخضر” Green Mars (1993)، و”مريخ أزرق” Blue Mars (1996). من بين أمور أخرى كثيرة، تظهر مجموعة من التقنيات، أبرزها مرايا مدارية تسمى “سوليتا” soletta، وتقنيات في هندسة التربة، وأشنات (كائنات طفيلية تتكون من مزج الطحالب الخضراء المجهرية او الجراثيم الزرقاء، مع فطريات خيطية ( مهندسة بيولوجياً كي تعمل على تغيير الغلاف الجوي.
صحيح أن محاولات تخيل المستقبل نتاج تفكير طوباوي ولكن لا تظن للحظة أن الطوباوية من هذا المنطلق، تعد مثالية ساذجة
ولعل الجانب الأكثر إثارة للإعجاب في ثلاثية المريخ أنها تستبصر الرؤية التحولية. وتطرح أسئلة من نوع من أجل من يخضع الكوكب لعملية تحول؟ ممصلحة الشركات على الأرض، أم جميع سكان المريخ؟ ما هي العلاقة التي تربط بين تغيير المريخ وشعوب الأرض؟
وبسبب كونه عضواً رئيساً في مشروع الأرضنة على الكوكب الأحمر، تخضع المقاربة التكنوقراطية التنازلية للعالم ساكس راسل (في قصة “مريخ أحمر”) بشأن أرضنة المريخ، لتغيير جذري بعد إصابة في الدماغ يتعرض لها أثناء عملية انقلاب يشهدها ذلك الكوكب.
تدفعه تلك الإصابة إلى التأمل في اللغة والتواصل وتقوده إلى فهم أن النهج التقني الذي تبناه حتى الآن، من شأن أن يمحو وجهات نظر وتجارب زملائه المريخيين، وهو غير كافٍ لبناء مجتمع مفتوح فعلاً. وبطريقته غير المثالية، يتجه صوب فهم العلم كنظام اجتماعي تقني راسخ، وإدراك أن تجاهل العنصر البشري ليس ممكناً.
ربما نهتدي بمغامرات راسل الخيالية في استجابتنا لتغير المناخ. ذلك أنه بالاستماع إلى صوت المتخصصين والسياسيين وحدهم، ربما يكون التهميش من نصيب السبل الأخرى في معالجة تغير المناخ.
والأسوأ من ذلك، أننا قد نحبس أنفسنا عن غير قصد في نظام تكنولوجي لا ليس مأمولاً منه معالجة آثار تغير المناخ، أو ربما يؤدي إلى تفاقم هشاشة شعوب عدة في شتى أنحاء العالم.
يقدم الخيال العلمي سبلاً في مناقشة تقنيات تكهنية من دون تقديمها كإصلاحات تكنولوجية جاهزة، ما يسمح بإجراء مشاورة عامة واسعة بشأن نهجنا إزاء التعامل مع تغير المناخ.
تطرح القصص الخيالية أسئلة بالغة الأهمية، وتدخل تنقيحات إلى نواحي العلوم والمجتمع وتعيد النظر فيها قياساً إلى لحظهما المعاصرة. لكنها تُبدّل أيضاً طريقة التفكير. إذ تحدد افتراضاتنا حول العوالم التي نود أن نحيا فيها، وتتحدى المرويات السائدة حول تغير المناخ.
والأهم من ذلك، أنها تقدم مجموعة من الحلول التكنولوجية الممكنة التي يمكنها وينبغي لها، أن تساعدنا في استجابتنا لأزمة المناخ.
3- ثلاثية لونا لإيان ماكدونالد (2015-2019)
يستعرض إيان ماكدونالد استغلال الموارد الحيوية والناس، إلى جانب اتساع نطاق المضاربة المالية إلى كل نواحي الحياة على القمر المستعمر في ثلاثيته “لونا، قمر جديد” Luna: New Moon (2015)، “لونا، قمر ذئب”Luna: Wolf Moon (2017) و”لونا، بزوغ القمر” Luna: Moon Rising (2019).
في هذه القصة حول القوة واستغلال موارد القمر، تتصارع العائلات التي تتحكم في الصناعات الرئيسة على القمر، من أجل الهيمنة في ظل أرض تتكيف مع تغير المناخ.
وتسرد الثلاثية تخيلات وتساؤلات عن تمدد المنطق المستند على التطور، إلى الخارج نحو النظام الشمسي، وتشجع القراء على التفكير في التضارب المحتوم في المصالح الاقتصادية والسياسية الذي سيجلبه معه ذلك التوجه.
كذلك يساعدنا الخيال العلمي في التفكر بشأن قصصنا الخاصة حول التخفيف من حدة تغير المناخ والتكيف معه. إنها بمثابة تجارب بشأن وضع تصورات للاحتمالات المستقبلية وإيجاد حلول لمشاكل المستقبل.
ويتمحور كثير من تلك الرؤى حول أهمية العدالة الاجتماعية والبيئية، والتوعية بمخاطر محو مجموعات سكانية.
صحيح أن محاولات تخيل المستقبل نتاج تفكير طوباوي، لكن لا تذهب إلى الظن ولو للحظة واحدة أن الطوباوية من هذا المنطلق تتساوى مع المثالية الساذجة. خلافاً لذلك، يعتبر التفكير الطوباوي التزاماً بتخطي الصعوبات والمآزق في لحظتنا المعاصرة من دون إغفال المستقبل المحتمل الذي نتخيله ونود خلقه.
واستطراداً، يكتسي الخيال العلمي قيمة في جهودنا ضد تغير المناخ لأنه لا يقدم لنا كلمة أخيرة، بل يدعونا إلى استكشاف مفتوح، وتجريب القصص والأفكار.
ويشجعنا الخيال العلمي أيضاً على بناء عوالم والتشكيك في تلك التي نبنيها. إذ يطلب منا أن نختار مستقبلاً ما من ضمن باقة احتمالات، وأن نعمل على تكوينه.
كخلاصة، لقد أدى الخيال العلمي دوراً حاسماً في مساعدتي على فهم التحولات الجذرية في هونغ كونغ والمملكة المتحدة أثناء القرن العشرين، وحملني على الانخراط في سياسات تغير المناخ. ويشكّل ذلك على وجه التحديد ما يجب أن تنهض به المشاورة والمشاركة العامتين البالغتي الأهمية، فيما نمضي قدماً صوب مؤتمر “كوب 26″، وما بعده.
كريس باك محاضر في الأدب الإنجليزي في “جامعة سوانزي”Swansea University
المصدر : أندبندنت عربية