علي ناصر محمد
في الثالث والعشرين من ديسمبر الحالي يكون قد مر عقدان كاملان على رحيل القامة الوطنية الكبرى عمر الجاوي.
احقا مرت عشرون سنة على غيابه ؟
كيف تمر السنون بهذه السرعة، وينصرم منا العمر، ونفقد الرجال في معركة الحياة التي لا تنتهي ؟
لكن عمر الجاوي لم يكن أي رجل .! ورحيله لم يكن كأي رحيل ! كان رجلاً بحجم وطن وقضية. وكان رحيله فاجعة بحجم الرجل، وملء الوطن حزنا عميقا، مثلما ملأه حياةً وكفاحاً وكلمات مضيئة في سبيل الحرية والوحدة وكرامة الإنسان، وترك فيه فراغاً لا يعوض.
كان رجلا استثنائيًا بكل ما في الكلمة من معنى. شجاعاً الى حد الاستهانة بالموت، وعدم الاكتراث بالمخاطر، وكانت كثيرة من حوله ومن حول الوطن، وعاش في وسط المعارك وأتون النار مدافعً عن صنعاء والجمهورية عندما حوصرت في معركة السبعين يوماً لأنه كان يرى بأن النصر يعني انتصار المستقبل والهزيمة يمنى بها المستقبل وكل ما ناضل الشعب اليمني من أجله من حرية وكرامة، فكان ممن صنع ذلك النصر قائداً للمقاومة الشعبية.
كان رجلاً استثنائياً في إيمانه بالحرية والدفاع عنها، والوقوف في وجه كل من ينال منها أو من الإنسان. فدافع عن المعتقلين هنا وهناك بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية ليس في اليمن شمالاً وجنوباً بل في كل مكان يشعر أن حرية انسان احتجزت بسبب رأيه أو موقفه أو معارضته لأنظمة الحكم ..
وكان استثنائياً في إيمانه المطلق بوحدة اليمن، والنضال في سبيلها، ايماناً لا يتزعزع، لا تغيره ظروف، ولا تبدله صعوبات أو عراقيل وهي كثيرة وصعبة ومعقدة. لكنه كان يرى أن الوحدة سوف تتحقق عن يقين وإيمان، قد يكون رومانسيا في ذلك الإيمان…
لكنه إيمان صادق لا يرجو فيه مصلحة خاصة أو منفعة شخصية، فقد كان أبعد الناس عن ذلك، لهذا لم يستطع أحد أن ينال منه، أو يرشيه بمال أوجاه أو منصب، فقد كان عازفاً عن زخرف الدنيا، ومات وهو لا يملك شروي نفير. وحتى عندما مرض ذلك المرض الخطير الذي أدى الى وفاته تكفل بعض أصدقائه بنفقات علاجه بعد أن تخلت دولة الوحدة التي نذر حياته وكفاحه لها عن القيام بواجبها نحوه. لكنه برغم آلام الجسد مات شامخ الرأس، عزيز النفس، لم تكسره الظروف، أو تهزمه الحاجة.
بدأ نضاله من أجل الوحدة منذ شبابه المبكر، حين أسس مع زملاء له من اليمن شمالاً وجنوباً اتحاداً واحداً لطلبة اليمن في القاهرة ممن يدرسون معه. وأخذ هذا الايمان يتعمق مع الوقت والزمن، لا تزيده الصعوبات والتعقيدات إلا مزيداً من الرسوخ والتمسك به والنضال في سبيله. ومن عدن واصل نضاله بعد أن تخرج من جامعة موسكو ( اختصاص صحافة ). وكان يرى أنه لا يمكن تحقيق حلم كبير مثل الوحدة بجهود رجل واحد مهما كان إيمانه بها، ولا بالجهود الرسمية وحدها للنظامين في عدن وصنعاء وفيهما دون شك مؤمنون حقيقيون بالوحدة لكن من بينهم أيضا خصوم وحتى أعداء، أو أصحاب مصالح خاصة يريدون الوحدة لكن لأطماعهم الخاصة. وفي ظل غياب الديمقراطية والتعددية الحزبية هنا وهناك، ناضل عمر الجاوي من أجل إيجاد اتحاد واحد للأدباء والكتاب اليمنيين وعقد مؤتمره التأسيسي في عدن عام 1974م. فكان حزبه الذي قاتل به من أجل وفي سبيل الوحدة، وكانت مجلة ( الحكمة ) لسان حال الاتحاد ( شرارته ) التي قلب بها اليمن رأساً على عقب. والرقيب على تصرفات النظامين فيما يتعلق بالخطوات الوحدوية وعمل لجان الوحدة اذا أحس تباطؤاً في عملها أو انحرافا عن نهج الوحدة. وكانت عدن المقر الرئيس للاتحاد، وعبرها نقطة الارتكاز لنضاله الوحدوي ومعه كتيبة الأدباء والكتاب وحَملة الفكر والقلم الذين تصدروا الصفوف وتحملوا الصعاب وتعرض بعضهم للاعتقال وقيد الحرية في سبيل مبادئهم ودفاعهم عن الحريات والوحدة. فرغم كل شيء كانت عدن لاتزال رائدة الحرية والتنوير وجامعة اليمنيين من كل حدب وصوب، وصاحبة دولة نظام وقانون وحياة مدنية يسعى إليها الجميع.
وكان عمر الجاوي من الذين يناضلون في سبيل الدولة المدنية والمواطنة المتساوية وإن كان تحقيق الوحدة سابقاً لديه عما سواها.
عندما شن النظام في صنعاء حربه الأولى عام 1972م من القرن الماضي تحت شعار تحقيق الوحدة الفورية على الجنوب، استطعت عبر اتصال هاتفي بأخي الأستاذ دولة رئيس الوزراء محسن العيني على الاتفاق معه على وقف الحرب التي كانت مدفوعة من قوى خارجية لا تريد الخير لليمن، واتفقنا على اللقاء في القاهرة لبحث الخلافات بين النظامين وحددنا موعداً لذلك.
الى جانب الوفد الرسمي، وكنت يومها رئيساً للوزراء وزيراً للدفاع في اليمن الديمقراطية، اصطحبت معي عدداً من المثقفين أصحاب الرؤى الوحدوية والقانونية على رأسهم عمر الجاوي ود. محمد جعفر زين، وعبد الله حسن العالم وعبد الله الخامري وعدد من الوزراء، وطلبت منهم إعداد مشروع للوحدة نستعد به حين تبدأ المباحثات بين الوفدين في القاهرة. وفعلاً جاء وفد صنعاء بدون رؤية أو مشروع لتحقيق الوحدة، سوى أنهم يريدون تحقيق وحدة فورية وضم الجنوب الى الشمال. حينها تقدمنا بمشروعنا الذي أعده فريق الجاوي والذي اعتمدناه ووقعنا عليه أنا وأخي محسن العيني والذي عرف من حينها بـ (اتفاقية القاهرة) والتي اصبحت الأساس لكل الاتفاقيات الوحدوية اللاحقة بعد ذلك.
ليس ذلك فحسب فقد كان عمر الجاوي عضواً رئيساً في اللجنة الدستورية التي استغرقت أعمالها نحو خمس سنوات وأنجزت عملها في عام 1981م ولعب الجاوي دوراً عظيماً وبذل جهداً غير قليل في أعمالها والنتائج التي وصلت إليها مع كل من وزيري الوحدة عبد الله غانم واسماعيل الوزير وغيرهما، وهو العقد الاجتماعي الذي كان ينبغي ان تقوم عليه دولة الوحدة، لكن بكل أسف جرى احتواء ذلك الدستور قبل الوحدة وبعدها بعدم الاستفتاء عليها قبل قيامها، وتم إلغاء الكثير من مواده ومضامينه السياسية والاجتماعية، وفُصّل الدستور على مقاس الحاكم ونظامه. كان ذلك مؤلماً للجاوي ولنا جميعا، وللشعب الذي كان يرى في الوحدة أملاً جديداً لحياة حرة كريمة وطريقاً الى التطور وحياة عصرية.
وكان الجاوي عدواً للحرب، وقلمه وبيان ادانته جاهزاً على طول الخط يدعو الى وقفها على الفور وإحكام العقل والمنطق، والاحتكام الى الحوار والحلول السلمية، وخاصة عندما تكون الحرب بين أبناء الوطن الواحد والقضية الواحدة. هكذا كان موقفه من حربي 1972 و1979 ومن حرب صيف عام 1994، ولو كان على قيد الحياة لما تغير موقفه من حرب عام 2015م، ولكان أول من يدين الحرب الحالية المستمرة منذ سنوات والتي تشرف على عامها الخامس وأهلكت وتهلك الحرث والنسل، ولدعا الى وقفها فوراً كما دعونا وندعو مع سائر أبناء شعبنا والمحبين للسلام في كل مكان.
وكانت الثقافة حاضرة في نضال الجاوي السياسي، وكان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومجلته (الحكمة) مرة أخرى أداته في مسيرة إرساء ثقافة وطنية وانسانية، فجعل منها منبراً لكل الإبداعات في الشعر والقصة والنقد وكل صنوف الأدب لكل الأجيال.
وعندما تحقق حلمه بالوحدة التي ناضل في سبيلها طويلا وأفنى جلّ عمره لأجلها، أسس حزبه (التجمع الوحدوي اليمني) وأصدر صحيفته (التجمع) ليؤكد على مبدأ الديمقراطية والتعددية وحرية الرأي كجزء أصيل من مشروع الوحدة، وأداة من أدوات الدفاع عنها أمام تغول الذين سرقوا الوحدة وانحرفوا بها عن مسارها الطبيعي، وقد دفع ثمن ذلك حينما حاولوا اغتياله في وضح النهار في صنعاء، لكن الرصاصات أخطأته لتصيب رفيق نضاله الشهيد حسين الحريبي في مقتل. لكن عمر الجاوي لم يذعن أو يصمت، فهو ليس من النوع الذي يخيفه وعيد، أو يرهبه تهديد، وأصل نضاله ودفاعه عن الوحدة وعن المثل والقيم العظمى التي يؤمن بها، الحرية والديمقراطية، وكان ذلك يُرعب النظام فكان لابد أن يتخلص منه ومن كل صوت معارض وأولهم شركاء الوحدة.
عشرون سنة مرت منذ رحل عمر الجاوي عن دنيانا، جرى في اليمن ما جرى، افتقدناه، وافتقده الوطن والشعب الذي حمل قضيته، ودافع عن مصيره، وشارك في نضالاته في المواقع المتقدمة، وقدم التضحيات، اقتسم معه الهموم والصعاب، ورأى معه الحلم بالوحدة يتحقق، وأيضاً الحلم وهو يسرق منه ويصيب الناس بخيبة أمل بعد كل النضال والتضحيات العظيمة في سبيل أن يروه يوماً يتحقق فيجلب لهم العزة والقوة والكرامة، لكنه مع ذلك ظل على إيمانه العميق بالوحدة، وأن الخطأ ليس في الوحدة بحد ذاتها كهدف نبيل وعظيم وقيمة كبرى، بل في أولئك الحكام في كل من صنعاء وعدن الذين لم يروا في الوحدة عند قيامها عام 1990م إلا المغانم واقتسام السلطة والثروة، وفي الأخير تجييرها لصالح الحاكم والأسرة !!
كم نفتقدك أيها الجاوي أيها الغائب الحاضر..
كم نفتقد الى شجاعتك، وصراحتك، وإيمانك العميق..
كم نفتقدك ويفتقدك الوطن والشعب..
في زمن يتشظى فيه الوطن، ويحترب ويحترق أبناؤه بنار الحرب..
كم نفتقدك مناضلاً وانساناً وصديقاً ورجلاً لا ككل الرجال..
غيابك كل هذه السنين موجع جداً..
وأوجع منه ما يجري في اليمن …
رحمك الله أبا آزال..