فيليب زيليكو
مع حلول الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول)، تدفق سيل من التعليقات ركزت في غالبها على الولايات المتحدة، حول ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب وإرثها. لا شك أن العقدين اللذين أعقبا حوادث 11 سبتمبر يمثلان فصلاً مهماً في تاريخ العالم الحديث، لكنه فصل لا يتعلق بشكل أساسي بالولايات المتحدة.
منذ سنة 1979، أدى الصراع العنيف في كثير من الأحيان حول كيفية التكيف مع الحداثة إلى اضطرابات في العالم الإسلامي، من غرب أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا. وقد اجتاحت تلك الحرب أيضاً الجاليات المسلمة المغتربة، خصوصاً تلك الموجودة في أوروبا. وسيكون من سوء التقدير العميق اعتبار ذلك بمثابة “صراع حضارات” بين الإسلام والغرب. وفي الغالب، يجسد ما يراه الأميركيون تداعيات حروب داخل الإسلام. وتشبه تلك الصراعات حول مستقبل الحضارة الإسلامية حروب الإصلاح الديني والاجتماعي التي امتدت عبر العالم المسيحي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والصراعات الطويلة في القرنين التاسع عشر والعشرين حول كيفية تنظيم المجتمعات الصناعية الحديثة.
لطالما كانت الولايات المتحدة غريبة عن تلك الصراعات داخل العالم الإسلامي، وشاركت في فيها أساساً بتفاعل وتردد. وبطبيعة الحال، يميل الأميركيون إلى وضع أنفسهم وحكومتهم في صلب تلك الصراعات، ويصورون أنفسهم إما كضحايا أو كجناة، لكن ذلك الانحراف في النظر إلى ذلك الأمر، يشوه الرؤية ويعيق تطوير مزيد من الاستراتيجيات البناءة، التي يجب أن تنطوي على شراكات عالمية معقدة. في غضون ذلك، تغيرت الجغرافيا السياسية للحروب داخل العالم الإسلامي، كذلك تغيرت طبيعة التهديدات للولايات المتحدة، بالتالي يجب أن يتغير نهج واشنطن.
بداية الحروب داخل الإسلام
شكلت سنة 1979 علامة فارقة في العالم الإسلامي. في إيران، أطاحت ثورة شعبية بالنظام الملكي. وتطورت الثورة فيما بعد إلى حكم إسلامي قاس. في أفغانستان، أدت انتفاضة إسلامية عامة ضد الحكومة الاشتراكية التي أطاحت بالملكية في السنة التي سبقتها، إلى استيلاء الاتحاد السوفياتي على البلاد بشكل فعلي. وبشكل حاسم، تحركت باكستان المجاورة لأفغانستان نحو حكم إسلامي. وفي المملكة العربية السعودية، احتل إسلاميون متشددون الحرم المكي، أقدس مكان في العالم الإسلامي. أخمدت السعودية التمرد بحسم، وعملت بعد ذلك، بالشراكة مع باكستان، على تعزيز التزامها بالحكم الإسلامي، بهدف تليين المتطرفين في أوساطها ومواجهة ادعاء إيران الثوري بأنها القائد الحقيقي للعالم الإسلامي.
لقد حدثت جميع تلك الانفجارات الثلاثة داخل المجتمعات ذات الغالبية المسلمة التي كافحت للتكيف مع العالم الحديث. في إيران وأفغانستان والسعودية، رأى الأصوليون الإسلاميون أن عصيانهم يتوجه ضد طغيان علماني (“غير إسلامي” أو “ملحد”) مصمم على تحديث البلاد من الأعلى إلى الأسفل، ما يتسبب في مشقة كبيرة وإرباك للحياة التقليدية. لقد برزت دائماً الحجة التي تتضمن الاتهام بأن الحكام جرى إفسادهم بطرق أجنبية ونفوذ أجنبي، فيما نظر إلى الأميركيين والروس وغيرهم من “الغربيين” باعتبارهم أوغاداً في العادة. تعهد الإسلاميون بمحاربة الفساد، واستعادة الانسجام الديني، والحفاظ على القانون والنظام على أساس الشريعة الإسلامية. في الثورات التي قلبت العالم الأطلسي في عصور مبكرة، شكلت الحرية مطلباً أساسياً. وفي العالم الإسلامي، تمثل المطلب الرئيس في العدالة.
في إيران التي تعتبر الأكثر حداثة بين البلدان الثلاثة، كسب الثوار حلفاء مهمين من التجار الحضريين والمهنيين والطلاب، الذين يمثلون قوى ليبيرالية تقليدية قمعها نظام الشاه الاستبدادي، لكن بمجرد وصوله إلى السلطة، عمد آية الله روح الله الخميني ورفاقه “الأوصياء” الثوريون بتطهير وسحق شركائهم السابقين في الثورة الإيرانية على نحو مأساوي.
أشعلت نيران سنة 1979 (في إيران) حروباً كبرى على الفور. بعد أن عزز ديكتاتور العراق، صدام حسين، قبضته على السلطة في 1979، عمل في العام التالي إلى استغلال الاضطرابات في إيران المجاورة لشن حرب عليها آملاً في أن تضفي شرعية على حكمه وتوسع نطاقه. قدم صدام نفسه كبطل للإسلام السني ضد التهديد الشيعي الذي تمثله إيران، الذي كان يهدد حكمه، لأن العراق كان أيضاً دولة ذات غالبية شيعية. استمرت الحرب العراقية الإيرانية حتى سنة 1988. في غضون ذلك، اندلعت الحرب السوفياتية في أفغانستان من 1980 حتى بداية الـ1989. ولقد أدت الحربان معاً إلى مقتل ملايين الناس وتشريدهم.
على الرغم من أن الولايات المتحدة بدأت في نشر مزيد من القوات البحرية في الخليج، فإنها كانت لاعباً هامشياً في هاتين الحربين، إذ تركز انشغال الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على صراع صغير نسبياً وغير مجد في نهاية المطاف، مثله الصراع في لبنان حيث خاضت إيران والسعودية أيضاً حرباً بالوكالة، بالتالي أدت للولايات المتحدة دوراً ضئيلاً في الحرب الإيرانية – العراقية، على الرغم من انجرارها قليلاً إليها قبيل نهاية تلك الحرب، حينما حدثت هجمات على ناقلات النفط في الخليج العربي.
لقد أدت الولايات المتحدة دوراً متواضعاً وانتهازياً في إمداد المقاومة ضد السوفيات في أفغانستان. وغالباً ما جاء تأثير المساعدات الأميركية مبالغاً فيه، ولم يكن حتى لشحنات صواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات دور كبير في قرارات الانسحاب التي اتخذتها موسكو مسبقاً. شكلت باكستان القاعدة الرئيسة للمقاومة المناهضة للسوفيات، وتولت إدارة الإمدادات. وأسهمت السعودية بكثير من الأموال، وساعدت أيضاً في تمويل توسع كبير للتعليم الإسلامي من خلال بناء عشرات الآلاف من المدارس الإسلامية في أوساط مجتمعات جديدة ضخمة من اللاجئين النازحين.
انتهت تلك المرحلة من الحرب داخل العالم الإسلامي في 1991. وتفكك الاتحاد السوفياتي، ما أدى بسرعة إلى الانهيار النهائي للنظام الذي خلفه وراءه في أفغانستان. في غضون ذلك، انتقل تركيز ديكتاتور العراق الذي أفلس بسبب حربه ضد إيران، نحو الجنوب بهدف انتزاع الثروة النفطية من دول الخليج التي اعتبرها جشعة وجريئة. في 1990، اتحد العالم ضد غزو صدام للكويت، وهزمه تحالف عسكري بقيادة الولايات المتحدة بمباركة الأمم المتحدة. خلال تسعينيات القرن العشرين، عززت واشنطن قواعدها العسكرية في المنطقة، لكنها ركزت على حفظ الأمن في العراق المهزوم واحتواء إيران ومحاولة إحياء محادثات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، ولم تتعامل فعلياً مع القضايا الجوهرية التي تحرك الصراعات داخل المجتمعات الإسلامية، والمتمثلة في كيفية التكيف مع عالم معاصر تسوده العولمة.
بشكل جذري، استخف بن لادن و”طالبان” بمدى تصميم الولايات المتحدة على تدمير من خططوا هجمات 11/9
الحروب داخل الإسلام تأتي إلى أميركا
في تلك المرحلة، انقسمت الحركات السياسية الإسلامية السنية إلى ثلاثة معسكرات أساسية. فمن ناحية، ثمة حكام محافظون في أماكن كالرياض وإسلام آباد، كانوا منسجمين مع أصدقائهم الأكثر علمانية في القاهرة والجزائر. ومن ناحية أخرى، هناك الإسلاميون الديمقراطيون الذين كانوا ضد النفوذ الأجنبي ومع الشريعة الإسلامية، وغالباً ما عارضوا المحافظين في السلطة. واستطراداً، فضل الإسلاميون الديمقراطيون التغيير السلمي والديمقراطي وعارضوا الهجمات الإرهابية على المدنيين. وكذلك فضلوا عدم إدانة أو قتل إخوانهم المسلمين من طائفة مختلفة، من خلال وصفهم بالمرتدين. وإضافة إلى ذلك، ظهر المتطرفون الإسلاميون العنيفون الذين كان بعضهم طائفياً أكثر من البعض الآخر، لكنهم فضلوا جميعاً خوض ثورة عنيفة ضد المحافظين في الداخل الذين اتهموا بالتقرب من الأجانب. لقد أراد هؤلاء شن حرب مقدسة حقيقية وليست مجازية ضد من اعتبروهم بـ”الكفار” في الخارج و”المرتدين” الأقرب داخل الوطن.
في تلك الفترة، خلال التسعينيات، ساعد إسلامي جريء من أصول يمنية – سعودية، في بناء جماعة متطرفة عالمية تسمى “القاعدة”، وبذلك تبدلت ساحات المعارك في الحروب داخل الإسلام صوب قتال وحشي في أفغانستان والجزائر والبوسنة ومصر وروسيا والصومال والسودان.
ومع حلول منتصف التسعينيات، حينما احتمت جماعة “القاعدة” بحكومة إسلامية صديقة في السودان، قرر بن لادن وجوب قلب نظام الحكم في السعودية، وقدمت “القاعدة” نسخاً محدثة من الحجج نفسها التي قدمها المتشددون الذين استولوا على الحرم المكي في 1979. وتالياً، غادرت تلك الجماعة السودان في 1996، إذ اعتقد بن لادن أن الحكومة السعودية و/ أو المصرية حاولتا في مناسبة واحدة على الأقل، قتله هناك. وفي خضم فوضى أفغانستان الممزقة بالحرب، وجد بن لادن قاعدة جديدة لجماعته بعد أن قدم بعض قوات الصاعقة وفرق الاغتيالات إلى حركة “طالبان” الإسلامية التي حققت لتوها آنذاك تقدماً في الحرب الأهلية المندلعة منذ ما بعد الانسحاب السوفياتي. وفي أفغانستان، استطاعت “القاعدة” جمع وتدريب وتقييم آلاف المجندين.
استجد لدى القاعدة وبن لادن تفكير بأن “الأعداء القريبين” للإسلام، سواء في مصر أو إسرائيل أو السعودية أو الصومال أو في أي مكان آخر، يعتمدون جميعهم على الولايات المتحدة، بالتالي يجب شن الجهاد ضد “العدو البعيد”، وهو الأميركيون. لذا، أعلنت “القاعدة” رسمياً الحرب ضد الولايات المتحدة في أوائل سنة 1998، لكن الولايات المتحدة لم تول اهتماماً كبيراً للتنظيم حتى وقت لاحق من تلك السنة حينما استخدم عناصر “القاعدة” شاحنات مفخخة لتفجير سفارتين أميركيتين في شرق أفريقيا.
واستطراداً، أولت واشنطن مزيداً من الاهتمام لـ”القاعدة” حينما استخدم عملاء التنظيم في أكتوبر 2000 زورقاً مفخخاً لتفجير مدمرة أميركية كانت ترسو في اليمن وكادوا يغرقونها. مع حلول ذلك الوقت، أحرزت “القاعدة” بالفعل تقدماً في التخطيط لـ”عملية الطائرات” التي تهدف إلى تحويل الطائرات إلى صواريخ موجهة لضرب أهداف أميركية بارزة.
لم تكن واشنطن قد فعلت شيئاً محدداً في استثارة تلك الهجمات، وقد اختارت “القاعدة” عمداً نقل حروبها من داخل الإسلام إلى الولايات المتحدة لأسبابها الخاصة. فإلى جانب الوهم السطحي بأن الحكام المستبدين في العالم الإسلامي سوف ينهارون إذا تراجعت الولايات المتحدة الجريحة عن دعمهم، تمثل دافع بن لادن الأعمق في رغبة الارتقاء بنفسه ومجموعته إلى مستوى شخصيات تاريخية عالمية. من خلال نسختهم الحديثة من “دعاية الفعل”، تصوروا أنفسهم كعمالقة عالميين يتحدون القوة العظمى الكافرة. في وقت لاحق، أدى الخطاب الرسمي للولايات المتحدة الذي صور بن لادن كشخصية بمستوى أدولف هتلر وجوزيف ستالين، إلى تضخيم صورته عن نفسه وجماعته بشكل كبير.
في 2011 بدا خطر التطرف العالمي أقل بروزاً فيما عادت تلك الحروب جميعها إلى أوطانها
بسبب عدم ارتياحه لنشاط بن لادن المناهض للولايات المتحدة، منع المجلس الحاكم لدى “طالبان”، جماعة “القاعدة” من شن هجمات خارجية انطلاقاً من أفغانستان، لكن بن لادن تجاهل ذلك المنع مع شعوره بأن الحركة لن تفعل له أي شيء لا سيما أنه على وشك مساعدتها في اغتيال ألد أعدائها، الزعيم الأفغاني الطاجيكي أحمد شاه مسعود الذي قتله نشطاء “القاعدة” قبل يومين من هجمات 11/9.
في ذلك الوقت، كانت البيئة الأمنية الأميركية متساهلة فتمكن عملاء “القاعدة” من التدريب داخل الولايات المتحدة. وتصرف أحدهم، وهو مواطن فرنسي من عائلة مغربية، بحماقة شديدة أثناء تدريبه في مدرسة طيران بولاية “مينيسوتا” وقبض عليه في أغسطس 2001، ولكن خارج مكتب مينيابوليس الميداني التابع لـ”مكتب التحقيقات الفيدرالي”، لم تقدر سوى قلة من السلطات الأميركية أهمية المعلومة الاستخباراتية التي وصلت مكاتبها الأسبوع التالي تحت عنوان “متطرف إسلامي يتعلم الطيران.”
عودة الحروب الأهلية الإسلامية إلى ديارها
استخف بن لادن و”طالبان” بشكل أساسي بتصميم الولايات المتحدة على تدمير أولئك الذين خططوا هجمات 11 سبتمبر. وأدى التدخل الأميركي في أفغانستان إلى تشتيت “القاعدة”. وبحلول سنة 2003، صارت تلك الجماعة ممزقة ومطاردة، ووجد عناصرها بعض الغطاء لفترة من الوقت في باكستان، التي آوت أيضاً جماعات إسلامية عنيفة أخرى تركز على الهند.
بعد ذلك، عمدت واشنطن إلى بغزو العراق، ولم يكن ذلك الغزو ضرورياً وجاء سيئاً بشكل كارثي، ما أعطى “القاعدة” والمتطرفين المدعومين من إيران قواعد جديدة للعمليات. وشكلت تجاوزات الولايات المتحدة في “الحرب على الإرهاب” التي شنتها على مستوى عالمي، هبة من السماء بالنسبة إلى دعاية “القاعدة”، لا سيما في سوء المعاملة الفظيعة للسجناء.
وعلى الرغم من تلك الأخطاء الفادحة، واصلت الولايات المتحدة إجراءاتها في مكافحة الإرهاب، والتي كانت بسيطة ومستمرة ومجدية. وعلى الرغم من أنها لم تحظ سوى بقليل من الاهتمام، فقد خاضت السعودية حربها الداخلية بنجاح ضد الإرهاب، وقدمت مئات الضحايا. بعد سنة 2006، انحسرت “القاعدة” واستقرت الأوضاع في العراق بين عامي 2007 و2008، طاردت الولايات المتحدة وحلفاؤها ما تبقى من تنظيم “القاعدة” الأصلي. وفي مارس (آذار) 2003، ألقي القبض على المخطط الرئيس لهجمات 11 سبتمبر، خالد شيخ محمد، في باكستان. وأخيراً، تعقبت الولايات المتحدة بن لادن إلى مخبئه الباكستاني وقتلته بغارة محكمة في مايو (أيار) 2011. على الرغم من أن عديداً من الأميركيين يعتقدون أن بن لادن وضع تحت حماية الباكستانيين، تشير الوثائق التي استولت عليها القوات الأميركية خلال الغارة إلى أن ذلك لم يكن صحيحاً.
بعد سنوات من التجربة والخطأ، بدأ الأميركيون ببطء يتعلمون كيف يمكنهم، بوصفهم غرباء، مساعدة المسلمين الذين يرغبون في تهميش واحتواء المتطرفين في مجتمعاتهم. على الجانب العسكري، انخرط في ذلك العمل عدد صغير نسبياً من الأميركيين من أصحاب المهارات الفريدة في الاستخبارات التقنية والنقل الجوي والدعم اللوجيستي وتقديم المساعدات الطبية وتنفيذ الضربات الدقيقة. لم يتلق الجانب المدني في تلك الجهود المقدار نفسه من الاهتمام أو الاستثمار، فيما ظهر عادة بعض الأميركيين والأوروبيين ممن يتفهمون الظروف المحلية، بل استطاعوا أحياناً لعب دور بناء.
مع ذلك، لم يحدث سوى مجرد تأجيل للتحدي الأساسي المتمثل في تكييف المجتمعات ذات الغالبية المسلمة مع العالم الحديث، ولم يجر تجاوزه، إذ لم تجد تلك المجتمعات توازناً مستداماً بين عادات الاستبداد والتعطش الشعبي للعدالة الاجتماعية وحاجات الشباب والفقراء وغير المتعلمين. وحتى الآن، لم تتعاط الولايات المتحدة مع تلك القضايا الجوهرية. في أفغانستان، قدمت بعض المساعدة في ذلك الإطار، وقد جاءت في الغالب من “البنك الدولي” وقنوات غير تابعة للحكومة الأميركية. ونتيجة لذلك، عرفت التنمية البشرية، حينما تقاس بالتعليم والكهرباء والصحة العامة، تقدماً سريعا
في المقابل، لم تمتد تلك التطورات كثيراً إلى الحوكمة أو الاقتصاد المستدام أو الأمن. بالنسبة إلى أولئك الذين أمضوا وقتاً في أفغانستان خلال السنوات التي أعقبت مباشرة هزيمة “طالبان”، في الأقل حتى سنة 2007، تمثل الموضوع السائد في الإهمال وغياب الاهتمام الأميركي، وليس الطموح المبالغ فيه. ومع بعض الاستثناءات المثيرة للإعجاب، أسهم التدخل الأميركي في أفغانستان في تقويض الاستقرار أكثر من بنائه. في غضون ذلك، اضطلعت الحكومة الأفغانية بدور الشرير في المجتمع الأفغاني، أي ذلك المعتدي غير الإسلامي والفاسد والظالم الذي يهيمن عليه الأجانب.
مع حلول سنة 2011، بدا خطر التطرف العالمي أقل بروزاً، فيما عادت تلك الحروب جميعها إلى أوطانها. حدثت اضطرابات في تونس وحرب أهلية في ليبيا، واحتجاجات أعقبتها حرب أهلية في سوريا. وسرعان ما صار من الصعب تتبع جميع الحروب الأهلية التي مزقت المجتمعات الإسلامية.
ومنذ البداية، جاء رد فعل الولايات المتحدة على انتشار الحروب داخل الإسلام، مرتبكاً وبلا هدف. فبعد مقتل بن لادن ووصول أفغانستان إلى حالة جمود، بدأت واشنطن تتراجع. وقد قرر الرئيس باراك أوباما أن تدخل الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين سنة 2011 في الحرب الأهلية الليبية، لن تكون له أي تأثيرات ذات مغزى. في سوريا، لم ينتج عن الخطاب الأميركي الصاخب بشأن الحرب الأهلية هناك سوى قليل من الإجراءات. ومع اتساع نطاق الحروب داخل العالم الإسلامي، انسحبت واشنطن منها، وشكل ذلك خياراً شعبياً بين الأميركيين.
وفي السنوات التالية، نشأ تنظيم عالمي جديد من المتطرفين الإسلاميين، “الدولة الإسلامية” (داعش)، ليحل بديلاً عن “القاعدة” إلى حد كبير. اجتاح ذلك التنظيم أجزاء كبيرة من شرق سوريا وشمال العراق وشن هجمات إرهابية مروعة في أوروبا. بعد نحو سنة من التردد، وافق أوباما على مضض على مساعدة العراق والجماعات الكردية والسورية المحلية في التعامل مع ما يسمى “خلافة داعش”. في النهاية، أطاح التحالف بـ”داعش”، لكن سوريا لا تزال غارقة في العنف.
الوضع الراهن
خلال العقدين الماضيين، تطورت الجغرافيا السياسية الأساسية للحروب داخل العالم الإسلامي بشكل كبير. لقد نأت السعودية بنفسها عن النموذج الإسلامي الأصولي وهي الآن أقرب ما تكون إلى القوة الصاعدة التي تمثلها الإمارات العربية المتحدة، وإلى مصر. وترى تلك الدول الثلاث الآن أن الصداقات مع الهند وإسرائيل أكثر ربحية وفائدة من الشراكات مع دول فاشلة كباكستان. وكذلك يلجأ القادة السعوديون والإماراتيون إلى التعاقد مع شركات استشارية كـ”ماكينزي” و”بوسطن كونسلتينغ غروب” و”بوز آلن هاميلتون” وتلك الشركات قد تكون أكثر تأثيراً من أي مسؤول أميركي.
تغيرت الجغرافيا السياسية للحروب داخل العالم الإسلامي
وكذلك تطور أيضاً موقف إيران الجيوسياسي. لقد انضمت إلى التجمع الناشئ المناهض لأميركا الذي يضم في مركزه الصين وروسيا. وتعتبر باكستان و”طالبان” عضوين تابعين لذلك التحالف غير الوثيق. ففي حملاتها الأخيرة، عمدت “طالبان” إلى تنويع مصادر دعمها، وتلقت مساعدات مهمة من إيران وروسيا. ومن شأن تلك الدول، إضافة إلى الصين، أن تؤدي أدواراً حيوية في مستقبل أفغانستان.
في غضون ذلك، برزت تركيا، المنغمسة في الحنين إلى المجد العثماني وتأرجحها بين الاستبداد والديمقراطية، كقطب ثالث للجذب في الحروب المستعرة داخل العالم الإسلامي. إنها تدعم شركاءها المقاتلين في أذربيجان وسوريا وليبيا وتستعرض عضلاتها في صراعات جديدة على موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
في ذلك الإطار، إذا كان الأميركيون قلقين بشأن معاودة المتطرفين الإسلاميين العنيفين استهداف وطنهم، فإن أفغانستان ليس المكان الذي ينبغي أن يكثروا من مراقبته، إذ يضع الصراع على النفوذ حركة “طالبان” في مواجهة تنظيم “داعش خراسان” الذي يعتبر أقوى بكثير من أي بقايا خلفها تنظيم “القاعدة” في تلك البلاد. إذا أرادت واشنطن الاستمرار في محاربة “داعش خراسان”، فسيتعين عليها أن تنضم إلى طابور جيران أفغانستان الذين يهددهم التنظيم. إذا أراد الأميركيون القلقون التركيز على الأماكن التي قد يكون دورهم فيها أكثر أهمية، فإن أول مكان يجب النظر إليه هو أفريقيا. وقد يكون المكان الثاني هو سوريا وشمال العراق ثم شبه الجزيرة العربية.
التكيف مع شراكات جديدة
منذ سنة 1979، تأججت الحروب داخل العالم الإسلامي حول الطريقة الأنسب للتكيف بنجاح مع العالم الحديث. وبمقدار ما قد يفضل الأميركيون النظر إلى تلك الحروب عبر أدواتهم، فإن تلك القصة لا تتمحور حول الولايات المتحدة.
لطالما وقف الأوروبيون، أكثر من الأميركيين، في طليعة من يواجهون الاضطرابات في العالم الإسلامي، خصوصاً في منطقة البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. ولكن، في المستقبل، يتوجب على القادة الأميركيين والأوروبيين والآسيويين التفكير في المجتمعات الإسلامية المهمة التي قد تميل إلى نجاح مشجع أو الفشل محبط. لن يكون من الصعب عليهم الخروج بقائمة من الدول المتوازنة على غرار إندونيسيا، التي قد تكون قريبة من القمة.
وبعد ذلك، قد يجري أولئك القادة الأميركيون تحليلاً دقيقاً لما يمكن أن يفعلوه عملياً وواقعياً، إن وجد، في أي من تلك الحالات، حتى على الهامش، ويكون من شأنه أن يحدث فرقاً حاسماً. في المقابل، لا تتناسب مجموعة أدواتهم الحالية مع تلك الغاية. وأخيراً، لاحظ المحللان المخضرمان، مايكل شوركين وأنيليس برنارد، “أن الحاجة إلى تحسين الحوكمة والتقليل من أهمية مساعدة قوات الأمن تحظى بقبول واسع بين خبراء الإرهاب، إلى حد كونها حقيقة بديهية. ومع ذلك، فإن التعامل مع تلك المشكلات يمثل بالضبط ما لا تجيده حكومة الولايات المتحدة، ما يفسر عودتها كل مرة إلى العمل العسكري، أو ما تسميه بالعمل “المتحرك”، لقتل الإرهابيين، أو تقديم المساعدة الأمنية بشكل عام أو تمويل برامج المعونات ذات النية الحسنة بهدف تعزيز الحوكمة أو التنمية الاقتصادية التي يبدو أن تأثيرها جاء محدوداً”.
إذا استثمرت واشنطن وأصدقاؤها جزءاً بسيطاً من الجهد الخلاق والاستثمار الذي وفروه للأدوات القديمة التفاعلية، فسيجدون فرصاً بناءة في التأثير على مسار الحروب داخل الإسلام، إذ تمتد القضايا الكبرى في هذا العصر كالأمن البيولوجي وتغير المناخ والحوكمة الرقمية السيبرانية والاختلالات الاقتصادية، تمتد عبر عدد من البلدان، بما في ذلك دول العالم الإسلامي. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد مساعدة العالم الإسلامي على إنهاء عقود من الصراع الحضاري، فعليها أن تركز بدرجة أقل على الملاحقة التفاعلية للمتطرفين العنيفين الذين يخوضون صراعاً رجعياً وخيالياً من أجل الأصولية الدينية. وفي المقابل، تستطيع حكومة الولايات المتحدة أن تكون أكثر فاعلية إذا تمكنت بشكل استباقي من مساعدة حلالي المشاكل من المسلمين الذين يحاولون بأمانة التغلب على تحديات الأجيال الكبيرة التي تواجه مجتمعاتهم.
فيليب زيليكو، أستاذ التاريخ في جامعة فيرجينيا، دبلوماسي سابق، شغل منصب مستشار وزارة الخارجية الأميركية من 2005 إلى 2007. في وقت سابق، شغل منصل المدير التنفيذي للجنة 11 سبتمبر.
نقلاً عن أندبندنت عربية