كتب : رينا أميري
رد المجتمع الدولي على تولي “طالبان” السلطة في كابول بتاريخ 15 أغسطس (آب) 2021، عبر تجميد تسعة مليارات دولار من أصول “البنك المركزي الأفغاني” وتعليق المساعدات الخارجية التي تمول 75 في المائة من الإنفاق العام في أفغانستان. وينظر المانحون الرئيسون، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلى المساعدات باعتبارها إحدى أوراق الضغط القليلة على “طالبان”. ويصرون على أن تلك الأموال لن يفرج عنها حتى تفي “طالبان” التزاماتها في تشكيل حكومة شاملة، وحماية حقوق جميع الأفغان، وقطع العلاقات مع الجماعات الإرهابية.
من جهة أخرى، ضاعفت حركة “طالبان” سياساتها المتشددة، وأصرت على أنها انتصرت في الحرب، ويتوجب على الغرب أن يعترف بها. لقد قيدوا حقوق المرأة بشكل كبير، وألغوا وزارة شؤون المرأة، وأعادوا وزارة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي فرضت تفسيراً صارماً للشريعة الإسلامية في ظل نظام “طالبان” السابق (الذي سقط في 2001). وفي الجولة الثانية من التعيينات في الحكومة الأفغانية المؤقتة في 21 سبتمبر (أيلول) 2021، عينت “طالبان” في مناصب المسؤولية مزيداً من المصنفين على قائمة العقوبات الأممية بشأن الإرهاب، إذ زاد عددهم من 18 إلى 21. وعلى الرغم من تعيين أشخاص من الطاجيك والأوزبك والهزارة في مناصب وكلاء الوزراء، ما أدى إلى تحسن طفيف في تمثيل الأقليات، فإنه جرى استبعاد النساء وأعضاء الحكومة السابقة مرة أخرى. ولا تزال معظم موظفات القطاع العام ممنوعات من العودة إلى العمل، كذلك لم تعد الفتيات بعد إلى المدارس الثانوية في معظم أنحاء البلاد.
ومع ذلك، فإن تلك الإجراءات تعكس أكثر من مجرد رفض الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة وجزء كبير من بقية المجتمع الدولي. إذ تعبر أيضاً عن رفض الاعتراف بحقيقة أن أفغانستان المعاصرة بلد يختلف اختلافاً جوهرياً عن الدولة التي حكمتها “طالبان” حتى 2001. وتشكل أفغانستان الجديدة تحدياً عميقاً لـ”طالبان”، وفرصة للولايات المتحدة وشركائها كي يعيدوا التفكير في نهجهم.
وحتى مع استمرارهم في الإصرار على ضرورة الاعتراف بهم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بشروطهم الخاصة، تسيطر “طالبان” اليوم على اقتصاد متداعٍ، وشعب واقف على شفا المجاعة، ونظام منهار في الصحة العامة، وقوة عاملة مهنية مدمرة. في غضون ذلك، ظل المجتمع الدولي الذي يشعر بالإحباط من تجاهل مطالبه بشكل صارخ ثابتاً في رفضه الإفراج عن أموال المساعدات أو الأصول الحكومية الأفغانية لصالح “طالبان”. وعلى الرغم من تعهد عديد من المانحين الرئيسيين حديثاً بتقديم المساعدة الطارئة، فإن ذلك ليس سوى حل مؤقت في أحسن الأحوال. وإذا استمرت تلك المواجهة، فستكون النتائج كارثية على شعب أفغانستان.
اختبار “طالبان”
من المرجح أن تختبر تلك التحديات تحالف “طالبان” الهش، ما سيوسع الفجوة بين الأعضاء الأكثر براغماتية في الجماعة ممن يرون ضرورة تبني موقف معتدل لتأمين مساعدات المانحين، والمتشددين الذين لا يزالون ملتزمين بالأيديولوجية المتطرفة لتلك الجماعة. قد تصبح الفصائل المسلحة داخل تلك الجماعة أكثر تشدداً، ما قد يجذب دعماً أكبر من المجتمع الجهادي العالمي ويؤدي إلى توسع الشبكات الإرهابية في أفغانستان.
من المرجح أيضاً أن تؤدي الأزمة الاقتصادية المتزايدة إلى تعزيز المقاومة الشعبية ضد حكومة “طالبان”. وقد تستبعد “طالبان” وحلفاؤها ذلك السيناريو، لأنهم تمكنوا أخيراً من الاستيلاء على البلاد دون معارضة كبيرة. لكنهم يقللون من شأن المعارضة المتزايدة. وثمة بالفعل إشارات توحي بوجود مشاكل. ففي غضون أيام بعد استيلاء “طالبان” العسكري على السلطة، اشتبكوا مع متظاهرين في مدينتي “جلال آباد” و”خوست”. وفي جميع أنحاء البلاد، تنظم نساء متسمات بالشجاعة، ينضم إليهن الرجال بشكل متزايد، المظاهرات، ويطالبن بحقوقهن وإشراكهن في الحكومة. ومن المرجح أن تزداد تلك المعارضة مع تزايد الإحباط بسبب سياسات “طالبان” الوحشية وانتهاكاتها والوضع الاقتصادي المزري، وغياب الحكم الرشيد وتقديم الخدمات وتزايد انعدام الأمن.
مع تزايد الإحباط من حكم “طالبان” قد يتمكن تنظيم “الدولة الإسلامية في خراسان” الذي صعد بالفعل هجماته في جميع أنحاء البلاد، من حشد مزيد من الدعم، لا سيما بين الشباب والجماعات الأخرى التي تعاني وطأة قيود “طالبان”. ففي سوريا والعراق، نجح “تنظيم الدولة الإسلامية” (أو داعش) في تجنيد الجماعات الطائفية والنساء من خلال تسخير إحباطاتهن ووعدهن بالمقاومة والتمكين إذا قدمن مساعدات لـ”داعش”.
لدرء المزيد من الاضطرابات وحماية السكان الأفغان من تزايد معاناتهم، يجب على “طالبان” والقوى الإقليمية والدولية زيادة الانخراط الدبلوماسي، والمجازفة بتقديم تنازلات صعبة. لا توجد أسس أخلاقية رفيعة في السياسات التي تؤدي إلى تجويع السكان الأفغان.
كذلك ينبغي على “طالبان” أن تأخذ في الاعتبار حقيقة أن عديداً من الأفغان لا يؤيدون طريقة نظرتهم إلى العالم. إذ لم يكن ما يزيد على 65 في المائة من سكان أفغانستان حاضراً، قد ولدوا بعد حينما تولت “طالبان” السلطة في المرة السابقة. ومنذ ذلك الوقت، خطت النساء أيضاً خطوات هائلة في كل مجالات الحياة تقريباً. لقد تشبع سكان أفغانستان الجديدة حريات ووعود الحقبة الماضية، ولم يعودوا مستعدين للخضوع للنهج القمعي الخاص بـ”طالبان” القديمة. وحتى في غياب المؤسسات التي صانت حقوقهم إلى وقت قريب، استوعب عديد من الأفغان التقدم والتغييرات الثقافية التي عرفتها بلادهم على مدى العشرين عاماً الماضية.
واستطراداً، ينبغي على “طالبان” أن تتصالح مع حقيقة أن الأفغان قبلوا حكمهم في تسعينيات القرن العشرين لأنه بدا أفضل من الفوضى التي عاشوها في ظل فصائل المجاهدين التي سبقت “طالبان”. وفي هذه المرة، سيكون الأمر أصعب بكثير، لأن السكان تعودوا ليس على مجرد مزيد من الحريات، بل على خدمات عامة أكثر. وعلى الرغم من العيوب العميقة والفساد المستشري في القطاع العام واعتماده الشديد على المساعدات الدولية، فقد توسعت الخدمات العامة، لا سيما في التعليم والرعاية الصحية، بشكل كبير منذ 2001. ففي 2020، التحق أكثر من ثمانية ملايين تلميذ بالمدارس، وشكلت الفتيات 39 في المئة منهم. وبين عامي 2003 و2018، ازداد تقديم الخدمات الصحية ثلاثة أضعاف. وكذلك توسعت، عبر دعم من المنظمات غير الحكومية، كي تشمل المناطق النائية والمجتمعات المحرومة.
وحاضراً، تسيطر “طالبان” اليوم على اقتصاد منهار، وسكان يقف نصفهم على شفا المجاعة، ونظام رعاية صحية منهار، وقوى عاملة مهنية مدمرة. ولإنهاء أربعة عقود من الحرب، سيتعين على “طالبان” السعي بصدق إلى تحقيق تسوية سياسية وسن تدابير تتيح للمانحين إلغاء تجميد صرف الأموال. وسيستلزم ذلك فعل أكثر من مجرد إضافة التنوع العرقي اسمياً إلى الحكومة. قد يكون ذلك كافياً لتنفيذ انقلاب عسكري في أفغانستان، لكنه لن يكون كافياً لحكم البلاد، واستيعاب المعارضين الأيديولوجيين والحصول على تأييد الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر مختلفة عن وجهات نظر “الإمارة الإسلامية” (تسمية طالبانية لحكمهم حاضراً). وبالتالي، سيتعين على حركة كتلك أن تحكم باعتبارها “طالبان” مختلفة، بحسب وصفها من قبل عدد من حلفائها، إضافة إلى الوفاء بالتزامها إرساء نظام سياسي شامل وأكثر تسامحاً. وسيتطلب ذلك استبدال بعض المعينين الأكثر إثارة للجدل بمن فيهم ممثلون (عن حركة طالبان)، وإنشاء آليات ترمي إلى استشارة النساء في المداولات حول حقوقهن وإدماجهن، وطمأنة النساء والأقليات والقوى العاملة الأوسع من خلال إشراكهن بشكل هادف في الحكومة، وتنفيذ نهج أكثر تسامحاً في حقوق المرأة والثقافة والإعلام.
واستطراداً، بغية جعل مثل تلك النتيجة محتملة حتى على المدى البعيد، سينبغي إعادة ضبط توازن القوة داخل “طالبان”. من الواضح أن الملا بردار وقادة “طالبان” الأكثر واقعية ممن عبروا، في الأقل ضمن خطاباتهم، عن التزامهم بالتعددية، قد طغى عليهم قادة “شبكة حقاني” وغيرهم من المتشددين في الجناح العسكري لـ”طالبان”. في هذا الصدد، وردت بالفعل تقارير عن حدوث اقتتال داخلي بين الفصائل المختلفة. وتدعم الأدلة المستقاة من صراعات أخرى الاستنتاج بأن حركات التمرد التي يكون للجناح السياسي فيها اليد العليا على الجناح العسكري، ستنتهي على الأرجح بالتفاوض.
نهج جديد في الانخراط
سوف ينتقد الفاعلون الإقليميون تلك الجهود. في المقابل، ينبغي عليهم تجاوز الوهم بأن صفقاتهم الثنائية مع “طالبان” ستحول دون امتداد عدم الاستقرار عبر حدودهم، وأن يدركوا أن حكومة “طالبان” الحالية غير مستقرة بطبيعتها. يجب على باكستان التي تتمتع بأكبر تأثير في “طالبان”، أن تستخدم نفوذها لدعم إعادة التوازن تلك بدلاً من الاعتقاد بأن عناصر حقاني سيضحون عملاء موثوقين.
الأزمة الاقتصادية في أفغانستان قد تؤجج المقاومة الشعبية
في سياق متصل، كانت مفيدة تلك الاجتماعات التي نهضت بها بعض الجهات الإقليمية الفاعلة، وكذلك الدعوات التي طلبت من حركة “طالبان” إشراك مكونات أوسع في تسيير شؤون البلاد، لكنها فشلت في إبراز حقوق المرأة بشكل كافٍ كمكون أساسي في هذا الإدماج. كذلك تحتاج (الجهات الفاعلة) إلى بذل مزيد من الجهد في محاسبة “طالبان” على الوضع الحالي، بدلاً من مجرد إلقاء اللوم على الغرب، ودعم آليات الأمم المتحدة القوية في تعزيز الدبلوماسية وحماية الأفغان المستضعفين وتعزيز الثقة بين السكان.
واستكمالاً، ينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً تجاوز اقتصار التعامل مع “طالبان”، على موضوعات إجلاء مواطنيهم وحلفائهم، وتنسيق وصول المساعدات الإنسانية. إذ لن تحول المساعدات الإنسانية وحدها دون انهيار الاقتصاد أو ظهور مزيد من التطرف والاضطراب. فبينما يجب عليهما (الولايات المتحدة وأوروبا) الاستمرار في حجب الاعتراف عن “طالبان”، ينبغي مضاعفة الانخراط الدبلوماسي العملي والمستند إلى المبادئ معها. وكذلك يتوجب العمل بالتنسيق مع الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية للاستفادة من الترسانة الكاملة من الأدوات السياسية والاقتصادية وحقوق الإنسان اللازمة في التصدي لخطورة الوضع في أفغانستان. كذلك يتوجب عليهم (الولايات المتحدة وأوروبا) المشاركة في الاجتماعات الإقليمية حول أفغانستان، والعمل مع الأمم المتحدة بغية محاولة إيجاد أرضية مشتركة بين أعضاء مجلس الأمن في الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية بشأن أفغانستان.
وكخلاصة، يظل العمل الدبلوماسي الجاد باتجاه تسوية سياسية شاملة وقائمة على الحقوق، السبيل الوحيد القابل للتطبيق من أجل الخروج من وضع محفوف بالمخاطر بالنسبة إلى أفغانستان والمنطقة. إذا انزلقت أفغانستان إلى حرب أهلية، فإنها ستوسع رقعة التطرف، وتزيد زعزعة استقرار منطقة مضطربة سلفاً، وتسبب أزمة إنسانية مدمرة ستطاول الشواطئ الغربية مرة أخرى.
نقلاً عن أندبندنت عربية