مشير باسيل عون
نشأ الشاعر الألماني فريدريش هولدرلين (1770-1843) في بيئة متدينة، إذ كان أبوه يدير شؤون الكنيسة المادية، وكانت أمه ابنة قسيس يخدم شؤون الرعية الروحية، لذلك أراد له والداه أن يعتنق الدعوة الكهنوتية، فأدخلاه المدرسة الديرية في دنكندورف (بادن – فورتمبرغ، جنوب ألمانيا) في عام 1784، ومنذ ذلك الحين، اتّقدت قريحته الأدبية، فأكبّ ينشئ نصوصاً يستلهم مضامينها من أعمال الشاعر الألماني فريدريش كلوبشتوك (1724-1803)، والشاعر الألماني ومنظر الجماليات فريدريش شيلر (1759-1805). من القصائد الشبابية هذه قصيدة “الليل والحياة الإنسانية” يتساءل فيها عن معنى الوجود ويستفسر عن مستقبل الإنسان، ممتدحاً الصداقة الحق والحب الخالص.
استهوته أعمال القدماء وأساليبهم منذ تفتح موهبته الأدبية، فاحتفى بعظمة الأدباء الإغريق والرومان في أناشيد شتى، منها “أمنيتي في إنشاد الأبطال”، و”بلاد الإغريق”، و”طيران بنذاروس”. من جراء إصرار والديه، التحق بالمدرسة الإكليريكية اللاهوتية البروتستانتية في توبينغن عام 1788، حيث تعرف إلى الفيلسوفين الألمانيين هيغل (1770-1831)، وشلينغ (1775-1854) اللذين صادقهما، فظلا أمينين على الصداقة الفكرية هذه طوال حياتهما. درس المثاليون الثلاثة هيغل وشلينغ وهولدرلين اللاهوت معاً في المعهد اللاهوتي هذا.
أثر المثالية الألمانية
لا ريب في أن زمن هولدرلين كان زمن الفلسفة الألمانية المثالية التي استهلها كانط (1724-1804) بإبراز مقام الذات العارفة وقوانينها القبلية الاقتضائية (a priori) المتقدمة على موضوع المعرفة. لذلك يصف هولدرلين كانط بموسى الأمة الجرمانية. ولكنه كان أيضاً زمن الإبداع الفلسفي المتجلي، خصوصاً في أعمال روسو (1712-1778) التي أثرت في قصائد الشاعر الألماني تأثيراً بالغاً. بعد إنهاء دروسة اللاهوتية، خرج من المعهد اللاهوتي في عام 1793 من غير أن يصبح قسيساً خادماً في الكنيسة البروتستانتية. فآثر الانتقال إلى جامعة يانا يتابع فيها دروس الفيلسوف الألماني المثالي فيشته (1762-1814) الفلسفية والجمالية، مستمعاً إلى محاضراته في نظرية العلم وأسس الفلسفة العملية. عندما عاد إلى فرانكفورت، التقى هيغل، وأصغى إلى أفكاره الفلسفية. وما لبث أن أنشأ نشيد “الحرية” ونشيد “إلهة الانسجام”.
عبقرية الإغريق مهبط الإلهام الشعري
نشأ تقليد تأويلي يعاين في ناموس الحرية مستودع تأملات هولدرلين الفلسفية، غير أن أعماله الشعرية كلها تختزن تفكيراً فلسفياً أصيلاً يتناول به سر العالم، ولغز الوجود، وأحجية الكون، ذلك بأنه كان يؤمن بأن الشعر ليس اختباراً فردياً فحسب، بل وسيلة أساسية من وسائل الفعل التاريخي المؤثر في العالم. الشعر كاشف حقائق الوجدان وحامل رسالة الإنسان. ومن ثم، فإن هولدرلين لا يطلب فإن يكون شاعراً وحسب، ذلك بأن الشاعر، في نظره، أعمق الناس نفاذاً إلى جواهر الحقائق، يتجاوز بالعفوية الفطرية حسيات الوجود الظاهرة ليبلغ أعتاب الروحيات المنحجبة. بما أن العالم يحيا في عوز مدقع إلى الإلهيات المتسامية، فإن رسالة الشاعر تقتضي أن يقف ذاته في سبيل ترميم المعنى الروحي وإعادة غرسه في تربة العالم.
ومن ثم، ينبغي استثمار رمزيات البطلين الإغريقيين ديونيسيوس وهيراكليس واستخراج كنوز عطاءاتهما الوجودية ودلالالتهما الروحية. من معين الميثولوجيا الإغريقية، يستل هولدرلين أبطاله العظماء، ويستوحي منهم أمثولات الرفعة والتألق والإبداع. ولا يلبث أن يضيف إليهم المسيح الذي يعاين فيه آخر عظماء الأزمنة الذهبية القديمة. أما اعتقاده الإيماني الأرسخ، فيملي عليه أن الدين الصحيح ينبغي أن يبث فرح الوجود في فؤاد الإنسان، ويزرع السكينة في وجدانه، ويعزز في داخله طاقات الإبداع الشعري، ويؤهل كيانه كله للاتحاد الصميمي بالكائنات والموجودات. من جراء الاعتراف بالتواصل الكياني العميق مع الكائنات، يستحسن هولدرلين التصور الهيغلي الحلولي الأرحب، فيستعيد عبارته الشهيرة: “الواحد والكل”.
وعلاوةً على ذلك، يعتني هولدرلين بمصائر المدينة الإنسانية في معترك التاريخ. فيقترح إنشاء جمهورية ألمانية مثالية تذكره بالمدينة الأفلاطونية الفاضلة، يحكمها عقلاء الروح المؤمنون بالتشاركية والتواصلية والتكاملية. مثله السياسي الأعلى في هذا كله اختبارات الإغريق القديمة، إذ اتضح له أن هذه البلاد كانت أرض الحرية، ومنبت العظماء، وموئل الإبداع. سرد بليغ في عمله المسرحي إيبريون يصف عراك الأبطال الإغريق ونضالهم في سبيل الحرية. حتى مسرحيته التراجيدية “إمبذوكليس” التي لم يستطع أن ينجزها، تروي لنا قصة رجل نابغ خلاق مقدام شاء أن يلغي النظام الملكي، وأن يستبدل به النظام الجمهوري مزيناً بمؤسسات التواصل والانفتاح والمراقبة والمحاسبة. هنا يتجلى تأثير روسو بليغاً في فكره السياسي. الإغريق التي حلم بها تختلف عن الإغريق الكلاسيكية التي تخيلها غوته ومدرسته الأدبية. إنها بلاد تشبه المناطق الشفابية الألمانية، تقطنها الآلهة شعرياً، في غمرة انبساط الطبيعة الغناء. تنطوي هذه البلاد على معنى الغربة التي استثمرها هايدغر استثماراً استجلى به مفهوم الوطن الأم (Vaterland).
الذات الجماعية الألمانية صانعة الإبداع في الاعتدال الحكيم
تظهر خصائص تفكير هولدرلين الفلسفي في نص عنوانه “الحكم والكينونة”، إذ ينطوي على نقد صريح يصيب المثالية الألمانية التي تمزج كينونة الكائنات بالذاتية الإنسانية، فتصبح هذه الذاتية أصل كل الموجودات. استثار هذا الانتقاد ردود شلينغ وهيغل اللذين سارعا إلى إعادة النظر في بناءاتهما المثالية. جرياً على تعليقات هايدغر الفلسفية، يستحسن بعض الفلاسفة أن يتأملوا فلسفياً في أعمال الشعراء والأدباء. أما الحركة المعاكسة، فنادرة وغريبة، لم يبادر إليها إلا قلة من الشعراء، ومنهم هولدرلين نفسه، إذ ضمن قصائده أبعاداً فلسفية صريحة جعلتها في مصاف التفكر الفلسفي المحض.
ابتداءً من عام 1800، اختبر هولدرلين نضجاً فكرياً بالغاً، فأتت قصائده، لا سيما النشائد والقصائد الغنائية والرثائيات متشحةً بأردية التعبير الفلسفي، تنطوي على تصور قيم في فلسفة التاريخ يلائم مقاربات الشاب هيغل في مستهل إنتاجه. استطاع الشاعر أن يرسم شروط المؤالفة بين محددات الوجود من أجل تجاوزها جدلياً والارتقاء بها إلى مستوى التغيير الإصلاحي التاريخي. فأفضى هذا كله إلى بناء حركة التاريخ على مناهضات ثلاث: مناهضة نظام التمييز بين الأمير والرعية، ومناهضة الفصل بين الكنيسة المؤسسة والمؤمنين الخاضعين، ومناهضة القطيعة بين الشعراء والشعب. فإذا باختبارات الإغريق تتجلى في قدرتها النافذة على تحقيق وعود هذه المناهضات واستطلاع أفق الاكتمال المنشود، بيد أن الشاعر لا يسعه إلا أن يشير إلى مأساة التخلف عن الإنجاز التاريخي هذا.
حين يقارن هولدرلين عبقرية الإغريق بموهبة الألمان، يعلن أن “نار السماء”، وهي رمز إنجاز الثورة الإصلاحية، فضيلة إغريقية فطرية، تجعل الناس في ذلك الزمن الغابر يكتسبون من الثقافة خصال القناعة والزهد والاعتدال والتحفظ وعدم التكلف. أما الألمان، فإنهم لا يحتاجون إلى اكتساب هذه الخصال التي جبلوا عليها. فما عليهم، والحال هذه، فإن يعودوا إلى ذواتهم، أي إلى وطنهم الداخلي، ويتقنوا فن استثمار هذه الخصال الناشبة في عمق كيانهم. في هذا السياق، يميز هولدرلين بين شاعرية الإغريق وشاعرية الغرب تجسدها العبقرية الجرمانية. فإذا به يعلن ضرورة العودة إلى الأرض الأم (vaterländische Umkehr)، أي عودة الشعب الألماني إلى ذاته حتى يستجمع الأمكنة المقدسة في استنارة التفكر الفلسفي في مسار التاريخ البشري. وقد تتحول الأرض الأم إلى أرض الأب (Vaterland) الساكن في السماء والقادر على إنجاب الأرض ليصبح أبا الأرض، على نحو ما ذهب إليه هولدرلين في ختام قصيدته “الوحيد”.
في التناول الفلسفي والسياسي والنفسي
من اللافت أن هولدرلين لم ينعم بالشهرة الأدبية والفكرية التي كان يستحقها في أثناء حياته. من الفلاسفة الذين اكتشفوا فرادة أسلوبه وعبقرية أناشيده وجمالية فتوحاته الحدسية، نيتشه (1844-1900)، وهايدغر (1889-1976)، اللذان استنطقاه استنطاقاً فلسفياً جعلت نصوصه مصدر إلهام وإرشاد. أما فرنسا، فاستقبلته على دفعتين: الاستقبال الأول أعده السورياليون الذين تخيروا من مواضيع قصائده أسطورة الشاعر المخبول الرومانسية، في حين أن الثاني هيّأه الفلاسفة الفرنسيون الذين قرؤوه في تأويليات هايدغر الفذة.
استثار هولدرلين إذاً قريحة الفلاسفة الذي عاينوا في نصوصه منابع إلهام خليقة بإغناء التفكر الفلسفي في مآزق الوجود الإنساني، لا سيما في مفارقات الانتماء القومي والوطني. من بين القراءات الكثيرة المتنوعة والمتدافعة، أتخير ثلاثةً أساسية. صاحب القراءة الأولى الفيلسوف الألماني هايدغر الذي عاين في هولدرلين شاعر القرارات المصيرية في استجلاء هوية الشعب النابض بنبوغ الشعر والفكر. استناداً إلى النقد الذي تناول به هايدغر انسدادات المتافيزياء الغربية، يتجلى هولدرلين في هيئة المفكر الجريء الذي انفصل عن جدلية هيغل، وخرج من دائرة النظر المتافيزيائي الغربي، مؤثراً الغوص على معاني الصحوة الجرمانية الذاتية في وعي الفرد والجماعة، بيد أن القراءة الهايدغرية التي حاكت شخصية هولدرلين في ثوب الفيلسوف، عارضها الفيلسوف وعالم الاجتماع والمؤلف الموسيقي الألماني تيودور أدورنو (1903-1969) ورشقها بالتجريد الأيديولوجي المغرض، منكراً على هايدغر أسلوبه المفرط في تطلب الأصالة المزيفة وإمعانه في تقديس نص هولدرلين الشعري من غير النفاذ إلى جماليته الأدبية العصية على الأخذ العقلي المحض. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الناقد الأدبي السويسري بدا ألمان (1926-1991) استطاع في كتابه “هولدرلين وهايدغر” أن يستجلي الروابط الوثيقة بين إبداعات شعر هولدرلين وفتوحات فكر هايدغر المستنيرة بالالتماعات المتلألئة في قصائد الشاعر.
تنعقد القراءة الثانية في كتاب المتخصص بالآداب الألمانية الفرنسي بيار برترو “هولدرلين: مسعى إلى سيرة من الداخل”، فتتاول الأبعاد الثورية في قصائد هولدرلين الذي عاصر الثورة الفرنسية وتفاعل وإياها وناصرها من غير أن يجرؤ على معاندة حكم الأمراء الألمان المطلق. يصر برترو في بحثه على تنزيه الشاعر من كل اختلال نفسي، معتبراً أن الاضطراب الداخلي الذي عاناه ينزل منزلة العارض الطارئ والحدث الشخصي العابر. بخلاف هذه المقاربة، انبثقت قراءة ثالثة اعتمدها عالم النفس التحليلي الفرنسي جان لابلانش (1924-2012) في كتابه “هولدرلين ومسألة الأب”، إذ استعان بنظرية جاك لاكان في تحليل أصل الذهان النفسي، فأبان أن الشاعر الألماني هذا كان يعاني ذهاناً نفسياً حاداً من جراء حرمانه الحضور الأبوي. لا ريب في أن تنوع القراءات شاهد على خصوبة الفتوحات الأدبية والفكرية التي تزينت بها أعمال هولدرلين، ذلك بأن الفكر البليغ حمّال أوجه، يستفز الناس ويستحثهم على نبش المضامين المنطوية في ثنايا النصوص الإبداعية.
المصدر : أندبندنت عربية