كريتر نت – عربي بوست
أكد الرئيس جو بايدن أن احتمال إرسال قوات برية أمريكية إلى أوكرانيا في حالة الغزو الروسي “ليس مطروحاً على الإطلاق”، لتصبح العقوبات الاقتصادية الخيار الوحيد، فهل تنجح؟
جميع المعطيات على الأرض حالياً تشير إلى أن مسألة الغزو الروسي لأوكرانيا باتت مسألة وقت، في ظل الحشود العسكرية الضخمة على طول الحدود بين البلدين، إضافة إلى الحديث المكثف من جانب واشنطن وحلفائها بشأن سيناريوهات الرد المحتملة ضد موسكو، حال وقوع الغزو فعلاً.
ورغم أن جذور الأزمة الأوكرانية ترجع إلى ما قبل أكثر من 3 عقود، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أن حلقة مشابهة كثيراً للحلقة الحالية من الأزمة تجعل كثيراً من المحللين متشائمين بشأن نجاح سلاح التهديد بالعقوبات الاقتصادية في ردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن “التهام” المزيد من أراضي أوكرانيا المتاخمة لروسيا.
الردع العسكري الأمريكي غير وارد
صحيح أن موسكو لا تعترف علناً بأنها تسعى لغزو أوكرانيا، بل تنفي الأمر برمته وتتهم واشنطن وحلفاءها بخلق أزمة لا وجود لها، لكن الحشود العسكرية الروسية على الحدود والاختراقات المتتالية لاتفاقيات مينسك لحل الأزمة، كلها مؤشرات توحي بأن التحرك عسكرياً لضم إقليم دونباس الأوكراني بات وشيكاً، وهو ما حدث قبل سبع سنوات في إقليم شبه جزيرة القرم.
والسبت 11 ديسمبر/كانون الأول، قال الرئيس الأمريكي للصحفيين إنه أوضح لنظيره الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا ستدفع “ثمناً باهظاً”، وستواجه عواقب اقتصادية مدمرة إذا غزت أوكرانيا.
لكن بايدن أكد للصحفيين في الوقت ذاته أن احتمال إرسال قوات برية أمريكية إلى أوكرانيا في حالة الغزو الروسي “ليس مطروحاً على الإطلاق”، على الرغم من أنه سيكون لزاماً على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إرسال المزيد من القوات إلى دول الجناح الشرقي بالحلف لتعزيز دفاعاتها. وأضاف “لقد أوضحت تماماً للرئيس بوتين… أنه إذا تحرك نحو أوكرانيا فإن العواقب الاقتصادية على اقتصاده ستكون مدمرة”.
وقال بايدن، الذي تحدّث مع بوتين عبر الهاتف لمدة ساعتين، الأسبوع الماضي، لمحاولة نزع فتيل الأزمة التي تهدد أوروبا بحرب لا يريدها أحد، إنه أخبر الرئيس الروسي بوضوح أن مكانة روسيا في العالم ستتغير “بشكل ملحوظ” في حالة غزو أوكرانيا.
كما بعث وزراء خارجية مجموعة الدول السبع برسالة مماثلة إلى موسكو، بعد اجتماع في ليفربول، حذروا فيه من عواقب وخيمة لأي توغل، وحثوا موسكو على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وقال مسؤولون إن وزراء مالية مجموعة السبع سيجتمعون بشكل افتراضي يوم الإثنين، لمناقشة المخاوف الاقتصادية، بما في ذلك التضخم، ولكنهم سيبحثون أيضاً العقوبات المحتملة ضد روسيا إذا تحركت ضد أوكرانيا.
هل تردع التهديدات بوتين؟
صحيفة New York Times الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه “تهديد الولايات المتحدة بالضغط على الاقتصاد الروسي هو تكتيكٌ تباينت نتائجه تاريخياً”، شكك في إمكانية أن يؤدي التهديد بالعقوبات إلى ردع بوتين، الذي لا يرى الأزمة من منظور اقتصادي، بل من منظور الأمن القومي لموسكو.
فحين عبر الجنود الروس إلى أوكرانيا واستولوا على شبه جزيرة القرم عام 2014، استجابت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وكان بايدن النائب وقتها، بمجموعةٍ من العقوبات الاقتصادية، التي فُرِضَت على مئات المسؤولين والشركات الروسية، وقيّدت الاستثمارات والتجارة في قطاعات التمويل والنفط والصناعات الدفاعية الحيوية في البلاد.
والآن، مع احتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا مرةً أخرى، أعلن مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض أنّ بايدن نظر إلى بوتين في عينه الأسبوع الجاري “وأخبره أنّنا مستعدون الآن لفعل كل الأشياء التي لم نفعلها في عام 2014”.
ولكن لم يتضح بعد ما إن كانت التدابير الأكثر صرامة ستقنع روسيا بالبقاء خارج أوكرانيا أم لا، فتاريخياً يُمكن القول إن العقوبات الاقتصادية لها تاريخٌ متباين من النتائج، إذ هيمنت عليها الإخفاقات أكثر من النجاحات. كما أنّ الإجراءات التي من شأنها إلحاق أكبر ضرر بالاقتصاد الروسي -مثل تقييد الصادرات النفطية- ستُضر في الوقت ذاته بحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا.
والأحد 12 ديسمبر/كانون الأول، قالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس إن بريطانيا تدرس جميع الخيارات حول كيفية الرد، إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، موضحة أنها استخدمت العقوبات الاقتصادية في السابق لتوجيه رسالة دبلوماسية لموسكو.
وأضافت تراس للصحفيين خلال اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع “عندما تريد المملكة المتحدة إرسال رسائل واضحة، وتحقيق أهداف واضحة، سنكون مستعدين لاستخدام العقوبات الاقتصادية”.
وأفادت مسودة البيان التي أكدت محتواها مصادر من مجموعة السبع “يجب ألا يكون لدى روسيا أي شك من أن أي عدوان عسكري على أوكرانيا، سيكون ثمنه باهظاً وعواقبه وخيمة”.
وفي الوقت نفسه، نقلت وكالة الإعلام الروسية عن ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، قوله إن بوتين أبلغ بايدن بأنه “يريد حقاً” لقاءه وجهاً لوجه، عندما تحدثا عبر الفيديو في وقت سابق هذا الشهر. ونقلت الوكالة عن بيسكوف قوله إن بوتين لم تكن لديه مقومات للتفاؤل، بعد حديثه مع بايدن بسبب استمرار الخلافات الجادة والمتعلقة بالمفاهيم بين روسيا والولايات المتحدة.
العقوبات سلاح ذو حدين
وقال جيفري شوت، الزميل الأقدم في مؤسسة Peterson Institute for International Economics، لنيويورك تايمز: “لقد شهدنا مراراً وتكراً أنّ العقوبات تُواجه صعوبةً في فرض التغييرات على السياسات الكبرى. وهي مجرد أداة محدودة”.
ويرى شوت أنّ أفضل فرص النجاح تتحقّق حين تمتلك إحدى الدولتين نفوذاً اقتصادياً كبيراً على الأخرى، وحين يكون هدف السياسة الموضوع محدوداً، لكن كلا الشرطين لا ينطبق على هذه الحالة، إذ أوضح بوتين أنّه يعتبر تحركات روسيا في أوكرانيا مسألة أمنٍ قومي، وباستثناء قطاع النفط تُعتبر التجارة والاستثمارات الدولية الروسية محدودة، خاصةً داخل الولايات المتحدة.
وتقوم وجهة النظر الروسية في الأزمة الأوكرانية على أساس أنه عندما تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1990، قدمت الولايات المتحدة وعداً لروسيا أن حلف الناتو لن يتوسع شرقاً “بوصة واحدة”، لكن واشنطن لم تلتزم بالوعد، وتم ضم كثير من دول أوروبا الشرقية للحلف العسكري، الذي تأسس كتهديد للاتحاد السوفييتي، الذي ترى روسيا نفسها وريثه حالياً.
وبالتالي وضع بوتين خطاً أحمر جديداً لحلف الناتو، يتمثل في أوكرانيا، ويريد ضمانات قانونية مكتوبة أن كييف لن تنضم أبداً لحلف الناتو، وهو ما رفضه بايدن حتى الآن.
ومع استبعاد التدخل العسكري المباشر تماماً، استعرض مسؤولو إدارة بايدن سلسلةً من الخيارات التي تتضمن فرض عقوبات اقتصادية على أقرب أصدقاء بوتين وأنصاره، وحظر تحويل الروبل إلى دولار، والضغط على ألمانيا لمنع افتتاح خط أنابيب الغاز الجديد بين روسيا وشمال أوروبا.
إذ تمُدُّ روسيا أوروبا بأكثر من ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي عبر خط أنابيب نورد ستريم القائم حالياً، وقد اتهمها البعض مؤخراً بوقف الإمدادات من أجل الضغط على ألمانيا للموافقة على تشغيل خط نورد ستريم 2.
ويُمكن لواشنطن فرض عقوبات كاسحة أكثر على شركات وبنوك بعينها داخل روسيا، ما سيعرقل الاستثمار والإنتاج بشدة في قطاع الطاقة. لكن خطورة العقوبات الشديدة على شركةٍ مثل Gazprom الروسية تكمُن في أن روسيا قد ترد بقطع الإمدادات عن أوروبا. وأوضح شوت: “قد تضر تلك العقوبات روسيا كثيراً، لكنها ستضر أوروبا أيضاً”.
هل يمكن محاصرة روسيا اقتصادياً؟
وفيما يتعلّق بتصعيد الضغط، اقترح مدير برنامج روسيا-أوراسيا بمعهد Chatham House جيمس نيكسي الضغط مالياً على الأوليغاركية التي تُساعد بوتين على البقاء في السلطة، باعتبارها أحد سبل توجيه الضغط المستهدف.
وأردف: “كنت سأركز بشدة على مطاردة الدائرة الداخلية والخارجية المحيطة ببوتين، التي لها علاقات بالنظام”. وفي الوقت الحالي، يُعتبر الغموض المحيط بالتحركات الأمريكية المحتملة أمراً مفيداً، “فمن الجيد أن يُواصل الروس التخمين”.
ويُشارك في لعبة التخمين حالياً كل من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك من أجل تحقيق أهدافهم السياسية. إذ تنشر روسيا قواتها على الحدود، وتُطالب في الوقت ذاته بضمانة على أن أوكرانيا لن تنضم إلى حلف الناتو، بينما يُحذر الغرب من تداعيات اقتصادية أليمة في حال حدوث الغزو.
وتشمل قائمة أكثر الإجراءات صرامة قطع اتصال روسيا بنظام المدفوعات العالمي SWIFT، الذي ينقل الأموال حول العالم، كما حدث مع إيران. ففي عام 2019، وصف رئيس الوزراء الروسي آنذاك ديميتري ميدفيديف هذا التهديد بأنّه يرقى إلى مستوى “إعلان حرب”.
وقد جادلت ماريا شاغينا في تقريرٍ لـCarnegie Moscow Center بأنّ خطوةً كهذه ستكون مدمرةً لروسيا في المستقبل القريب على الأقل. إذ كتبت العام الماضي: “قطع اتصال روسيا بنظام المدفوعات سيُلغي كافة المعاملات الدولية، ويُؤدي إلى تقلب العملة، كما سيتسبب في تدفقات ضخمة لرؤوس الأموال إلى الخارج”.
لكن منذ عام 2014، اتّخذت موسكو العديد من الخطوات لتخفيف خطورة هذا التهديد عن طريق إنشاء نظامها الخاص لمعالجة المعاملات المحلية ببطاقات الائتمان وفقاً لماريا، لكن هذه الخطوة عموماً ستؤثر على الدول الأوروبية أكثر من الولايات المتحدة، لأنّ تلك الدول تتعامل تجارياً مع روسيا على نطاقٍ أوسع بكثير.
في حين قال العديد من المحللين السياسيين والاقتصاديين إنّ تقييد الوصول إلى نظام SWIFT سيكون الملاذ الأخير. بينما ذكر آري كروغلانسكي، أستاذ علم النفس بجامعة ماريلاند، أنّ الاقتصاديين يغفلون عادةً الجانب النفسي المهم عند تقييم تأثير العقوبات.
وأضاف لنيويورك تايمز: “قد تُجدي العقوبات نفعاً مع الزعماء المهتمين بالقضايا الاقتصادية أكثر من غيرها”، لكنه لا يعتقد أنّ الزعيم الروسي ينتمي لهذه الفئة. ويرى كروغلانسكي أنّ الزعماء مثل بوتين يُحركهم إحساسهم بأهميتهم الشخصية أكثر من غيره، والتهديدات من هذا النوع عادةً ما تزيد عناد موقفهم بدلاً من تشجيعهم على التسوية.
وحين نتحدّث عن العقوبات المرتبطة بأوكرانيا حالياً، فإنّ تأثيرها كان ضعيفاً للغاية بحسب نيكسي، الذي أضاف: “تعلّم الروس التعايش مع الكثير من العقوبات، ويرجع ذلك جزئياً إلى بطء وسوء تنفيذ العقوبات، كما أنّ تأثيرات العقوبات على الاقتصاد الروسي كانت محدودة”.
ويُمكن تعريف النجاح بالعديد من الطرق، إذ قال نيكسي إنّ إجراءات عام 2014 نجحت على الأرجح في ردع الكرملين عن التدخل العسكري الأكبر في أوكرانيا. حيث توصّل تقريرٌ لمؤسسة Atlantic Council، صدر في الربيع، إلى نفس الاستنتاج. وربما لم تنجح العقوبات في إلغاء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم بحسب نيكسي، ولكنها أقنعت بوتين بالعدول عن اتخاذ خطوات أكثر عدوانية، حتى الآن على الأقل.