كريتر نت – متابعات
يبدو أن غزو روسيا لأوكرانيا قد بات مسألة وقت، فالغرب يستعد لما سيفعله رداً على هذه الخطوة، ويرفض تقديم ضمانات يريدها فلاديمير بوتين، فكيف تبدو الأجواء على طول الحدود المشتعلة؟
هكذا أصبح احتمال إقدام روسيا على غزو أوكرانيا حديث الساعة حول العالم، خصوصاً بعد أن فشل اتصال الساعتين بين الرئيس الروسي بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن في نزع فتيل القنبلة التي تهدد شظاياها أوروبا والعالم أيضاً.
ونشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً ميدانياً من الحدود بين روسيا وأوكرانيا، عنوانه “لا أحد يريد أن يكون عبداً لدى بوتين”، رصدت من خلاله وجهة نظر الأوكرانيين الرافضين لما يصفونه بسعي موسكو لاحتلال بلادهم.
وحشدت روسيا أكثر من 175 ألفاً من قواتها العسكرية على طول حدودها مع أوكرانيا، وتستعد للغزو العسكري خلال أسابيع، بحسب التقارير الغربية، بينما تنفي موسكو نيتها في الغزو، وتُلقي باللوم على الغرب في التصعيد الحاصل حالياً.
ورغم أن الموقف الآن على الحدود الروسية-الأوكرانية يشبه إلى حد كبير الأجواء التي سبقت اجتياح الجيش الروسي شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ثم ضمتها روسيا لاحقاً عام 2014، فإن جذور الأزمة الأوكرانية تعود إلى انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا نفسها.
وجهاً لوجه انتظاراً لساعة الصفر
وبالنسبة لميشا نوفيتسكي، مسألة غزو روسيا لأوكرانيا من عدمه ليست مسألة نظرية. فالعدو يقبع على بُعد 50 متراً فقط خلف لوح خرساني، وتتعالى الأصوات الروسية من وقتٍ لآخر بشكل مخيف على الجانب المقابل من منطقة فاصلة مليئة بالأشجار والشجيرات المتناثرة المغطاة بالثلوج.
قال نوفيتسكي، وهو ملازم أول بالجيش الأوكراني، مُتحدِّثاً مما باتت عملياً الجبهة الشرقية لأوروبا مع روسيا، للغارديان: “بإمكانك رؤية الدخان حين يشعلون مواقدهم، وهم يطلقون النار علينا يومياً”.
يتواصل الصراع بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا منذ قرابة ثماني سنوات طوال. وهناك أصداء تُذكِّر بالحرب العالمية الأولى، فكلا الطرفين متواجهان بطول “حدود”، أو خط تماس، ثابتة ممتدة لـ250 ميلاً (402 كم تقريباً)، تمر متعرِّجةً عبر منطقة دونباس الأوكرانية.
وتوجد خنادق طينية، ومراكز قيادة محصنة، ومبانٍ دمّرتها نيران المدفعية. يدافع نوفيتسكي عن مصنع منسوجات سابق، الذي بات الآن أطلالاً شبحية وبلا سقف. وكتب أحدهم على أحد الجدران رسالة تذكيرية مفيدة: “إن أخطأت فأنت في عداد الموتى”.
ويكون كل شيء هادئاً إلى أن يتلاشى ذلك الهدوء فجأة، ففي صباح الخميس 9 ديسمبر/كانون الأول، كان الجنود الأوكرانيون يشقون طريقهم نحو موقع حدودي قريب يطل على مدينة دونيتسك، يتمركز الانفصاليون في مطار المدينة المُحطَّم على طول ما كان سابقاً مدرج المطار، ثُمَّ انطلقت ثلاث طلقات: طلقات قناصة، سرَّع الجنود حركتهم، وكانت هناك لافتة موضوعة في حقل أصفر وعليها علامات حمراء تحذر من الألغام والذخائر غير المنفجرة.
ذكَّرتنا كثيرٌ من دبلوماسية الأسبوع الماضي بحقبة غابرة أيضاً، فلم يُخفِ فلاديمير بوتين ازدراءه لأوكرانيا، فهي الآن، في نظره، منطقة نفوذ وسيطرة روسية دائمة أكثر من كونها دولة.
بوتين لا يعتبر أوكرانيا دولة مستقلة
استولى بوتين في 2014 على شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ووضع وكلاء انفصاليين في دونيتسك والمدينة المجاورة لها لوهانسك، وهما متاخمتان لروسيا، لكن ما ينويه بوتين بعد ذلك أمر غير واضح على نحوٍ يثير القلق.
والمؤشرات لا تُنذِر بخير، إذ حشدت موسكو هذا الخريف قواتٍ وأسلحة ثقيلة على طول الحدود الأوكرانية مباشرةً. وأثارت صور الأقمار الصناعية التي تُظهِر نحو 175 ألف جندي روسي مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها، ولا يزال من غير الواضح ما إن كان هذا تكتيكاً تفاوضياً أم حشداً من أجل الغزو.
تحدث جو بايدن يوم الثلاثاء، 7 ديسمبر/كانون الأول، مع بوتين، لساعتين، عبر تقنية الفيديو. وأعاد الرئيس الأمريكي تأكيد التزامه بوحدة الأراضي الأوكرانية، لكنَّه رفض أن يقدم لبوتين ما كان يريده: ضمانة أكيدة بأنَّ كييف لن تنضم لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أبداً.
أطلع بايدن الخميس الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، على مباحثاته مع نظيره الروسي. وتشعر بلدان أوروبا الشرقية بالقلق، وتخشى من أن تكون الولايات المتحدة تستعد لـ”استيعاب” المخاوف الأمنية الواضحة للكرملين، وبالتالي مكافأة موسكو من أجل حل مشكلة خلقتها روسيا.
ويُعَد اختيار بوتين لهذا التوقيت من أجل التصعيد أمراً غامضاً، تقول إحدى النظريات إنَّه يدرك أنَّ أوكرانيا تبتعد بشدة عن فلك موسكو، قال نوفيتسكي: “روسيا عالقة في الماضي السوفييتي، وأوكرانيا تُحلِّق في اتجاه آخر، نحو الغرب وأوروبا، نحن بلد مستقل، روسيا وأوكرانيا ليستا شعباً واحداً”.
وفي وقتٍ سابق من هذا الأسبوع، قام وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، بجولة على الجبهة التي يتمركز بها نوفيتسكي، في منطقة صناعية بمدينة أفديفكا. وتقع دونيتسك على بُعد مسافة قصيرة جهة الجنوب، وهي خاضعة لسيطرة المتمردين منذ 2014.
يتنبأ ريزنيكوف بوقوع مذبحة دموية إذا ما أقدمت موسكو على الهجوم، وبأن يتكبَّد الجانبان عدداً هائلاً من الضحايا، لا يعلم أحدٌ في الوقت الراهن ما إن كانت دبابات بوتين ستتقدم إلى هنا.
قد يبدو الصراع الحالي قديماً بطبيعته، لكنَّها حرب تنتمي كثيراً إلى القرن الحادي والعشرين، يقول الملازم ألكسندر تيموشوك وهو يقف في ممر خندقي مُثبَّت بشبكات ومُعزَّز بألواح معدنية: “نمتلك أسلحة أفضل مما كان في الماضي”.
وأشار تيموشوك إلى أنَّ جهود الاستطلاع في الحرب العالمية الأولى كانت تتضمَّن إرسال مجموعات من الرجال، لكن الآن بإمكان كاميرات المراقبة رصد أي حركة أو توغل، واستخدمت أوكرانيا مؤخراً، وللمرة الأولى، طائرة بدون طيار تركية الصنع لتفجير مدفع هاوتزر روسي الصنع.
وللمفارقة، يقول أولئك الذين يخدمون في الجبهة الأوكرانية إنَّهم ليسوا قلقين من التهديد بالغزو، فهم يقولون إنَّ جيش كييف أقوى وأكثر خبرة وأفضل تسليحاً مما كان قبل ثماني سنوات، حين انهار تحت القوة النارية الروسية المتفوقة.
ووفقاً لفيتالي باراباش، عمدة أفديفكا، ستجد روسيا قريباً نفسها متورطة في حرب مقاومة شعبية إذا ما انتزعت المزيد من الأراضي، وقدَّر أنَّ نحو 300 ألف من قدامى المحاربين سيحملون السلاح، على عكس 2014، حين كان بعض المتطوعين الوطنيين الذين حاربوا وقُتِلوا عاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات قادمين من كييف.
الصراع مستمر منذ 7 سنوات
وقال إنَّ الكثير جداً من الدماء قد أُريقَت بالفعل على الجبهة وفي ساحة “ميدان”، الساحة المركزية في كييف التي أطاح منها المحتجون المناهضون للحكومة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، في 2014. وأضاف: “لا أحد يريد أن يكون عبداً لدى بوتين”.
وفيما يستعد بايدن لإجراء مزيد من المباحثات مع موسكو، بما في ذلك حول الناتو، يستمر سقوط الموتى. فمنذ سبتمبر/أيلول الماضي، قُتِلَ 16 من أفراد القوات الأوكرانية. ويُقتَل الغالبية على يد القناصة أو من جراء العبوات الناسفة، ويُصاب آخرون.
قال الملازم إيفان سكوراتوفسكي، مستعرضاً مسكنه في الطابق السفلي: “من الصعب تقبُّل الضحايا”. ويوجد في القاعدة مكتبة صغيرة وصالة طعام، وأعمدتها الخشبية مُزيَّنة برسومات أرسلها أطفال المدارس الأوكرانيون.
وتُعَد الكلفة المدنية لهذا الصراع غير المحسوم مع روسيا هائلة، فالقرى الواقعة مباشرةً ضمن نطاق النيران المعادية في الغالب مهجورة، ولو أنَّ بعض السكان المسنين يرفضون المغادرة، يمر خط الجبهة عبر شارع تيميريازيف، الذي سُمِّي تيمُناً باسم عالم نباتات روسي.
تغيَّرت شخصية مدينة أفديفكا منذ بدء الحرب، فوفقاً لماريا ليبيلوفا، وهي معلمة سابقة، يُعَد الجيل الأصغر أكثر انتماءً لأوكرانيا، كانت منطقة دونباس في السابق ناطقة باللغة الروسية غالباً، لكنَّها قالت إنَّ تحولاً حدث نحو اللغة الأوكرانية في المدارس والمتاجر، يتعلم الأطفال اللغة الأوكرانية في الصف من عمر 6 أو 7 سنوات.
وقالت ليبيلوفا إنَّها اضطرت لمغادرة البلدة في شتاء عام 2014، حين جعل القصف الحياة هناك مستحيلة. وأضافت: “لم تكن هناك كهرباء، واستُهدِفَت منازلنا، وكانت ابنتي ذات العشر سنوات خائفة للغاية، لقد غادر الجميع تقريباً”. اندلع القتال مجدداً في 2017، وقد عاد كثير من السكان بعد ذلك وأُعِيدَ بناء شقق وضخ استثمارات جديدة.
وكما هو الحال مع الكثيرين في البلدة، كان لديها أقارب يعيشون في دونيتسك، وهي منطقة موالية لروسيا تُعرَف باسم “جمهورية دونيتسك الشعبية”. ولم يعد بمقدورها زيارتهم، لكنَّها تحادثهم عبر الهاتف. وأضافت: “نتجنَّب السياسة ونتحدث عن أطفالنا، يمكن للناس الاعتياد على أي شيء”.
في السابق، كان سكان أفديفكا يذهبون إلى دونيتسك لارتياد المطاعم أو دور السينما، أو لدعم فريق كرة القديم الشهير بالمدينة، شاختار دونيتسك، الذي كان يلعب في استاد “دونباس أرينا”. يقع أقرب فرع لسلسلة “ماكدونالدز” الآن على بُعد 190 ميلاً (306 كم تقريباً) في مدينة خاركيف.
وقالت: “إنَّها مدينة شبابي”، وأضافت أنَّ محاولة موسكو المطالبة بالمنطقة لنفسها دفعت الناس نحو تبنّي هوية أوكرانية.
بالعودة إلى جبهة المطار، كانت هناك المزيد من نيران القناصة. وقال قائد الكتيبة المحلية، الرائد سيرغي كوزاتشوك، إنَّ رجاله جاهزون لأي شيء قد يقذفه الجانب الروسي عليهم. وقال إنَّ الانفصاليين يعززون مواقعهم باستمرار، ولم تكن هناك زيادة ملحوظة في نشاطهم هذا الأسبوع.
وقال كوزاتشوك إنَّ جنوده التزموا باتفاق مينسك لوقف إطلاق النار، الذي وقَّعته كييف عام 2015 تحت ضغط قوي من روسيا. ويمنع الاتفاق استخدام الأسلحة الثقيلة، وقد دفعت التوترات الأخيرة المعاهدة نحو حافة الانهيار، وقال إنَّ الجانب الأوكراني لم يردّ بإطلاق النيران رغم “الاستفزازات” المتكررة.