د. فاروق ثابت
الطلقة التي توجهها من سلاحك تجاه كائن اصبته، لا تجعل منك بطلا في كل الأحوال، لأنها قد تثبت بأنك جبان إذا لم تؤكد أنك مجرم.
أما عندما تطلق الرصاصة باتجاه تاريخك فأنت وجهت البندقية صوب رأسك وقتلت نفسك مرتين: الأولى أنت والثانية تاريخك وهويتك.
عُرف جنوب الجزيرة العربية منذ ما قبل الميلاد ب”خزجة” من البحيرات والانهار، اكدت ذلك الصور الفضائية والكشوف الاثارية التي اثبتت وجود اثار لانهار عظيمة وبحيرات، وغابات، قامت على اثرها حضارات وممالك يمنية عظيمة ضجت بها الدنيا وذكرتها الكتب السماوية وتبادل اخبارها سائر البشر في شتى المعمورة.
منذ الالف الخامس قبل الميلاد كحد ادنى بدأ ظهور الدول اليمنية القديمة ومع بداية ظهورها رمزت لنفسها ب”الوعل”.
ونظرا لكثرة انتشار هذا الرمز في المعابد، والاضرحة، والشواهد الاثارية العملاقة، وعلى الجدران وفي الصخور بات كثير من الاثاريين يميز الحضارة اليمنية ويدحض وبشكل نهائي ان ما رآه هو من الاثار اليمنية بمجرد رؤيته “وعلا” منقوشا فيها.
اعتبر السبئيون الوعل حيوانا مقدسا وقدموه قربانا للاله “عثتر” منذ أول وجود للدولة في الارض.
فضلاً عن اتخاذ اليمنيين القدماء من فحل الوعل -قائداً للقطيع- ورمزاً يجسد الإله عثتر إله المطر والخصب والإخصاب، وكان عثتر إلهاً عاماً لجميع اليمنيين وليس له خصوصية، ولهذا كان له معابد في جميع أنحاء البلاد، وكانوا يتقربون إليه في هذه المعابد بأصنام كثيرة على شكل الوعل، كما تعتبر اللوحات المنحوتة بزخارف أشكال الوعل من ابرز ما عثر عليها في المعابد من عناصر زخرفية، وخير مثال على ذلك معبد برآن.
إلى ذلك فقد عني اليمنيون القدماء بنحت ونقش شكل الوعل كحيوان له مكانة رمزية مقدسة في معابد الآلهة اليمنية القديمة (الشمس، القمر، الزهرة) بمسمياتها المعروفة (ذات حميم، المقه، عثتر) إلى جانب تكريسها في مضامين نقوش المسند كنذور، وقد جاءت أنواع من المنحوتات والنقوش كدليل مادي على أهميتها ومكانتها من بين أهم الرموز الدينية إلى جانب الثور أيضا، وأكثر ما يبرز اعمال النحت للوعل ما يعرف باسم (افاريز الوعول) وهو نمط معماري فني ديكوري استخدم لتزيين واجهات المعابد وجدرانها الداخلية إذ نرى ذلك في الجزء العلوي من سور معبد “المقه” في صرواح العاصمة القديمة لمملكة سبأ والواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة مأرب، ويمكن مشاهدة سور المعبد المستدير تزينه في الأعلى أفاريز من رؤوس الوعل خاصة في الواجهة الشرقية يذكر أن يدع الذريح بن سمه على مكرب سبأ في القرن الثامن الميلادي كان قد بنى المعبد للإله المقه.
كما كشفت اعمال التنقيب الأثاري -التي اجريت في معبد المقه برآن المعروف باسم (عرش بلقيس) بمأرب والتي قامت بها البعثة الأثارية الألمانية- عن العديد من القطع الحجرية من أفاريز الوعل التي كانت تزين جدرانه الداخلية. ولا تزال الكثير من هذه الانواع متواجدة في مواقع آثارية كثيرة وفي قاعات المتاحف اليمنية وفي الخارج الكثير من هذه الأفاريز.
الوعول المنحوتة أغلبها من حجر الجيري الأبيض (البلق) والرخام والمرمر ونادراً من الخشب. ومظهرها الجميل في صف رؤوسها المستطيلة الوجوه والملتوية القرون متجاورة تبرز أشكالها من كتلة الحجر المنحوتة منه.
إلى جانب ذلك اهتم اليمنيون القدماء في نحت أشكال الوعول كمقدمة لمنحوتات الأعمال الهندسية المحورة والمنحوتة من الحجر أو المصنوعة من المعدن، كما جاءت مرافقة للمسارج البرونزية التي تشبه في شكلها القارب اذ نراها معتلية المسرجة، مرتكزة بقوائمها الخلفية أو الجزء السفلي من بدنها على مؤخرة المسرجة وتظهر متوثبة في حالة حركة بقوائمها الأمامية.
وتأتي أشكال حيوان الوعل بأوضاع جلوس القرفصاء في مربعات تشكل أفاريز جانبية للوحات من الحجر الجيري والرخام مزينة لكتابات نذرية بخط المسند ويمكن مشاهدة ذلك على لوحات كبيرة الحجم موضوعة في المتحف الوطني بصنعاء جاءت من مواقع أثرية بمحافظة الجوف والتي لا تزال فيها أعمدة معمارية لمعبد “عثتر” والمسمى (معبدينات عاد) المزينة بأشكال نسائية وثعابين ووعول وحراب، على هيئة صفات زخرفية تعتبر فريدة من نوعها في طرازها.
ووجدت رسوم الوعل على اسطح الصخور القريبة من الماء في أنحاء كثيرة من اليمن تعود إلى العصر الحجري أي منذ أكثر من سبعة آلاف عام وتوالت رسومها كذلك في فترات التاريخ اليمني القديم.
ورغم الأهمية البالغة لهذا الحيوان والمرتبطة بهوية وتاريخ اليمن القديم، كرمز قومي للحضارات اليمنية إلا أن ثمة استهدافا صادما لهذا الحيوان ازاء التوجه لتصفيته باسم “الصيد” الامر الذي يعد استهدافا للهوية اليمنية، ثم انتهاكا لحقوق الحيوان في آن.
لقد بات من النادر مشاهدة الوعل في الحياة البرية في اليمن، بسبب تناقص أعداده بشكل مخيف، نتيجة عمليات الصيد والقتل التي يقوم بها الصيادون المحليون في مناطق عدة في اليمن. لذلك أصبح الإنسان هو المفترس الوحيد للوعل والذي يهدد حياته ووجوده بالانقراض، وبشكل نهائي.
والأكثر صدمة من هذا أن التعدي على هذا الحيوان -الذي يعد من أحد فصائل الغزلان النادرة في العالم- من قبل أجانب تسللوا من خارج الحدود اليمنية وليس الامر مقتصرا على المحليين فحسب، فيما اشارت جريدة “الحياة اللندنية” تورط عناصر من وحدات الجيش اليمني في صيد الوعل.
إلى ذلك تشير تقارير حكومية يمنية، أن صيد الوعل في حضرموت يتم من خلال سَوق “قطيعه” إلى داخل “حاجز” حيث يتم قتله باستخدام الخناجر وإطلاق الرصاص.
وفيما تم عمل محميات خاصة للوعل في دول عربية عدة ك”الاردن وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية”، يتم البطش بهذا الحيوان والعبث وقتله ومطاردته بصورة اجرامية كما لم يحصل له من قبل في التاريخ.
ذكرت النقوش الاثارية السبئية عن صيد المئات من الوعول وتقديمهم قرابين للإله عثتر، غير ان المفارقة العجيبة أن اليمن حينها كانت تكتظ بالغزلان والوعول والبقر الوحشية لأسباب مرتبطة بخصوبة الارض والخضرة ووفرة المياه والامطار وانتشار الغابات ذات المرتفعات الصخرية العالية.
أما وقتنا الحالي فقد تحولت المنطقة التي تتواجد فيها الوعول إلى صحراء مجدبة، كشبوة وحضرموت وبالتالي يندر وجود هذه الحيوانات وإن وجدت فإن ارواحها تزهق عبثاً.
ففي فصل الشتاء من كل عام بين شهر ديسمبر/كانون الأول، وشهر يناير/كانون الثاني، يكون عادة موسم صيد الوعل في محافظة حضرموت جنوب اليمن. إذ يُعدّ تقليداً محلياً متوارثاً منذ العصر السبئي 1000- 300 قبل الميلاد. وما زالت تقام له طقوس سنوية تختتم عادة باحتفالات جماعية يشارك فيها أبناء المنطقة وتتخللها الأهازيج والرقصات التي ترفع فيها رؤوس الوعول، رغم ندرة هذه الحيوانات وجدب المنطقة.
في العام 2007، أجرى فريق يمني مسحاً على منطقة الوعول في حضرموت، وأعلن أن: “أعداد الوعول في المنطقة آخذة في التناقص بوضوح، ويمكن أن تنقرض كلها إذا لم يتم اتخاذ الإجراءات المناسبة”. وأوضح الفريق أنه على الرغم من توافر البيئة الحياتية للوعول في اليمن بشكل واسع بما يمكنهّا من النمو والتكاثر، إلا أن ارتفاع صيدها وخصوصاً الإناث منها وصغار السن يمكن أن يؤدي إلى انقراضها.
وأوصى الفريق بحظر صيد الوعول في منطقة المسح لمدة خمس سنوات وتجديده خمس سنوات أخرى، إذا استدعت الضرورة، إضافة إلى إجراء تعداد للوعول والتحقيق حول قيام جنود في مناطق التنقيب عن النفط والغاز بصيد الوعول. وأشار الفريق إلى قدوم صيادين من خارج الحدود لصيد الحيوان. مع الاشارة إلى أن ثمة ثقافة في صيد الوعل في حضرموت تعتقد ان في ذلك تدريب للشباب على العيش في الصحاري.
ورغم المناشدات المجتمعية بوقف هذا العبث والصيد الجائر ونعت ما يحصل بالاجرام ضد أحد رموز الحضارة اليمنية القديمة، وكذا انتهاك لحقوق الحيوان إلا أن عمليات القتل الجماعي والتصفيات العبثية للوعل ما تزال مستمرة وفي تفاقم في المناطق التي يتواجد بها هذا الحيوان.
مؤخرا شوهد صيادون يلتقط بعضهم صوراً فوتوغرافية له “سلفي” وبجانبه من 3-5 وعول مقتولة للتو ومضرجة بدمائها، الأمر الذي يؤكد مدى الاجرام والعبث الذي تناله هذه الحيوانات من مسلحين في مناطق تواجدها، وهو الامر الذي يؤكد ايضا ان المسألة لم تعد مجرد صيد لسد الحاجة من الطعام مثلما قد يعتقد البعض ولكن استعراض للقوة ومباهاة بالبطولة، ويا للعار أن يتم التباهي ضد كائن ضعيف، لطيف ومسالم يعيش في القمم والمرتفعات وسفوح الجبال. وليس من سلالة الحيوانات المفترسة ولا يشكل اي خطر للانسان بقدر ما وضع الإنسان نفسه مفترسا ووحشا كاسراً ضد هذا الكائن اللطيف.
المصدر : نيوزيمن