كتب : حسين الوادعي
الثورة أنشودة رومانسية في المخيلة العربية.
إنها ذلك المقدس الإيجابي الذي لا يُنقد.
وليس هناك ما هو أسعد على قلب عرب كثر من الحصول على لقب “ثائر”.
لكن ليس الثوري تقدمياً في كل الأحوال.
وفي الواقع العربي والإسلامي، كان الثوري أحياناً أسوأ من السلطة التي يثور عليها وأشد استبداداً ورجعية.
في وقت صعود “داعش”، نشرت “فورين بوليسي” مقالاً وصف “داعش” بأنها حركة ثورية!
فهل يمكن إنكار ثوريتها بمعايير الثورة التقليدية (إسقاط نظام الحكم وتأسيس نظام جديد)؟
وهل يمكن بحسب معايير الثورة المتداولة رفض الحديث عن “طالبان”، باعتبارها حركة تحرر وطني أي حركة ثورية في نهاية المطاف؟
وهل يمكن رفض ثورية الإسلام السياسي الإخواني؟
“داعش” و”طالبان” والإخوان والخمينية، نماذج للثورية على المستوى السياسي (إسقاط نظام الحكم) والرجعية على المستوى الاجتماعي والثقافي والقانوني والإنساني.
لاحظ المؤرخ والكاتب السوري جلال صادق العظم في نقده الذاتي بعد هزيمة 1967 أنه مهما كانت ثورية الثوري العربي ونظرته الجذرية لتغيير السلطة والنظام، فإن هذه الثورية القارحة ما تلبث أن تختفي ليحل محلها مزاج محافظ (إن لم يكن رجعياً بعض الأحيان) ما أن يخرج النقاش من مجال السياسة ويتناول أي قضية اجتماعية أو فكرية أو دينية.
أول ثوار في المرجعية العربية الإسلامية هم الخوارج.
كانوا ثوريين لا يشق لهم غبار في مجال السياسة لا يرضون بغير العدالة الكاملة والتنفيذ الكامل لمطالبهم والتطبيق العملي لرؤيتهم الطوباوية “حكم الله”.
وهم أول من قال: إن السلطة حق للجميع وليست محصورة في القرشيين فقط.
لكن على المستوى الاجتماعي والثقافي كانوا رجعيين ومتوحشين يؤمنون بالرأي الواحد والنهائي، ويتمسكون برؤية حرفية رجعية للنص الديني، ويرفضون النقاش أو المراجعة أو الحوار.
في العصر الحديث أبرز نموذج للثائر الرجعي هو الخمينية.
كانت الخمينية ثورة ضد الشاه، لكنها كانت ثورة ضد إيجابيات الشاه لا ضد سلبياته.
كانت ثورة إلى الخلف في كل شيء: حريات سياسية أقل، حريات اجتماعية معدومة، تدهور اقتصادي، ورجعية دينية تكتم الأنفاس.
كان سهلاً على الخمينية اختطاف شعارات الثورة وشعارات اليسار معاً.
فنموذج الثورية السياسية والرجعية الاجتماعية هو التطبيق الكامل للخمينية.
خطاب ثوري تجاه الغرب (المستضعفين، الشيطان الأكبر، الذات، التحرر) وخطابات وممارسات رجعية تجاه الداخل (الولي الفقيه، المرأة، الفن، القمع، إعدام المعارضين).
الثائر في السياسة فقط والرجعي في كل ما عداها ظاهرة قابلة للتعميم في تاريخنا العربي.
عندما اشتعلت المدن العربية بالثائرين ضد الأنظمة، ازدحمت الساحات العربية بكل أنواع “الثوار”.
الثائر الليبرالي المدني الذي يحلم بدولة مدنية، والإسلامي السني الذي يحلم بخلافة على منهاج النبوة، والإسلامي الشيعي الحالم بولاية تحت حكم الفقيه المعصوم، والمشدود لنموذج المستبد العادل والعسكري المعادي للامبريالية.
كانوا جميعاً ثواراً بلا شك إذا كانت الثورة تعني الإطاحة العنيفة بالنظام وإحلال نظام بديل، أما طبيعة النظام البديل فحدث ولا حرج.
كان من بين الثوار العرب من خرج ضد النظام احتجاجاً على مساوئه من الفساد إلى الاستبداد إلى التبعية.
وهناك من خرج ضد الأنظمة احتجاجاً على إيجابياتها القليلة فمن بين الثوار من كان يريد الإطاحة بالنظام بسبب الحقوق القليلة التي أعطاها للمرأة والمتنفسات المحدودة التي أعطاها للأقليات والانفتاح المحدود على الغرب والحضارة الحديثة.
في بلد عربي ما كانت الساحة الرئيسية للاعتصام في العاصمة تمت حماية الساحة من جميع الجهات وارتفعت الشعارات المطالبة بسقوط النظام واستمرت التظاهرات شهوراً لا ترضى بغير سقوط النظام.
لكن داخل الساحة ذاتها، بدأ المنظمون تكوين شرطة أخلاقية للفصل بين الرجال والنساء ومراقبة الخيام خوفاً من حدوث أي علاقات رومانسية أو جنسية.
خلال أسبوع كان الفصل الحاد قد تم بين الإناث والذكور، وتم الاعتداء على المحتجات اللواتي رفضن هذه الإجراءات، وكانت الاتهامات الأخلاقية للنساء الثائرات تخرج من داخل الساحة الثائرة نفسها في صيغ أشد تطرفاً من الاتهامات التي كانت تأتي من إعلام النظام.
بعد انفضاض الساحات ودخول البلد مرحلة الحوار الوطني، كانت الشعارات الثورية تزداد سخونة، لكن المطالب الثورية لم تعد ثورية تماماً.
فمن بين صفوف الثوار كانت هناك غالبية مؤثرة ترفض تقنين زواج الصغيرات أو النص على العلمانية في الدستور أو حتى الاعتراف الصريح بمدنية الدولة والتشريع.
كانوا كلهم ثواراً، ولكن معظمهم كانوا ثواراً في السياسة فقط وفي إسقاط نظام الحكم فقط ورجعيين في كل ما عداه.
حين تتحدث عن السياسة أو الأنظمة الحاكمة ستجد كل من حولك ثوريين متطرفين لا يرضون إلا بالتغيير الجذري والعنيف للنظام.
لكن اخرج بالنقاش إلى أي موضوع، اجتماعي أو ديني، سيتحول كل من حولك إلى دراويش يدافعون عن العادات والتقاليد والثوابت مهما كانت رجعية ومتعارضة مع مظهرهم الثوري.
هل يسعفنا التاريخ بنموذج آخر لرجعية الثائر؟
نعم!
لقد عرف تاريخنا نموذجاً للتحرير بأيديولوجيا رجعية بحسب تعبير الجابري.
لقد حكم الأمويون الناس باستخدام “ايديولوجيا الجبر” وهي خليط من القوة السياسية والتبرير الديني للحكم بالسيف والعصبية القبلية.
لكن عندما بدأت تتشكل المعارضة لهذا النوع من الاستبداد كانت أكثر دعوى جذبت الناس هي ايديولوجيا الإمامة وهي نظرية ثورية قائمة على خرافات دينية خطرة، مثل الوصاية والعصمة والعلم السري وأولوية الحكم في آل البيت.
وكان أئمة الفقه السني الأربعة رغم اختلافهم العقائدي مع بعض جوانب الفكر الشيعي مناصرين ومتحمسين لكل ثورات “آل البيت” ضد الحكم الأموي على رغم الأساس الرجعي/ الخرافي لهذه الثورات، لكن هل يمكن أن يتحرر الإنسان بايديولوجيا رجعية خرافية؟
إحدى إشكاليات مفهوم الثورة في الإطار العربي، تكمن في الخلط بين التغيير الثوري والطموح إلى السلطة بحيث صار كل طامح للسلطة يطرح نفسه ثائراً.
ومنذ الخمينية وما بعدها استولت أشد الحركات محافظة وتزمتاً وإيغالاً في الماضي على مفهوم الثورة.
البعض يرى أن ظاهرة “الثوري المحافظ” تعود إلى عام 1979 الذي دشن عصر الثورات المحافظات (ثورة النيوليبرالية الجديدة على يد تاتشر وريغان، وثورة الخمينية ضد الشاه، وتحركات البابا جان بول الثاني لتحريض الناس للانتفاض ضد الشيوعية في أوروبا الشرقية)، لكن يبدو أن تراث الثورات المحافظة له جذور أبعد في منطقتنا.
ولعل هذا سبب أن كل ثوراتنا سياسية وتتعلق بالسياسة، بينما لا نشهد ثورات اجتماعية أو فكرية أو جنسية أو دينية لأننا خارج السياسة محافظون أبعد الحدود.
نقلا عن موقع “درج”