كتب : هيثم الجرو كاتب فلسطيني
لم يكن فتح الشمال الإفريقي ككل المعارك الفاصلة في بداية التاريخ الإسلامي كالقادسية أو اليرموك أو حتى معركة نهاوند في (إيران)؛ حيث ينتصر الفاتحون العرب الأوائل وتدين البلاد المفتوحة لهم، بل كانت حرب استنزاف شرسة وملحمية بذل فيها أطراف الصراع سواء كانوا عرباً أو أمازيغ تضحيات أسطورية سطرها التاريخ على مدى سبعين عاماً، بدءاً بـ(كسيلة) زعيم قبائل أوْرَبَة الأمازيغية الذي كمن للقائد عقبة بن نافع كميناً بقوة عسكرية قدرت بـ50 ألف مقاتل من الأمازيغ والبيزنطيين، فهزمه بعد أن بلغ عقبة بن نافع سواحل المحيط الأطلسي، فضاعت أربعون عاماً قضاها الفاتحون العرب الأوائل في فتح الشمال الإفريقي.
إلا أن الكفة سرعان ما رجحت للفاتحين العرب الأوائل بتمكن القائد زهير بن قيس البلوي عام 688م في معركة ممس من قتل كسيلة، ورغم هذا الانتصار فإن الفاتحين العرب الأوائل هُزموا مرة أخرى على يد (الكاهنة ديهيا) التي رفعت لواء طردهم من الشمال الإفريقي فارتدوا نحو مدينة برقة في ليبيا، ولكن سرعان ما وصلت الإمدادات العسكرية من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان للقائد حسان بن النعمان، وحينها تمكَّن من هزيمة الكاهنة ديهيا وقتلها في عام 701م ومن ثم فتح قرطاجنة فدمرها حتى لا تكون نقطة ارتكاز للأمازيغ أو البيزنطيين، وقام ببناء مدينة تونس الحالية بجانبها.
أواخر عهد عبد الملك بن مروان تحديداً في عام 705م عزل حسان بن النعمان وعين بدلاً عنه موسى بن نصير، الذي تمكن في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك من إخماد جميع ثورات الأمازيغ، وتمكن في فترة قصيرة من فتح الشمال الإفريقي من أقصاه إلى أقصاه حتى وصل سواحل المحيط الأطلسي بمعاونة الآلاف من مقاتلي الأمازيغ الذين دخلوا في الإسلام، ففتح مدينة طنجة عام 709م آخر معاقل البيزنطيين في المغرب، وبذلك دان الشمال الإفريقي بالولاء للفاتحين العرب الأوائل.
لم يكتفِ الأمازيغ الذين دخلوا الإسلام حينها بإعلان الولاء للفاتحين العرب الأوائل بل شاركوا في فتح الأندلس عام 92هـ/ 711م عندما عبر طارق بن زياد بقوة عسكرية قُدّرت بـ7 آلاف مقاتل إلى الأندلس، والتقى بملك القوط لذريق (رودريك) وهزمه شر هزيمة في 28 رمضان 92 هـ/17 يوليو 711 م قرب شذونة عند وادي لكة، ثم أكمل موسى بن نصير وطارق بن زياد فتح الأندلس، فتم افتتاح مدن شذونة وقرمونة وباجة وماردة، ثم تم فتح إشبيلية ثم سارا معاً إلى طليطلة، ثم فتحت سرقسطة ومدنها في شمال الأندلس، وبهذه الفتوحات دان الشمال الإفريقي والأندلس للفاتحين العرب الأوائل.
في عام 723م حينما تولى مقاليد الحكم في الدولة الأموية الخليفة الأموي العاشر وآخر خلفاء دولة بني أمية الأقوياء هشام بن عبد الملك، كانت الدولة الأموية قد بلغت في عهده أقصى اتساع لها، من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، وضمت عدداً من الأقاليم والمقاطعات، ومنها جزيرة العرب، اليمن، العراق، الشام، مصر، بلاد فارس (إيران)، بلاد ما وراء النهر (أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان)، أفغانستان، السند (الأجزاء الشمالية من باكستان)، المغرب الأدنى (تونس)، المغرب الأوسط (الجزائر)، المغرب الأقصى (المغرب)، الأندلس (إسبانيا والبرتغال)، بحر قزوين (أرمينيا، أذربيجان، جورجيا).
إلا أنه في أواخر خلافة هشام بن عبد الملك شهدت دولته عدداً من الانكسارات، ومنها: الثورة الأمازيغية الكبرى التي وقعت ما بين عامي (740-743م) والتي شكلت اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة الأموية على الحفاظ على إمبراطورتيها ومكتسباتها التي حققتها خلال سبعين عاماً من الجهاد.
الإرهاصات الأولى للثورة
بدأت الإرهاصات الأولى لثورة الأمازيغ الكبرى تتبلور وتتشكل عندما لجأت فلول الخوارج المنهزمة كالإباضية بقيادة الداعية سلمة بن سعيد وصفارية بقيادة عكرمة بن عبد الله إلى الشمال الإفريقي، بعد فشل ثوراتهم في المشرق الإسلامي وملاحقة خلفاء الدولة الأموية لهم وقمع ووأد أي تمرد لهم، فوجد الخوارج بالشمال الإفريقي البيئة الخصبة والجبهة الجيدة التي يمكن من خلالها مقارعة الدولة الأموية، وجعلوا من المغرب الأقصى (المغرب) مركزاً لدعوتهم ولنشر أفكارهم بين القبائل الأمازيغية المنتشرة في إقليمي طنجة والسوس، بعيداً عن مركز الخلافة في دمشق، وكذلك بعيداً عن القيروان في المغرب الأدنى التي يقيم بها الوالي الأموي.
وهكذا بدأ دعاة الخوارج يروِّجون لأفكارهم في وسط المجتمع الأمازيغي بين قبائل (مطغرة) و(برغواطة) و(مكناسة)، وقالوا: إنّ الإمامة (الخلافة) حقّ مطلق لكل مسلم (صالح)، بغض النظر عن جنسه، وليست حكراً على قريش، وبمواكبة ذلك عمل الخوارج على إثارة نقمة الأمازيغ على الخلفاء الأمويين وولاتهم في المغرب، بل على العرب عامّة، مستغلّين بعض الممارسات السلبية التي تصدر عن بعض الولاة، وقد صادفت دعايات الخوارج هوى في نفوس بعض القادة الأمازيغ الطامحين والمغامرين، وعلى رأسهم رجل يدعى (ميسرة المطغري).
في المقابل لم يكن الوضع السياسي في الشمال الإفريقي مُرضياً للقبائل الأمازيغية التي هي بطبيعتها ثائرة واعتادت على عدم الخضوع أو الرضوخ إلى أي سلطة مركزية، خاصة القبائل الأمازيغية البترية، فضلاً على ذلك فإن الدولة الأموية أو ولاتها لم تستخدم سياسة تقوم على استمالة القبائل الأمازيغية لضمان ولائها، بل استخدموا بدلاً من ذلك سياسة الترهيب ضدها من خلال إرهاقها بالضرائب، والتعامل مع الأمازيغ كمواطنين من الدرجة الثانية، إذ كان العرب هم أصحاب الحظوة في المناصب العليا عكس الأمازيغ الذين شعروا بالتهميش.
وأمام هذا الواقع المرير وزيادة ظلم عبيد الله بن الحبحاب والي ولاية إفريقيا عام (734 – 741م)، تذمر وضاق الأمازيغ ذرعاً من السياسة التعسفية لهذا الوالي، فأرسلوا وفداً إلى العاصمة الأموية دمشق بقيادة (ميسرة المطغري) لمقابلة الخليفة هشام بن عبد الملك وإطلاعه على حقيقة الأمور في الشمال الإفريقي إلا أن الخليفة لم يقابلهم، إذ منعهم كاتبه وحاجبه (الأبرش) من الدخول على الخليفة.
وبذلك تولدت لدى الأمازيغ قناعة أن ما يقوم به الولاة في المغرب هو بمباركة وعلم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، ومن الجدير بالذكر أن القبائل المغربية الأمازيغية وعلى رأسها زناتة كانت قد تأثرت بفكر الخوارج المناهض للدولة الأموية، ومما زاد من تقبل هذه القبائل للفكر الخارجي هو انسجام هذا الفكر مع النزعة الاستقلالية للأمازيغ.
معركة الأشراف
في الوقت الذي بعث فيه عبيد الله بن الحبحاب والي ولاية إفريقيا حملة بحرية لفتح جزيرة صقلية بقيادة حبيب بن أبي عبيدة الفهري عام 740م، أعلن الأمازيغ ثورتهم في المغرب الأقصى تحت قيادة الزعيم الأمازيغي ميسرة المطغري، فاستولى الأمازيغ على طنجة وقتلوا عاملها عمر بن عبد الله المُرَادِي ثم زحفوا إلى بلاد السوس فاستولوا عليها وقتلوا عاملها إسماعيل بن عبيد الله، وبذلك أصبح المغرب الأقصى خارج سيطرة الدولة الأموية.
هنا وجد عبيد الله بن الحبحاب نفسه في موقف لا يحسد عليه؛ إذ إن غالبية قواته وراء البحر، لذلك أمر عبيد الله بن الحبحاب قائده حبيب بن أبي عبيدة الفهري بالعودة على عجل إلى المغرب، وأعد عبيد الله بن الحبحاب على وجه السرعة حملة عسكرية من الفرسان فيها عدد كبير من أشراف العرب تحت قيادة خالد بن أبي حبيب الفهري الذي زحف على رأس جيشه نحو مدينة طنجة.
وفي الوقت نفسه تعرض ميسرة المطغري للقتل على يد جنده لاستبداده بالأمر دونهم، وحل محله خالد بن حميد الزناتي، والتقى الجيش الأموي بقيادة خالد بن أبي حبيب الفهري مع الجيش الأمازيغي بقيادة خالد بن حميد الزناتي قرب مدينة طنجة عام 740م، فوقعت معركة الأشراف التي تمكن بها الجيش الأمازيغي من إبادة الجيش الأموي وهزيمة جيش الخلافة الأموية هزيمة لم يسمع بمثلها من قبل، قُتل فيها الآلاف من أشراف العرب وفرسانهم، ولذلك سميت بموقعة الأشراف، عندما بلغت أنباء الهزيمة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بدمشق، هتف وهو في قمة غضبه: “والله لأغضبن لهم غضبة عرب”.
معركة بقدورة عام 123ه-741م
بعد نكبة معركة الأشراف أعد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك حملة عسكرية كبيرة على وجه السرعة بقيادة كلثوم بن عياض القشيري، وأصدر أوامره لوالي مصر حنظلة الكلبي أن يرسل عند مرور حملة كلثوم بن عياض القشيري بمصر كل من استطاع من المصريين حمل السلاح.
وبالفعل عاد كلثوم بن عياض القشيري إلى دمشق على رأس قوة عسكرية ضخمة.
وعند مروره بمصر وطرابلس (ليبيا) انضم لحملته عدد كبير من المقاتلين، فاجتمع لدى كلثوم بن عياض القشيري جيش عظيم قدر بـ70 ألف مقاتل، ثم تقدم حتى وصل القيروان عاصمة ولاية إفريقيا عام 741م ثم تحرّك نحو طنجة، إلا أن الجيش الأمازيغي تمكن من تطويق القوات الأموية وهزيمتهم هزيمة ساحقة للمرة الثانية، قتل على إثرها كلثوم بن عياض القشيري وحبيب بن أبي عبيدة الفهري، بينما استطاع بلج بن بشر أحد قادة الحملة الأموية أن يخترق صفوف الأمازيغ بـ9 آلاف مقاتل هم الذين نجوا من المجزرة والفرار نحو مدينة سبتة التي تحصنوا بها، إلى أن تمكن والي الأندلس عبد الملك بن قطن من إجلائهم نحو الأندلس.
موقعة الأصنام عام 124هـ -125/742-743م
بعد هذه الانتصارات المدوية التي حققها الأمازيغ على قوات الدولة الأموية، أوشك الشمال الإفريقي على أن يخرج نهائياً عن حكم الدولة الأموية، وقطع الطريق إلى الأندلس، وصار الأندلس في عزلة تامة، وأمام هذا الواقع المرير قرر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك إيقاف الغارات الصيفية والشتوية على حدود الإمبراطورية البيزنطية (الأناضول)، وأعد قوة عسكرية ثانية بـ30 ألف مقاتل من خيرة جيش الشام الذي كان يعتبر وقتها الجيش النظامي المحترف للدولة الأموية، وكان بمثابة العمود الفقري للدولة الأموية طوال عهدها الذي يبطش به أعداؤها.
وراسل والي مصر حنظلة بن صفوان الكلبي يأمره أن يتحرك بجيش مصر وجيش الخلافة إلى القيروان لحمايتها من السقوط في يد الجيوش الأمازيغية، وبالفعل تحرك حنظلة بن صفوان الكلبي فوصل إلى القيروان في 741م، وفي غضون ذلك كانت القوات الأمازيغية تصارع الوقت للوصول للقيروان، إذ كانت جيوش الأمازيغ تتكون من جيشين عظيمين؛ أحد هذين الجيشين بقيادة عكاشة بن أيوب الفزاري (أحد الفرسان العرب المنشقين عن جيش عبيد الله بن الحبحاب)، والآخر بقيادة عبد الواحد بن يزيد الهواري الذي سلك طرقاً جبلية وعرة فتأخر عن الوصول إلى القيروان، هنا قرر حنظلة بن صفوان الكلبي الخروج للقاء جيش عكاشة بن أيوب الفزاري الذي كان يتعجل للوصول إلى القيروان، فالتقى حنظلة به عند مكان يدعى القرن جنوب القيروان، وتمكَّن من هزيمته هزيمة ساحقة.
في المقابل أقبل جيش عبد الواحد بن يزيد الهواري فالتقى الطرفان في معركة الأصنام بالقرب من مدينة شلف في الجزائر، وتعتبر معركة الأصنام من أكثر المعارك المصيرية في تاريخ الدولة الأموية قاطبة، فقد شكل الصمود الأسطوري لقوات الخلافة الأموية بقيادة حنظلة في قلب المعركة عاملاً مهماً في قلب الهزيمة لنصر مدوٍّ، فهزم جيش عبد الواحد الهواري شر هزيمة، وتراجعت القوات الأمازيغية للخلف بعد مقتل قائدها عبد الواحد الهواري.
ورغم انتصار الأمويين في موقعة الأصنام فإن الخلفاء الأمويين الذين جاءوا بعد هشام بن عبد الملك دخلوا في حالة اقتتال وصراع على الخلافة، فلم يستثمر هذا النصر لفرض السيطرة على كامل الشمال الإفريقي، وعندما استتب أمر الخلافة الأموية لمروان بن محمد عام 744م تفجر في وجهه عدد لا حصر له من الثورات في بلاد الشام والعراق وخراسان واليمن، هذه التطورات مكَّنت الثوار الأمازيغ من الحفاظ على بعض مكتسباتهم، فأسسوا عدداً من الإمارات والممالك، ومنها: (بورغواطة) التي أسسها القائد الأمازيغي طريف بن مالك عام 744 م ودامت أربعة قرون من الزمن و(مملكة تلمسان) أسسها أبو قرة اليفريني عام 742م، وإمارة مكناسة (أوربة) في وليلي وسط المغرب و(مملكة مدرادة) في شرق المغرب، إلا أن هذه الممالك لم تكن ذات تأثير يذكر، إذ سرعان ما ظهر عدد من الدول في الشمال الإفريقي غطت على هذه الممالك مع بزوغ نجم الدولة العباسية عام 750م وقادت الصراع مع حاضرة الخلافة في المشرق كالدولة الرستمية في المغرب الأوسط (الجزائر)، والدولة الإدريسية في المغرب الأقصى (المغرب).
استعنت في مقالي بمصادر تاريخية عدة ضمنها 1. ثورة البربر في الأندلس في عهد الإمارة الأموية (756-928م)، للباحث؛ محمد عبد المنعم محمد حسين، 2. ثورات البربر في إفريقيا والأندلس (721-753م)، للباحث؛ الدكتور حسين مؤنس. 3. اعتناق البربر للإسلام، رسالة ماجستير، للطالبة شنعة خديجة، جامعة وهران-الجزائر. 4. الخوارج.. نشأتهم وانتقالهم إلى بلاد المغرب الإسلامي، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، للباحث؛ عبد الغني حرز.
نقلا” عن عربي بوست