كتب : ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
لا ينفع دفن الرؤوس بالرمال، ولا جدوى من عدم الاعتراف بأن هناك رغبة حقيقية وعميقة وراسخة للتغيير السياسي في المجتمع اللبناني، لا سيما ضمن الطائفة السنية.
فللقيادة السنية الحالية، المتمثلة في سعد الحريري وتيار المستقبل، تاريخ حافل من الفشل الذي راكمته منذ 2005، أي منذ استشهاد الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري.
ويتمثل هذا الفشل السياسي الكبير والمدقع بسلسلة من القرارات الخاطئة والمتهورة، ومن التنازلات المجانية، لا سيما لصالح حزب اللّه وحلفائه، والتي توجت بالصفقة السياسية العبثية والكارثية التي أتت بمرشح حزب اللّه -العماد ميشال عون- رئيساً للجمهورية، ومهدت للنكبة الاقتصادية والمالية والنقدية التي وقع فيها لبنان منذ خريف 2019، بالإضافة إلى قانون انتخابات مسخ شوّه صحة التمثيل وتلاعب بالأحجام السياسية.
لا يمكن إنكار الشعبية المعتبرة التي لا يزال يتمتع بها سعد الحريري وتياره ضمن الطائفة السنية، والتي كانت آخر تجلياتها المظاهرات التي أمت محيط بيت الوسط
ملاحظات حول قرار الحريري
ويضاف هذا الفشل السياسي إلى شبهات بالفساد تحوم حول صفقات قامت بها حكومات كانت برئاسة سعد الحريري، وبمشاركة وزراء من تياره.
ولكن، على ضوء ما تقدّم، لا بد من ملاحظات ثلاث لوضع رغبة التغيير تلك في إطارها الواقعي الصحيح:
1) فمن جهة أولى، لا يمكن إنكار الشعبية المعتبرة التي لا يزال يتمتع بها سعد الحريري وتياره ضمن الطائفة السنية، والتي كانت آخر تجلياتها المظاهرات التي أمت محيط بيت الوسط ـ مقر إقامة الحريري في وسط بيروت ـ رفضاً لقرار الحريري المنتظر بعزوفه الشخصي، مع تياره، عن خوض الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في شهر أيار/مايو القادم.
ولهذه الشعبية أسباب كثيرة، تبدأ بالحنين إلى حقبة الازدهار النسبي أيام رفيق الحريري، ولا تنتهي بالخوف من المجهول بسبب عدم وجود بديل فعلي عن سعد الحريري وتيار المستقبل لملء الفراغ السياسي اللذين سوف يخلفانه في الطائفة السنية، في حال عزوفهما عن خوض الانتخابات.
شعبية الحريري وتياره حقيقية، ولا تنفع مواجهة هذه الشعبية بدفن الرؤوس بالرمال، لا سيما عبر محاولة تقزيمها وتسخيفها بعبارات مثل “مسرحيات” أو “شلل من المرتزقة”، أو عبر شيطنتها و”حيونتها” باستعمال عبارات من قبيل “المدفاعين عن الباطل” و”غنم الزعيم”، وما شاكلها من المفردات والشتائم.
فهذه النعوت الموجهة إلى جمهور المستقبل خاصة في هذه الحالة، وإلى جمهور الأحزاب اللبنانية التقليدية عامة، لا يمكن إلا أن ترتد سلباً على مطلقيها، لأنها تعري نزعة العجرفة، والانغلاق النخبوي، والازدراء الطبقي، والتعالي، والنزعة السلطوية الإلغائية المقنعة، التي تعاني منها كلها شرائح واسعة من الطبقة الوسطى اللبنانية، لا سيما تلك المنضوية في قوى ما يسمى المجتمع المدني، والمؤيدة لها.
ونزعة العجرفة السياسية هذه بالذات هي السبب الأساسي لعدم تمكن قوى المجتمع المدني من مراكمة أي شعبية حقيقية منذ 2015، أي منذ بدء أزمة النفايات في لبنان، لأنها غير قادرة على التواضع السياسي، والخروج من بوتقتها النخبوية، والانفتاح على باقي شرائح الشعب اللبناني، لا سيما على الشرائح الشعبية والفقيرة التي تنتخب عادة الأحزاب التقليدية.
ويضاف إلى ذلك النزعة الشخصية الانتقامية لدى كثيرين من قدامى الحريرية وتيار المستقبل، الذين تركوا التيار عن حق، اعتراضاً على تنازلاته وفشله المتراكم، ولكنهم منذ ذلك الوقت يتعاملون مع الأمور بالشخصي، أي في إطار تصفية الحسابات والثأر الشخصي والانتقام، رافعين شعار “نكاية بالطهارة بدي أعملها بثيابي” منذ سنوات، غير عابئين بانعكاسات هذه المحدودية الذهنية وعدم التبصر على الطائفة السنية ككل، لا سيما على المدى البعيد.
بكلام آخر، فهم ينتقدون الحريري والمستقبل عن حق، ولكن تصرفاتهم وافتقار نظرتهم إلى أي بعد، تجعلهم أسوأ من الحريري وتياره بأشواط. ولذلك لم يستطيعوا مراكمة أي شعبية تذكر منذ خروجهم أو إخراجهم من المستقبل، ولن يستطيعوا ذلك، لأن كراهيتهم الشخصية تعميهم عن الرؤية الواضحة، ولأن الناس ليسوا أغبياء ليسيروا وراء بعض الأشخاص (وهم عبء على المجتمع المدني) الذين تتمحور جل حركتهم السياسية حول غريزة الانتقام، والذين بدل أن يقدموا حلاً واقعياً للمشكلة، يستطيعون أن يقنعوا الناس به، لا يفعلون إلا إضافة التعقيدات عليها.
2) أما الملاحظة الأساسية الثانية، فهي أنه من غير المعقول أن يطلب من السنة وحدهم القيام بتغيير قياداتهم السياسية، في حين أنّ باقي الطوائف اللبنانية تلتف حول قياداتها، لا سيما في الأزمات. وهذا تحديداً ما جرى منذ بدء انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر2019، حين لم يستقل سوى الحريري وحده من الموقع الأول للسنة في الدولة، أي من رئاسة الحكومة، بينما استمر زعماء الطوائف الآخرون في مواقعهم حتى يومنا هذا. وقد نما شعور داخل الطائفة السنية أنه، بالمحصلة، لم تكن هذه الانتفاضة إلا بوجه ممثلي السنة في السلطة، وأن الطائفة السنية كانت الخاسر الأكبر والوحيد من جرائها، لا سيما أنّ الانتفاضة اكتفت وقتها باستقالة الحريري ولم تكمل فعلياً مسيرتها نحو باقي مراكز السلطة.
واليوم، تستمر النغمة ذاتها، فعزوف الحريري وحده من بين الزعامات الطائفية عن خوض الانتخابات، يعني عملياً أن التغيير لن يكون إلا ضمن الطائفة السنية. ويأتي هذا التغيير في فترة حرجة، في حين أن باقي الطوائف تحافظ على زعمائها ومراكز القوى فيها تحسباً للمرحلة القادمة التي من المرجح أن تشهد تغييرات كبرى في المشهد اللبناني، لا سيما في إعادة صياغة “صيغة” تقاسم السلطة بين الطوائف.
وفي البحث عن أسباب انهيار هذا التيار خاصة، والساحة السياسية السنية بشكل أعم، وحالة التخبط والضياع التي تغرق هذه الطائفة فيها اليوم، لا يكفي ذكر الفساد الذي يعاني منه تيار المستقبل. فهذا التيار لا ينخره الفساد أكثر من غيره، ولا أقل من غيره، من التيارات والأحزاب اللبنانية.
في البحث عن عوامل الانهيار السياسي تلك عند السنة تحديداً، لا بد من ذكر عامل اجتماعي أساسي، ألا وهو ضعف العصبية داخل الطائفة السنية بالمقارنة مع باقي الطوائف. والسبب الاساسي في ذلك يعود إلى أن سنة لبنان هم أهل مدن، وضعف العصبية هو ما يميز أهل المدن، بالإضافة إلى أنهم لا يعانون من مشكلة الشعور الأقلوي؛ وليس غياب العصبية بالضرورة أمراً سلبياً على الإطلاق، بل على العكس تماماً، ولكنه في بلد مثل لبنان، حيث تتكتل كل طائفة على بعضها، لا سيما في الشدائد، ويتضافر أبناؤها حول دعم مراكزها في الدولة وحصتها في السلطة، ويتساعدون مالياً واجتماعياً، يصبح ضعف العصبية عند السنة حالة نافرة إذا أردنا أن نكون واقعيين.
ولا مجال هنا للاستفاضة حول هذا الموضوع، ويمكن لمن يهمه الأمر مراجعة الكتاب المميز للباحث في علم الاجتماع السياسي، الفرنسي ميشال سورا، “سوريا الدولة المتوحشة”، الذي عالج فيه هذا الأمر، تحديداً فيما يتعلق بالطوائف في سوريا، بانياً نظريته على فكر ابن خلدون، وقد كلفه هذا الكتاب حياته، إذ تم اغتياله في بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، لأنه تجرأ على التعرية العلمية لعصبية طائفية معينة تحكم سوريا بالحديد والنار.
3) أما النقطة الثالثة والأهم، فهي أنه من غير المقبول أن يكون التغيير السياسي الداخلي بإملاءات خارجية، أي أنه من غير الجائز، لا منطقياً، ولا سيادياً، أن يضطر الحريري إلى أخذ قراره في العزوف عن خوض الانتخابات مع تياره، امتثالاً لأوامر خارجية ناتجة عن عدم رضا خليجي، وخصوصاً سعودي، عنه.
المسؤول عن الفشل السني
فمن المؤكد أنّ لقيادة السنة في لبنان يد طولى في الفشل والتخبط اللذين تعاني منهما الطائفة السنية، ولكننا نكون نجانب الحقيقة والموضوعية إذا قلنا إن هذه “القيادة” هي المسؤول الوحيد عن ذلك. فتش عن غياب الدعم الإقليمي، في بلد لكل طائفة فيه “سبونسور” إقليمي أو دولي.
الطائفة السنية متروكة دون أي دعم سياسي، ولا مالي، ولا اقتصادي، من أي دولة خارجية، لا سيما من تلك الدول العربية التي كانت تعتمد عليها. ومرد ذلك هو سياسية النزق، التي لا تخلو من النزعة التسلطية، وتصرف الهواة، والتهور، وعدم التبصّر، التي تنتهجها بعض دول الخليج.
ويبدو أنّ النقمة في الشارع السني أخذت تنمو ضد السعودية، وقد تجلى ذلك في بعض المظاهر المؤسفة من شتائم وجهت إلى المملكة من قبل مناصرين للمستقبل احتشدوا أمام بيت الوسط لثني الحريري عن قراره في العزوف.
التشخيص السليم لأسباب الانهيار، من هنا يبدأ الحل. بالمحصلة، فإن وضع اللبنانيين السنّة مع تيار المستقبل سيئ جداً، ولكن يبدو أنّ وضعهم من دونه سوف يكون أكثر سوءاً. فالمصيبة الكبرى تكمن في أنه بحكم الواقع السياسي المذري في لبنان، مصير طائفة كبرى فيه متعلق ـ شئنا أم أبينا ـ بهذا التيار (المستقبل)، لا سيما أنه لم تطرح أي قوة تغييرية نفسها كبديل فعلي عنه. والغياب السياسي في مرحلة من الأرجح أن تشهد تغييرات كبرى في المشهد اللبناني، لا سيما في إعادة صياغة “صيغة” تقاسم السلطة بين الطوائف، قرار انتحاري، عبثي، متهور.
فمقاطعة المسيحيين للانتخابات النيابية سنة 1992 كانت خطأً استراتيجياً دفعوا ثمنه عزلة سياسية، وخروجاً ثقيلاً من الدولة ومؤسساتها، لعقود تلت. وقد كان لهم شجاعة النقد الذاتي لهذا الخيار بعد ذلك بسنوات قليلة، لأنهم لمسوا لمس اليد أنه لا يوصل إلا إلى حائط مسدود في آخر الطريق، فأعادوا إنصاف كل من كانوا خوّنوه من بينهم لأنه دعا وقتها إلى عدم مقاطعة الانتخابات، وعادوا إلى خوض الانتخابات تدريجياً ابتداءً من 1996.
مقاطعة الانتخابات، وعادوا إلى خوض الانتخابات تدريجياً ابتداءً من 1996.
خيارات سعد الحريري الانتخابية اليوم تشبه إلى حد بعيد خيارات المسيحيين سنة 1992، وهي تتمحور حول فكرة: “لا نريد المشاركة لأنّ ذلك لن يغير شيئاً في المعادلة السياسية التي يسيطر عليها حزب اللّه بفائض قوة سلاحه، ولو فزنا بالأكثرية”.
خطأ تاريخي
هذا الخيار بالعزوف هو خطأ تاريخي، وهو قرار ينقصه الكثير من الواقعية ومن النضوج السياسي، وفي جميع الأحوال، فهو ليس إلا نتيجة لأسباب أعمق دفعت إليه ولو لا يتم الاعتراف بها، وأولها سياسة النزق وتهور الهواة التي تنتهجها بعض الرؤوس الحامية وغير المتبصرة في الخليج. والتي أشرنا إليها أعلاه.
أما جماعة “الكلن يعني كلن”، وسائر أبواق الديماغوجية والشعبوية، الذين يوهمون الناس بعالم المثل والجمهورية الفاضلة الأفلاطونية، فهم أعجز من أن يملؤوا فراغاً سياسياً في طائفة معينة، حتى ولو فازوا بكل مقاعد نوابها.
والخوف ليس من تطرّف السنة بعد عزوف الحريري وتياره، فاللبنانيون السنة بأغلبيتهم أهل مدن وانفتاح كما ذكرنا أعلاه، ولم يكونوا يوماً بأكثريتهم الساحقة أهل تطرّف، ولن يكونوا كذلك، لا مع الحريري، ولا من دونه.
ولكنّ الطبيعة تكره الفراغ، والفراغ سوف تملأه أحصنة طروادة حزب اللّه داخل الطائفة السنية، من أمثال جمعية المشاريع والمخزومي في بيروت، ومن شاكلهم شمالاً وبقاعاً، الذين سوف يصبح ثقل تمثيل السنة محصوراً بينهم.
ما كان يجب أن يحصل من وجهة نظر ديمقراطية، هو أن يشارك الحريري وتياره في الانتخابات، وأن يتم تحجيمه انتخابياً، لا سيما من قبل المقترعين السنة، عبر صناديق الاقتراع. فمشاركة شخصية وتيار أساسيين لهما ثقلهما التمثيلي الشعبي، مثل الحريري وتيار المستقبل، أمر ضروري لانتظام الحياة الديمقراطية في لبنان. وللمقترعين السنة، من جهة أخرى، حرية التصويت للمستقبل أم ضده، في معركة انتخابية نزيهة وعادلة.
أما عدم مشاركة المستقبل بالانتخابات، فيعني حرمان جزء كبير من السنة من صحة تمثيلهم، وحرمان الجزء الآخر منهم من حقهم بمعاقبة الحريري وتياره عبر صندوقة الاقتراع.
وهذا الحرمان هو ضربة قاسمة للديمقراطية ومبادئها الأساسية في لبنان، لا سيما أنه يأتي بإيعاز خارجي وتدخل سافر في شؤون لبنان الداخلية.
نقلاً عن أندبندنت عربية