د. ماجد السامرائي
ما يثير الانتباه ورصد الأحداث الأخيرة داخل العراق وعلى حدوده مع سوريا، الاستثمار السياسي والعملياتي المتجدد لتنظيم داعش من قبل قوى النفوذ في الشأن العراقي والأطراف السياسية الولائية التي وصلت إلى طريق مسدود بعد فشل وسائل وأدوات رتيبة لاستعادة مكانتها السياسية التي خسرتها في الانتخابات الأخيرة.
تأكد بالوثائق والاعترافات الكثيرة المنشورة من قبل مشتغلين وخبراء الإرهاب داخل الولايات المتحدة أن واشنطن استخدمت داعش كواحدة من أدوات إدامة الأزمات وتوظيفها لصالح الجهات الاستخبارية الأميركية. ملف داعش فرعي أضيف إلى الملف التاريخي لوظائف القاعدة التي لم تنحصر في محاربة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، بل استمرت كأداة أهديت للنظام الإيراني استعدادا لاحتلال العراق والتوطن فيه.
القاعدة تمرّدت على ولاتها فاصطدمت مع واشنطن بعد تفرّدها بالعالم بعد إسقاط موسكو عام 1991، حيث التناقض غير مسموح به علنا بين دعوات الديمقراطية الليبرالية والفكر الإسلامي الجهادي، الذي أسس له أول نظام سياسي مدعوم أميركيا وأوروبيا في الجوار العربي هو نظام الخميني، وأُبقيت الأبواب الخلفية مفتوحة للنشاطات الاستخبارية المدنية والعسكرية في توظيف رخيص لبعض الفعاليات المحلية ومخلفاتها في كل من سوريا والعراق مثل “قسد” الكردية وداعش الذي أخذ وصفا عراقيا.
عكس حكام طهران كل ما يمتلكونه من صفات التَّقيّة والمراوغة في سياساتهم لتعزيز نفوذهم في العراق، قد يكونون متفقين أو مختلفين مع الأجهزة الاستخبارية الأميركية في التغطية والتستّر على حقائق رعايتهم لقادة القاعدة وداعش، لاعتقاد طهران الخميني وخامنئي بأنها بنت خلال سنوات قليلة جهاز الحرس الثوري لكي تستنسخ الأسلوب الأميركي في رعاية التنظيمات الجهادية التي لا تختلف معها عقائديا إلا بالتفصيلات، إلى جانب البرنامج المركزي لبناء جهاز شعبوي جديد في العراق تحت يافطة ولائية سمته الحشد.
كان من بين الوسائل الأميركية لدحر داعش تأسيس “الصحوات” السنيّة من قبل الجنرال ديفيد بترايوس حيث نجح في دحر القاعدة، وسلم ما لا يقل عن مئة ألف مقاتل إلى رئيس الحكومة نوري المالكي الذي وجد خطورة في بقاء التنظيم المسلح فتم حلّه وإيقاف رواتب منتسبيه إلا أفرادا معدودين من بعض القادة المرتزقة.
كان تأسيس الحشد قرارا إيرانيا من خلال استثمار ذكي في احتلال داعش للمحافظات العراقية الغربية. القرار أعلنه المالكي بأوامر من قاسم سليماني قبل فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني. كل المعلومات أشارت إلى تعاون ميداني ما بين القوات الأميركية التي استنجد بها المالكي لمواجهة داعش وبين المنظمة الجديدة الحشد. ملف الإعانات المالية الأميركية لتلك المنظمة التي يدعي قادتها محاربة الولايات المتحدة أغلق مؤخرا.
كانت متطلبات البرنامج الطائفي لسحق العرب السنة حرمانهم من أي قطعة سلاح، حتى سكينة المطبخ تتم مصادرتها لمنعهم من الدفاع الشخصي، وليستكمل داعش برنامج تصفية شبابهم الذي بدأته الميليشيات، ليقال لاحقا إن “الحشد وسليماني من حمى أعراض العراقيين وحرر مدنهم” رغم أن نتائج تلك الحرب إضافة إلى الآلاف من الشهداء أكثر من مليوني عراقي مشرّدين في المخيمات بمواجهة ظروف قاسية وحرمان من الخدمات، ومشاهد الأطفال الأخيرة وسط الثلوج تدمي القلوب.
اللافت أن القوى الميليشياوية الولائية لا يمكن أن تعيش بلا فوضى وتجديد فصول الحرب الطائفية، لأن استقرار وأمن العراق لا يبقي وظيفة لهؤلاء القادة، وأعدادهم ليست قليلة، فأصبح ملف الوجود الأميركي بعد الانتصار على داعش مادة لاستعراضات المقاومة، ثم أصبحت حلقة الهزيمة الانتخابية مؤخرا دافعا لردود فعل خطيرة تصل إلى التهديد بالصراع المسلّح، خصوصا بعد فشل إسماعيل قاآني في إجبار مقتدى الصدر على مشاركة تلك القوى في العودة إلى قيادة الحكم.
حملة تعبوية مُنظّمة تتصدى لها أسماء معروفة من قادة الميليشيات الولائية تستثمر عمليات مُبرمجة لداعش دافعها الأول إشاعة فوضى وإرباك في المشهدين الأمني والسياسي، لمنع إنجاز مراحل تشكيل الحكومة بقيادة الصدر.
أبوعلي العسكري زعيم كتائب حزب الله يتزعم الحملة إلى جانب معاونين بينهم رجال دين بلغة تهديد مباشرة تستهدف قادة الفوز الجديد؛ الصدر والزعامات السنية الموحدة باستبعاد مؤقت مقصود وبتورط الأكراد. اتهامهم بالعمالة للمشروع الأميركي – الغربي والتطبيع مع إسرائيل بتحالف ودعم “عربان الخليج” والتهويل من تكرار سيناريو اجتياح داعش 2013.
ولتنشيط الذاكرة القريبة ابتدأ تطبيق سيناريو الاجتياح الداعشي عام 2013 بتهريب المئات من قادة القاعدة من سجني أبوغريب والتاجي. واعترف بالتواطؤ الحكومي وزير العدل العراقي السابق حسن الشمري في تصريحات تلفزيونية عام 2014، قبل اجتياح داعش بقوله “رؤوس كبيرة في الدولة سهلت هروب سجناء القاعدة من سجني أبوغريب والتاجي في بغداد” إلى الضفة الأخرى من الحدود مع سوريا. اليوم الصورة معكوسة، هرب المئات من سجناء داعش من سجن الحسكة السوري تحت مظلة ميليشيات قسد الكردية ورعاية أميركية وتركية.
الجانب الثاني من الكارثة العسكرية تقني يتعلق بحالة الترهل وعدم الانضباط في جسم القوات المسلحة العراقية التي بناها الأميركان بعد عام 2003، بعد عمليات دمج طائفية اعترف بها بول بريمر في مذكراته، كذلك السلوك الطائفي لبعض القيادات العسكرية ضد أبناء الموصل. لكن الأخطر مثلما هو مُثبّت في محاضر التحقيق البرلماني الذي ظل طي الكتمان هو الأوامر العليا بالانسحاب من ساحة المعركة ضد المئات من فلول داعش.
تؤكد حادثة مقتل الجنود العراقيين على يد داعش ضرورة أخذ الحذر من الخلل الكبير في سياقات العمل العسكري، وأن التوظيف الإعلامي المقصود الآن من القوى الولائية هو توجيه الإساءة للجيش، ليصبح الحشد الإيراني البديل المطلوب. نتذكر قبلها قصة “الفضائيين” في الجيش، وهي وجود قوائم لخمسين ألف منتسب تدفع لهم الرواتب ولا وجود حقيقيا لهم، باعتراف رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، دون أن يعلم المواطن العراقي ما هي الإجراءات التي اتخذت لكشف ومحاسبة المتسببين بهذا النهب الملياري. واليوم يعلن العبادي عن ترشيح نفسه لولاية جديدة لرئاسة الوزارة.اليوم يعاد سيناريو توجيه الاتهامات بتفكك النظام والضبط العسكري من خلال واقعة العدوان الآثم على الموقع العسكري في ناحية العظيم بمحافظة ديالى قبل أسبوع، حيث توفي 11 مقاتلا. عُرض بعد الحادثة مباشرة فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لقائد عسكري عراقي يتفقد وحدة للجيش ويكتشف عدم وجود مراتب بدرجات متفاوتة في موقع الواجب، ويرى علمين، عراقي وإيراني، بذات الموقع فيأخذه الغضب وينسحب.
نشاط داعش الأخير مقصود ومنظم لعرقلة العملية الانتقالية لتشكيل الحكومة الجديدة من دون القوى الولائية وإرباك الوضع الأمني العام، في تجديد لتوظيف عنوان “الحرب على داعش”، وتجديد الاتهامات للعرب السنة. يبدو أن نار الحقد لم تخمد بعد قرابة العشرين عاما ضد هذا المكوّن العراقي الأصيل.
من بين ما يذكرونه من افتراءات اتهام الكتل السنية الفائزة بالانتخابات الأخيرة بأنها تحضر للصدام مع الشيعة. هكذا سبحان الله أصبحت للعرب السنة قوة الاشتباك العسكري مع الشيعة، من خلال نزول جيش سنّي تحت اسم “أشباح الصحراء”. وعرضوا لافتة مفترضة لهذا التشكيل العسكري على أحد جسور الأنبار، ووصفوه بأنه صنيعة أميركية سنيّة، ومطلوب وقفهم مواجهة السنة عسكريا في بغداد وطردهم.
لم تعد سيناريوهات التأجيج الطائفي ألغازا يصعب فكّها، لأن التجربة القاسية ودماء مئات الألوف من الأبرياء أعطت درسا بمعرفة الخطط والنوايا الولائيين الإيرانيين. قصة وجود جيش أشباح الصحراء المقصود منها تقديم تبريرات إعلامية لهجمات مسلّحة كبيرة على المواطنين المدنيين العزّل، خاصة في حزام بغداد، تحت غطاء الهجوم على فلول داعش.
حقيقة هذا الجيش “الشبح الصحراوي” هي أنه إحدى تشكيلات المخابرات الأميركية التي صنعتها قبل عامين في شمالي شرق سوريا وقرب الحدود العراقية، خصوصا مناطق تنظيمات قسد وحزب العمال الكردي، التي تشرف عليها الولايات المتحدة. تشكيل يبدو أنه ضد داعش مثلما هو الحشد في العراق، ولا علاقة له بمطالبة الزعيم السني محمد الحلبوسي في تغريدة له أخيرا بضرورة تسليح أهالي المناطق العربية السنية، وهو حق ومطلب مشروع للدفاع عن النفس، بعد تجريد أهالي السنة من كل قطعة سلاح تحت هيمنة قوات الحشد، لكي لا تتكرر مجددا إعلانات فضل حماية الأعراض من قبل إيران وحشدها على العراقيين.
لا تقليلا من مخاطر داعش ومخططات القوى الولائية؛ هناك تطورات جدّية في منطقة العراق جزء منها في مثلث خاصرة الشمال الشرقي السوري مرتبطة بتغيرات متواصلة لتحالفات (الولايات المتحدة، تركيا، روسيا، إيران) ومن ضمنها العراق الذي تعتبره إيران مُقفلا لنفوذها، لكن الخرق الكبير حصل في الداخل العراقي بمجيء قوى سياسية جديدة للحكم، بما ينبئ بتداعيات خطيرة إذا ما واصل الصدر وتحالفاته السنية – الكردية مشروع الأغلبية الوطنية.
نقلاً عن العرب اللندنية