كتب : محمد أبوالفضل
رغم أن اجتماعات اللجنة المصرية – العُمانية التي عقدت في مسقط يومي السبت والأحد ذات طابع اقتصادي غير أنها حملت رسائل دبلوماسية، بداية من اللقاءات التي عقدها وزير الخارجية المصري سامح شكري مع نظيره العماني بدر البوسعيدي وحتى اجتماعات مجلس الأعمال المشترك في دورته الثالثة وما حوته من مضامين سياسية.
ذهب الوفد المصري وقد أبدى اهتماما لافتا لبناء علاقة متطورة مع سلطنة عمان التي تختلف عن باقي دول الخليج في بعض تصوراتها لإدارة الأزمات وعلاقاتها الإقليمية، حيث تقيم توازنات مع دول عديدة تنطلق من فهمها الخاص لموقعها الجغرافي وامتداداتها التاريخية ونظرتها الاستراتيجية للمنطقة ومتغيراتها.
لا أحد يستطيع القطع أن الحرص على تطوير العلاقات بين البلدين هذه المرة موجه إلى جهة معينة، لكن خصوصية السياسة العُمانية وتقارب القاهرة معها في هذه الأجواء يفتحان الباب لتساؤلات حول ما يمكن أن يحمله التناغم بينهما من دلالات إقليمية، وهل يمثل قفزا على بعض الثوابت التي عرفتها المنطقة خلال السنوات الماضية؟
نسجت سلطنة عمان جوانب كثيرة من علاقاتها الخارجية انطلاقا من تقديرات جعلتها في ناحية بعيدة عن دول خليجية أخرى، وبدت علاقتها مع إيران مثلا تحمل بعض المتاعب والمميزات أيضا، إذ سخرتها لتحويلها إلى رمانة ميزان في الخليج العربي، وساعدتها في حلحلة عقد إقليمية وطرح تسويات لملفات كانت عصية على الحل.
قد يعتقد البعض أن مصر بحاجة إلى دور عُمان لتحسين علاقتها مع إيران، وربما يرى آخرون أن التطور الجديد بين الدولتين له علاقة بوقف مسار الحرب وتشجيع السلام في اليمن، غير أن هذين التقديرين بعيدان عن الحسابات الراهنة، فالقاهرة خطوطها غير مغلقة تماما مع طهران ولا تحتاج إلى وساطة من مسقط أو غيرها، واليمن اختبرت السلطنةُ دورها السياسي فيه ولم تحقق نجاحا ملموسا.
المنطقة التي تتعرض لرياح تأتيها من جوانب مختلفة بحاجة إلى التحلي بالمزيد من الجرأة في التخطيط الاستراتيجي
يمكن تفسير التقارب بين القاهرة ومسقط الذي يبدو كأنه يتجاوز الحدود التقليدية في العلاقات بين الدول العربية بتكريس الاتجاه نحو فتح جميع الخطوط في التحركات من دون أن يكلفها ذلك أعباء سياسية، والتي تتبناها سلطنة عمان منذ فترة وبموجبها تمكنت من عبور بعض المطبات في روابطها الخليجية والإقليمية.
قرأت مصر الرياح في الخليج ووجدت أنها يمكن أن تذهب إلى فضاءات تؤثر على ما رسخ في ذهنها من ثوابت بالنسبة إلى احتمال حدوث تسوية مع إيران في ظل الحوارات المتقطعة مع طهران أو حتى تصاعد الأمور معها بعد أن بدأ الحوثيون يوجهون صواريخهم بغزارة نحو كل من الإمارات والسعودية، ناهيك عن دخول المتغير الإسرائيلي في خضم الأزمة مع إيران وروافدها المتباينة.
في كل الأحوال، تواجه القاهرة موقفا استراتيجيا جديدا عليها وقد تخرج موازين القوى التي شيدت مصر على أساسها جزءا من علاقاتها الخليجية القوية عن رؤى سابقة راسخة في العقل الجمعي إذا اتسعت هوامش الحركة المستقلة بين الجانبين، والتي يمكن أن تكون لها انعكاسات على الأمن القومي العربي.
تجد القاهرة في تمسك مسقط بسياستها التي تسير على حبال دقيقة ونجاحها في الاحتفاظ بقنوات مفتوحة مع الكثير من الجبهات في المنطقة صيغة تعكس المنطق الذي تنتهجه مصر وظهرت ملامحه الفترة الماضية ولم تعلن عنه رسميا، حيث قللت التوجهات التي تتبناها من إمكانية التعويل عليها كحليف قوي لبعض الدول الخليجية.
نشبت خلافات مكتومة بين سلطنة عمان ودول خليجية وجرى ترميمها مؤخرا، لأن كل طرف لا يريد الدخول في خصومة تؤثر على المجال الحيوي في الخليج وتفقده جاذبيته وتقوده إلى صدام غير مرغوب فيه، فالتعايش على قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” تمكنت مسقط من الحفاظ عليه مع قوى متعددة.
تكمن المشكلة لدى مصر في هذه الزاوية، فقد تجاوزت عُمان الكثير من العثرات لأن طموحاتها تنحصر في الدفاع عن مصالحها بلا رغبة في القيام بأدوار إقليمية تحملها تكاليف باهظة، بينما الوضع يختلف في حالة القاهرة التي لن تستطيع إعادة تكرار النموذج العماني المحدود في جبهاته الصراعية والذي تقوم قيادته بوساطات تتناسب مع الدور الذي جرى رسمه لها منذ زمن.
كل تناغم كبير بين مصر وعمان سوف يكون مرهونا بسقف منخفض من الطموحات، والمكونات الخاصة التي يتبناها الطرفان ستظل قاصرة على ما يمكن أن يسهم في تطويرها في الملفات الفرعية، ولن يصل إلى مستوى القضايا العميقة
تنحصر الدبلوماسية الخاصة بين مصر وعُمان في الإطار الثنائي، ويصعب أن تحمل تأثيرات أبعد من ذلك، فالجغرافيا السياسية لكل دولة تلعب دورا مهما في التفكير الاستراتيجي لمفهوم الدور وتبعاته، وظروف مصر وضعتها في بيئة محاطة بالتحديات، وإذا قبلت قيادتها الاكتفاء بأدوار محدودة أو هامشية تقوم بها أي دولة صغرى فالأجواء العامة والأقدار الطبيعية ستفرض عليها طقوسا أخرى.
ما تقوم به مسقط جاء حصيلة تراكم خبرات وسنوات طويلة، ولم يتغير مع رحيل السلطان قابوس، فقد أكمل من بعده السلطان هيثم بن طارق المسيرة على المنوال ذاته تقريبا، وحافظ على الإرث السياسي ولم يدخل عليه تعديلات جوهرية، وما يصلح مع مسقط ليس بالضرورة أن يكون مفيدا للقاهرة.
تحتاج السياسة الخارجية لمصر إلى منهجية جديدة تخرج بها عن السياق الذي تتعامل به حاليا. منهجية تتطلب المزيد من الجرأة التي تتواءم مع دورها الكبير الذي فرض عليها منذ زمن، لأن الارتياح إلى علاقات هادئة مع الجميع والنأي عن الانخراط في صراعات ساخنة قد تكون لهما تداعيات وخيمة.
في ظل تسارع وتيرة المشاريع في المنطقة من يملك القدرة على تسيير الأمور بالطريقة التي تتناسب مع مصالحه يتمكن من حسم الكثير من الملفات لصالحه، وهو ما يعني أن السيولة التي تخيم على الكثير من التطورات الجارية هناك من يحاولون تطويعها وتوظيفها والاستفادة منها في رسم خرائط جديدة ووضع توازنات تمكنهم من السيطرة على مفاتيح المنطقة.
تفيد الدبلوماسية الخاصة بين القاهرة ومسقط في هندسة العلاقات المشتركة، لكن ذهابها إلى أبعد من ذلك أو اقترابها مما يشبه المحور لن يكتب له النجاح، لأن الرؤية بين الجانبين سوف تتصادم إذا وصلت إلى مستوى معين، فثمة قوى تعمل على إبعاد مصر عن الخليج وألا يتجاوز دورها الحدود الدنيا، ويفرض الوصول إلى الحد الأقصى دفع أثمان سياسية تبدو مصر غير مستعدة لتحملها في الوقت الراهن.
كل تناغم كبير بين مصر وعمان سوف يكون مرهونا بسقف منخفض من الطموحات، والمكونات الخاصة التي يتبناها الطرفان ستظل قاصرة على ما يمكن أن يسهم في تطويرها في الملفات الفرعية، ولن يصل إلى مستوى القضايا العميقة والمركزية التي تحتاج إلى نوع من المغامرة المحسوبة، فالمنطقة التي تتعرض لرياح تأتيها من جوانب مختلفة بحاجة إلى التحلي بالمزيد من الجرأة في التخطيط الاستراتيجي.
نقلاً عن العرب اللندنية