كتب : فؤاد مسعد
صدر للكاتب والأديب الدكتور/ جمال السيد كتاب “الوادي الفيّاض من طرائف نوبة عياض، في جزئين، يقع الجزء الأول في 213 صفحة، والثاني في 176 صفحة.
وهو كتابٌ يتناول طرائف أهل قرية المؤلف، (نوبة عياض)، إحدى قرى مديرية تبن بمحافظة لحج، تقع جنوب غرب مدينة الحوطة عاصمة المحافظة، وفي الكتاب- كما في القرية التي يسميها المؤلف “مدينة السواني”، تمتزج الحقيقة بالأسطورة، وتعانق الخيال وتستحيل طرفة فنية أدبية، هو كتاب “يترحم على أجدادنا المزارعين الطيبين، يعرض صوراً من تفكيرهم وأحلامهم.. من محبتهم وعونهم لبعضهم، وكيف جابهوا مشقات الحياة بالصبر والابتسام”.
الكتاب الذي بين أيدينا، يقدم لقارئه ما تيسر من سيرة الأهل وبعض حكاياتهم وطرائفهم، شيئاً من حواراتهم وبعض أشعارهم وأخبارهم، تاريخ أشخاص بسطاء، على جغرافيا لها تاريخ يمتد قروناً طويلة، يُحكى بالبساطة التي تليق بهم، ويروى بالإجلال الذي يليقون به.
الكتاب وادٍ يفيض من حيث فاض تبن، تحملنا سطوره إلى النوبة الغناء، نوبة عياض التي أطلق عليها شاعر لحج الكبير أَحْمَد فَضْل العَبْدَلِي (1881- 1943) المعروف بـ”القمندان”، لقب آسيا الصغرى، حيث “تزهو الأرض بالغلال والثمار والخضار، وتلبس الأخضرَ القلوبُ والأجساد؛ والسيل يشق طريقه عبر سوق القرية المنظم فترى الرجال يشربون الشاي على كراسي من خشب وضعت على حواف (عُبر الدكاكين) في منظر مدهش”.
القرية التي أخرجت إلى جانب المزارعين شعراء ومهندسين وفنانين، وقدمت خبراء في القانون وأعلاما في التربية والتعليم، كان للتعليم فيها حظ وافر، فقد كان فيها عدد من الفقهاء والمعلمون (ذكوراً وإناثاً) الذين كانوا يقومون بتعليم الناس القران الكريم والفقه ومبادئ القراءة والكتابة، وكان لها طقوس وأعراف للاحتفاء بحفاظ القرآن، تبدأ الحفلة الأولى عند وصول الطالب إلى سورة (ص)، وتسمى حفلة الصاد، يتم تكريمه وتكريم مدرسيه من قبل الأهالي، وتكون الحفلة الثانية والأخيرة عند ختم القرآن، وفيها يكون الاحتفال أكبر والعطاء أكثر.
استمر الوضع سنوات طويلة حتى تأسست أول مدرسة ابتدائية في العام 1963، وفي المدرسة قام بمهمة التعليم نخبة من الأساتذة والمربين الذين قاموا بالمهمة على أحسن وجه.
عوداً على بدء
ما إن بدأت قراءة الكتاب حتى عادت بي الذاكرة إلى الوراء نحو عشرين عاماً، عندما كنت طالباً في كلية التربية بالضالع، أدرس في قسم اللغة الانجليزية وكان من بين مواد الفصل الأول حينها مادة الأدب الانجليزي، كانت أكثر المواد صعوبة كونها تتناول موضوعات ومعلومات جديدة علينا، ولأنها غنية بالمفردات والمصطلحات القديمة أو الأدبية والنقدية التي يصعب العثور عليها أو فهم معانيها، بيد أن نظرتنا للمادة تغيرت إيجاباً بعدما وجدنا مدرس المادة يبذل كل الجهد في تسهيلها وإيصال مضامينها إلينا.
كان الأستاذ جمال السيد ودوداً في تعامله وبسيطاً في حديثه وشرحه، وكان أكثر ما يهمه أن يفهم الطلاب محتوى المادة، ومع الوقت كشفت لنا محاضراته صفات عديدة لأستاذنا، فلقد تجلت ثقافته الواسعة وغزارة ما لديه من معلومات في التاريخ والتفسير والثقافة والفكر والأدب، إلى جانب ما تميز به من إلمام بمادة الأدب الانجليزي الذي يعتبر أحد أبرز مرجعياتها على مستوى اليمن.
احتوت المادة على حقائق ووقائع تاريخية ضمن تسلسل زمني يتتبع نشأة الأدب في أوروبا القديمة وشعوبها، والأحداث التي أثرت في تلك الشعوب، مع الإحاطة بمعالم ظهور الأدب هنا وهناك، وتناول البارزين من الشعراء والفنانين والنقاد، وكان أستاذنا لغزارة علمه بتلك الموضوعات يبدو كما لو كان معاصراً لكل تلك الأحداث وشاهداً عليها، ولقد بدا لنا قامة أدبية وعلمية لا يقل عن تلك الشخصيات التي يتناولها شارحاً لنصوصها، ومعلقاً عليها وناقداً لها، ومضيفاً إلى ذلك ما يعادلها أو يقاربها من الأدب العربي، حتى أنه يعقد المقارنات والمقاربات بين شاعر إنجليزي مع شاعر عربي، وهو خبيرٌ بتفاصيل الأدب الانجليزي كما هو ضليع بفنون الأدب العربي قديمه وحديثه.
نوبة عياض
قرية المؤلف هي المكان الذي تتحرك فيه شخصيات الكتاب، وتدور حكاياته وطرائفه، وهي قرية زراعية – كما هي جاراتها قرى لحج ذات الخضرة والماء والأودية الخصبة والتربة الطيبة.
وآل عياض- سكان القرية الأصليون، هم “لحوج قدماء يضرب تاريخهم إلى ما قبل النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، إلى عهد اليحصبيين الحميريين، ويُستشف من نظام الزراعة والري وخبرتهم فيهما أنهم مرجعيات وادي لحج، ولهم من وادي تبن السهم المعلّى”.
للقرية ثلاثة أسماء، وكلها موصولة بـ”عياض” الأصل الذي انحدر منه السكان الأوائل للقرية التي تدعى “نوبة عياض”، ولما انتقل إليها القادمون من الشرق أبين وشبوة وحضرموت، واستقروا فيها منذ القرن التاسع عشر الميلادي، أطلقوا عليها الاسم الذي يتناسب وما تعارفوا عليه في مناطق سكنهم التي قدموا منها، حيث صاروا يسمونها “ساكن عياض”، أما السكان القادمون إليها من مناطق أخرى مثل يافع والصبيحة فقد أطلقوا عليها “بيت عياض”، وهو الاسم الذي غلب في السنوات الأخيرة، مع أن المؤلف وهو يتتبع جذور كل تسمية، وأسبابها وظروفها، يفضل تسميتها الأولى “نوبة عياض”، وهو ما يتجلى في جملة أحاديثه عنها ومنها عنوان الكتاب نفسه.
ونوبة عياض هي – كما يقول المؤلف- عروس الوادي الكبير، بنت فالج ولد تُبـَن، ولفالج ثلاثة رؤوس: عياض والعود والنينوه، ويقول عن سكانها: “عشق أهل قريتي الفلاحة، وأخلصوا للأرض وارتضوا بما جادت به، إن قليلاً أو كثيراً”، وتنتج القرية كثيراً من المحاصيل الزراعية من الخضروات كالطماط والباذنجان والبامية والبسباس والكوسا والقرع والكبزرة، ومن الفاكهة المانجو والعاط والباباي والتمور وغيرها.
أعلام نوبة عياض
الشيخ عبد الله بن سعيد عبادي اللحجي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، (1924- 1990)، ولد في نوبة عياض وخلف أباه فقيهاً لمسجد القرية وهو صبي، ثم سافر إلى السعودية، واستقر هناك حتى وفاته، حيث عمل مدرساً بالمسجد الحرام ومدرساً بالمدرسة الفخرية وفي دار العلوم الدينية، ثم في المدرسة الصولتية، وله 12 مؤلفاً منها:
إيضاح القواعد الفقهية لطلاب المدرسة الصولتية.
إعانة رب البرية على جمع تراجم رجال الحديث المسلسل بالأولية.
منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول.
المرقاة إلى الرواية والرواة.
وإلى نوبة عياض ينسب القاضي عياض (1083-1150)، وهو “أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو السبتي اليحصبي”، قاض مالكي، وعلامة ومؤرخ، وفق موسوعة ويكيبيديا، قدم أسلافه إلى مدينة “بسطة” الأندلسية من نواحي “غرناطة” واستقروا بها، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس المغربية، ثم غادرها جده “عمرون” إلى مدينة سبتة، واشتهرت أسرته بـسبتة؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وشهدت هذه المدينة مولد عياض، وبها نشأ وتعلم، وتتلمذ على شيوخها. جلس للمناظرة وله نحو 28 سنة. وولي القضاء وله 35، حتى وصل إلى قضاء سبتة ثم غرناطة، فذاع صيته وحمد الناس سيرته.
ومن مؤلفاته:
ترتيب المدارك وتنوير المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك.
الغنية، ترجمات شيوخه
إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
مشارق الأنوار على صحاح الآثار، وهو كتاب مفيد في تفسير غريب الحديث المختص بكتب الصحاح الثلاثة، وهي: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم.
الإعلام بحدود قواعد الإسلام.
التنبيهات المستنبطة على المدونة
مذاهب الحكام في نوازل الأحكام
الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع
وينسب له البيتان الشعريان الشهيران:
وممّـــا زادني شرفــاً وتيهـاً وكدتُ بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرتَ أحمد لي نبيّا.
ويقول المؤلف: قدّمت قريتنا لمحافظة لحج أكبر خبير زراعي، وأحد قادة شرطتها في عهد السلطنة العبدلية، وقدّمت التربوي والإذاعي الكبير (عثمان عبده عون) الذي سُميّت المدرسة الثانوية بمدينة الشيخ عثمان باسمه، والطيار حامد عبده.
ومن الأعلام الذين قدمتهم السياسي والمثقف البارز: عبدالله حسن العالم- رفيق عمر الجاوي (أحد أشهر الأدباء والكتاب اليمنيين- أبرز مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين) في المدرسة الثانوية بمصر، وهو من مؤسسي رابطة الطلاب اليمنيين بالقاهرة، في خمسينيات القرن العشرين، وهو من الأوَل الذين سافروا لاستكمال الدراسة في مصر بداية الخمسينيات مع دفعة سقاقفة الوهط (الدكتور/ أبوبكر السقاف، رئيس سابق لجامعة صنعاء، ومحمد جعفر زين رئيس سابق لجامعة عدن، والكاتب والأديب عمر الجاوي، ومحمد عمر اسكندر).
ومن أعلام نوبة عياض المحامي والمستشار القانوني خالد عياض، وهناك كثير من الأعلام (العِياضية) في مختلف المجالات لا يتسع المقال لذكرهم والإحاطة بهم.
لحج وجمال السيد
المؤلف- الدكتور جمال السيد، أحد أدباء اليمن وكُتّابها، أستاذ الأدب الانجليزي بجامعة عدن، تربوي وأكاديمي تخرج على يديه المئات، وكثيرٌ ممن صاروا زملاءه كانوا يوماً تلاميذه، يبتعد عن الأضواء ويهرب من الضجيج، لكنه حاضر في حراك الأدب ومنتديات الثقافة.
أصدر عدداً من الكتب والدراسات الأدبية والنقدية، ولا يزال في جعبته الكثير في انتظار خروجها إلى النور، ومن أهم مؤلفاته:
طاب يا زين السمر.
انتقام الشاعر.
عشاق الشريفات.
المقامة اللّحْجية: نحن للطرب عنوان.
حِكَمي وعامّيون.
القمندان: مجمرة الرومانسي.
نفخ الحقين (ديوان).
إمتاع القارئ والسامع بمناقب سيدي حامد جامع.
إنه ابن لحج المسكون بكل محاسنها وهي التي طابت خصوبة أرض ووفرة ماء، كما وهي الساكنة/المتحركة في كل تفاصيله، ولو تمثّلتْ كل محافظة بشخص من أبنائها، لجاءت لحج على هيئة “جمال السيد”، فهو يتحلى بأجمل ما فيها ويجود بأجمل ما لديه عنها ومنها، خلقاً كريماً وعلماً غزيراً وثقافة واسعة، كيف لا وهو راوية الأدب والفن اللحجي، وتُعدّ مدونته على الإنترنت (وادي المعرفة) واحة غناء وارفة الظلال، فيها ما لذ وطاب من روائع الغناء والطرب اللحجي الأصيل، وهو إذ ينقله يفعل ذلك عن وعي وإدراك وثقافة وذائقة فنية، فهو شاعرٌ وناقدٌ يسبر أغوار الشعر (العامي والفصيح)، وخبير بشئون الفن، متمكن منها، وفي مدونته بُغية كل باحث عن الإمتاع والإبداع، وجواب لكل سائل عن لحج وفنها وأدبها، سيما ما يتعلق بواديها الخصب الشهير (تُبَن)، الأرض الزراعية والإنسان المكافح النبيل، الذي يزرع الأرض حُبا قبل الحَب، يحرسها بالأمل والتفاؤل، يتعلم منها العطاء وتتعلم منه الصبر، فتغدو الأرض أقرب إليه، ويصير هو أكثر حباً وعشقا لها.
في لحج وأبنائها سمات يندر وجودها في غيرها وغيرهم، أبرزها ارتباطهم بالأرض والصفات الحميدة، ففي لحج التقى الاثنان، الأرض والإنسان، فأنتجا الخير والجمال، خير الأرض وإبداع الإنسان، الأرض وهي ترتوي بالماء فتكتسي بالخضرة لتجود بما أودع الخالق في باطنها من الفواكه والخضروات بألوانها المختلفة وأصنافها المتعددة، والإنسان البسيط في مظهره لكنه الغني بنقاء جوهره وصفاء معدنه، المعطاء كأرضه والبشوش مثل أزهارها، والطروب كأنه عصفور في رياضها.
من هنا جاء الطرب اللحجي جميلاً، وسال الصوت اللحجي عذباً طروباً، وهادئاً في الوقت ذاته.
تساءلت الشاعرة والروائية اللبنانية ماري القصيفي، وهي تستمع للطرب اللحجي: من أين يأتي هذا الهدوء في أغانيكم: موسيقى وكلمات؟ كأنكم تمتلكون الوقت ولا تخافون منه؟ فأجابها ابن لحج- جمال السيد العارف بــ”لحْج” وفنونها: هذه من بركات السيد (تُبَن)، وادينا الجميل الذي لا يقطع عنا خيره. لقد جعله الله لنا بركةً، فاستقرت النفوس وهدأت واطمأنّت. نحمد الله حمداً جزيلاً وافرا.
ثم أهداها إحدى روائع الطرب اللحجي الأصيل، أغنية “ترفّق بي فداك”، من كلمات الشاعر: علي عوض مغلس (1930- 2006)، وألحان محمد سعد صنعاني (1920- 1991)، وغناء الفنان عبدالله محمد حنش (1941-1980).
وفي مطلع الأغنية:
ترفّق بي فِــدَاكْ الروح يا بـــدرْ اكتملْ
ترفق يا مُنى نفسي وقصــدي والأمـلْ
ترفق بي كفــاني من فراقـك ما حصلْ
من الهجر الطويلْ
وبُعـدكْ يا جميل
أنا دمعي يسيل
بِزَورة جود لي
إنّيْ على وشك الهلاكْ
ترفّق بي فـداك