أحمد الفيتوري
إن ما تجري به الأمور اليوم، من الصعب ملاحقته، وبالتالي من الصعب فهمه، أما هذا التدفق للمعلومات الزائد عن الحاجة، فهو مبهر كالشمس، الساطعة فجأة بعد غياب. وفي هذه الحالة الزائدة المعلومات يزداد الجهل، لأن ما زاد على حده ينقلب إلى ضده، من ناحية، ومن أخرى “نحن محاطون بالجهل، الذي ينتج عن عمد، من قبل قوى مهيمنة، لكي يتركونا في الظلام”، بحسب رأي روبرت بروكتور، الأستاذ في جامعة ستانفورد، من درس صناعة الجهل، ويحذر ويواصل معركته ضد الأخبار المفبركة: “اسألوا أنفسكم دائماً، ما مصدر الخبر، ما مدى مصداقيته، من المستفيد منه؟”.
لقد حققت البشرية قفزة هائلة، حين جعلت من الفضاء وسيلة انتقال. فلقد تحول الفضاء إلى جمل، سفينة صحراء في غياهب الكون والنفس، لكن هذا التحقق كما حقق للفرد حرية أن يكون، فإن القوى المهيمنة أيضاً، تمكنت من تملك هذا السلاح. وقد عملت هذه القوى من جعل القمر أقماراً تنشر الظلام، فتم تفتيت المعلومة، وجعلت نواة تتفجر عبر صناعة الضجة. فالمعلومة باتت تتدحرج ككرة الثلج، لكن في النهاية، تكون جبل الثلج، ما يُخفي أكثر مما يفصح. وصناعة الضجة، كما تقنية وهمية، تفعل فعل السحر في المجتمعات القديمة، فعند قبائل في غرب أفريقيا، زراعة البطاطا التي لا تسبق بـ”رقصة البطاطا”، من المستحيلات الأربعة، بل هي خروج عن الناموس، هكذا صناعة الضجة رقصة البطاطا، ناموس صناعة الجهل.
الضجة تترادف واختراع الخبر، ما يتم تسويقه وترويجه بإحكام، ومن هذا يطلق الخبر كما الصاروخ، المتعدد المراحل والخارق السرعة. فالخبر عاجل: “طائرات مجهولة ضربت موقعاً في سوريا” أو “طائرات مجهولة في أجواء أوكرانيا”، وعددها في حين ثلاث وفي آخر خمس، وعند ذاك المُرسل ليس ثمة معدود، أما المحلل الإخباري فعليم بكل شيء، باستثناء هوية الطائرات وعددها، ما هو لب المسألة.
إذا العاجل محمل بالمجاهيل، فليس مهمة الخبر أن يأتي باليقين، بل بالشكوك الانشطارية ما تتمظهر كبدهيات. فالطائرات المجهولة مثلاً، باتت في الأخبار، مصطلحاً إخبارياً متعارفاً عليه. وما يؤدي إليه هذا اللامعرفة، ما تستدعي ساعتها الاستزادة من المعلومات، وذا ركيزة ولب صناعة الضجة، كما حال المدمن/النواسي، من كان لسان حاله القولة الشهيرة: “دع عنك لومي فإن اللوم إغراء/ وداوني بالتي كانت هي الداء”. ومن هذا فإن صناعة الضجة، طباقها التحفيز والإثارة، ومرفوعها الجهل.
بنك المعلومات مصاب بالسرطان، ما يستفحل وينتشر عبر الزيادات المفتعلة. فالمعلومات تتوالد بسرعة، وتترابط بسهولة، وينشرها المستخدمون وينفوذون إليها، بسهولة وفي أي مكان. وفي هكذا حال ترتع صناعة الضجة، فيزداد نهمها، فتسمن وتتضخم حتى الترهل. وكما كائن أسطوري في فيلم هوليوودي، ما يكون واقعياً أكثر من الواقع. الخبر المفبرك يكون الشمس الساطعة، ويغدو ما يأتي بالمجاهيل، المعلوم المطلق، ما لا يأتيه الباطل.
لصناعة الجهل غير صناعة الضجة حقائق ملموسة، ومنها الترويج للحيادية المطلقة، عند استقاء الخبر وبثه. فالخبر كما الله لم يلد ولم يولد، وهذه الأيديولوجيا تموه نفسها- كما اشتراكية الستاليين اللينيين- بالعلمية، فأصحاب الخبر يلبسون لبوس الديمقراطية، وبالتالي فإن خبرهم منزه من الغرض، وإن كان الحق المبين. فاليوم تستعر حرب المعلومات، ويدس في الخبر الغرض، فتتم المناورات العسكرية الكبرى في شاشات التلفزيون، وعبر كل وسائل الميديا والسوشيال ميديا، كما تتم الحروب السيبرانية، كما حروب سرية، تقوم بها تنظيمات تحت الأرض أو مرتزقة شركات خاصة.
مهمة حرب المعلومات هذه، تحقيق مكتسبات: أن يجرح العدو من دون دماء، أو أن يموت بالسكتة القلبية، ولتحقيق هذه المهمة، تكون صناعة الضجة القلب، وصناعة الجهل الدماغ. وللتوضيح يمكن استخدام اصطلاح البوز “BUZZ”، ما يوضحه عبد الرحيم العطري، في مقالة التمشهدية الخائبة: “لكي نفهم البوز، كظاهرة سوسيوتقنية، لا بأس أن نعود إلى شرطها اللغوي الأولي، الذي يدل على الصوت ما يحدثه طيران الذباب. فتلك الحركات اللانهائية، التي يمارسها الذباب، تختزل معنى البوز في ميدان الدعاية والإعلان. حيث يغدو الأمر متصلاً بحديث متكرر حول منتوج معين، بغرض التحفيز على استهلاكه والإقبال عليه”.
طنين الذباب هذا البوز، ما لاحقني هذه الأسابيع مع كل نشرة أخبار تبدأ الخبر العاجل من أوكرانيا، ثم تنتهي بالعود الأبدي لـ”داعش”، بعد أن تعرج على كورونا، والتظاهرات في دول الغرب وأميركا ضد اللقاح، ما نسيه زعماؤهم مع ظهور متحول بوتين.
نقلاً عن أندبندنت عربية