تجاهل الغرب صوته القائل “إن الحلف الأطلسي جثة من الحرب الباردة لا معنى له ولا يستطيع محاربة الإرهاب”
رفيق خوري
فعلها فلاديمير بوتين على الرغم من كل التحذيرات له وكل الحوارات معه. بداية حرب بالتقسيط على أوكرانيا. فعلها من قبل في جورجيا بالغزو وسلخ عنها منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الاعتراف بكل منهما كجمهورية شعبية مستقلة.
وفعلها عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، والآن يعترف بكل من منطقة لوغانسك ومنطقة دونيتسك في الدونباس الأوكرانية كجمهوريتين شعبيتين مستقلتين. هو أعاد أوروبا إلى ما قبل “معاهدة وستنفاليا” التي أنهت حرب الثلاثين سنة ورسمت خطوط سيادة الدولة في القرن السابع عشر.
والغرب يتحدث عن القانون الدولي وخرق “اتفاق مينسك” الذي وقعت عليه روسيا. رؤساء أميركا وأوروبا حاوروا بوتين وأصروا على المقاربة الدبلوماسية مع التحذير من العقوبات في حال الغزو. وبوتين استخدم “دبلوماسية الدبابات”، وهو وهم لا يزالون يتحدثون عن الدبلوماسية. هو أدرك أن “الدبلوماسية بلا قوة مثل الموسيقى بلا آلات” كما قال فريديريك الكبير.
وهم يعرفون ذلك، لكنهم أعلنوا سلفاً أنهم لن يواجهوا الغزو بالقوة متصورين أن العقوبات بديل كافٍ من القوة، ونوع آخر من القوة.
أكثر من ذلك، فإن بوتين يخترع تاريخاً على مزاجه. لا بلد اسمه أوكرانيا، في خطابه، مجرد جزء من روسيا. زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين هو الذي “صنع أوكرانيا”، وهي “مهد” الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
قبل سنوات أعلن بوتين الذي يسميه الخبير ديمتري سايمز “بطرس الأكبر المعاصر” أن دوره هو “تحقيق المهمة التاريخية لروسيا كمركز للفضاء الأوراسي”. وهذا ما حاول الغرب تجاهله والقفز من فوقه على أمل جذب روسيا إلى “الفضاء الأوروبي”. لم يرد الغرب أن يصدق أن روسيا القيصرية ثم الشيوعية ثم البوتينية هي القطب المواجه لأوروبا، هي “القدس الثانية” و”روما الثالثة”.
تجاهل الغرب صوت بوتين القائل “إن الحلف الأطلسي جثة من الحرب الباردة لا معنى له ولا يستطيع محاربة الإرهاب”. تجاهل قوله في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007 “أميركا تميل إلى عالم وحيد القطب بمركز واحد للسلطة والقوة والقرار، وهذا غير مقبول، ولا ممكن”.
ولم يصغِ إليه وهو يقول “نريد أن يكون الروس والأميركيون شركاء، لكننا نشعر أن أميركا تعاملنا كضيف غير مدعو إلى مأدبة”. وها هو ذا يتحدى الغرب. يقيم تحالفاً استراتيجياً مع الصين، ضمن طموح الطرفين لتشكيل نظام عالمي جديد على أنقاض النظام العالمي الذي صنعته أميركا، وبالتالي أن تلعب روسيا دور الشريك المضارب والقوي بالشريك الصيني الذي يدعو أميركا إلى الشراكة كفريق ضعيف وأوروبا كضيف”.
لم يعد يطالب بإلغاء حلف “الناتو” بعدما ألغي “حلف وارسو” بل بمنع مده إلى حدود روسيا وسحب الأسلحة الأميركية من البلدان التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي أو المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية وانضمت إلى “الناتو”.
بوتين تورط ضمن حساباته متصوراً أنه يستطيع تحمل العقوبات. ولا بد له من إكمال الغزو عسكرياً أو الحصول على مكاسب الغزو من دون القيام به.
لكن أميركا في ورطة أكبر. لا تريد استخدام القوة، ولا تجهل أن الصين قادرة على مساعدة روسيا في مواجهة العقوبات، ولا تملك ترف التوجه بالكامل إلى الشرق الأقصى ومنطقة المحيطين الهندي والهادي لمواجهة الصين وروسيا من دون التورط في أوروبا والشرق الأوسط خلافاً لحساباتها الاستراتيجية الجديدة.
فأي أزمة في أوروبا أو الشرق الأوسط تهز العالم كله. ولا مهرب لإدارة بوتين من مواجهة النفوذ الصيني والروسي في أوروبا والشرق الأوسط إلى جانب المواجهة الأكبر في الشرق الأقصى.
اليوم الدوتياس. وغداً أبعد. واليوم وغداً يؤكد بوتين عبر ممارسة القوة نظرية مستشار الأمن القومي الأميركي سابقاً المتطرف جون بولتون “القانون الدولي في الأزمات بين الكبار هو خدعة أكاديمية”. “قيصر” ماكر في مواجهة رؤساء إداريين.
نقلاً عن أندبندنت عربية