طوع المادة الدستورية بشكل يسمح له بالتمديد أو بإعادة الانتخاب طالما أنه على قيد الحياة
فيديل سبيتي
يصف السياسيون والمحللون السياسيون والاستراتيجيون والجميع في كل أنحاء العالم، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يعمل على استعادة “أمجاد القيصر الروسي”. وهم حازمون جازمون في هذه النقطة منذ توليه السلطة وتبادله رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة مع حليفه دميتري ميدفيديف مرة لهذا ومرة لذاك، قبل أن يعدل الدستور بعد موافقة مجلس الدوما، لتمتد فترة حكمه إلى الأبد تقريباً. فقد طوع المادة الدستورية بشكل يسمح له بالتمديد أو بإعادة الانتخاب طالما أنه على قيد الحياة. وهكذا فعل الرئيس الصيني شي. لكن ما لا يتفق عليه هؤلاء المعلقون والسياسيون الذين يحاولون فهم أطماع الرئيس الروسي في أوكرانيا أو في غيرها من دول أوروبا الشرقية، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي أو في دول أخرى كسوريا وليبيا، هو: هل يريد بوتين استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي وقيصرة ستالين؟ أم يريد العودة إلى ما قبل هذا التاريخ أي إلى القيصرية الروسية التي انقلب عليها الشيوعيون لإنشاء الاتحاد السوفياتي، خوفاً من تفتت هذه الإمبراطورية بعد الحرب الأولى، كما حدث مع سائر الإمبراطوريات الأوروبية كالنمساوية والألمانية؟
القيصر الإمبراطوري والكنيسة
ساسة ومحللون كثر يتهمون الرئيس الروسي بأنه يريد استعادة “الأمجاد السوفياتية” وآخرون يقولون إنه يريد استعادة “الأمجاد القيصرية الروسية” وليس السوفياتية. الفئة الأخيرة على حق أو صواب أكثر من أصحاب الرأي الآخر بحسب متابعين للشأن الروسي، إذ إن مراقبة ما يقوم به فلاديمير بوتين في داخل روسيا نفسها، تؤشر على أنه يريد “بعث القيصرية الروسية القديمة”. وما يقوم به في الخارج ليس تمدداً سوفياتياً بقدر ما هو تمدد قيصري، ولكن كيف؟
ومنذ وصول بوتين إلى السلطة صاعداً من الاستخبارات السوفياتية (ك ج ب) بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومن ثم خوضه حرب الشيشان التي جعلته الزعيم الروسي الأوحد حين استطاع توحيد الجيش وتوحيد الشعب الروسي حوله، كان يبحث عن حليف قوي في الداخل الروسي، ووجد أن هذا الحليف هو الكنيسة الروسية، التي على الرغم من قمعها بقسوة في ظل النظام الشيوعي استفاقت من سباتها بقوة بعد سقوطه، وتمكنت من العودة إلى حياة الروس بشكل أكبر مما كانت عليه قبل الشيوعية. فقد كانت فئات كبيرة من الروس تنتظر عودة الكنيسة والروح الإيمانية القديمة بعد طول منع وقمع من النظام السوفياتي الستاليني.
هكذا حقق بوتين مجده الشخصي بعد جمع طرفي النقيض إلى جانبه، الجيش والاستخبارات وسائر الأجهزة العسكرية ومنها شركات صناعة الأسلحة، ومن جهة ثانية الكنيسة التي تملك مساحات هائلة من الأراضي الروسية وأموالاً مكنتها من استعادة الكنائس وبناء غيرها، واستعادة المؤمنين الكثر. وأعاد بوتين أمجاد الجنود القوزاق وهم جنود القيصر الروسي من الفلاحين ويأتمرون بأوامر الكنيسة أيضاً، فعمم ملابسهم القديمة في أماكن عملهم وفي ثكناتهم، وافتتح مدارس عسكرية تعلم الضباط القوازق على عادات وتقاليد أجدادهم من الجنود. وأعطى في الوقت عينه سلطات كبيرة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في بناء الكنائس والمؤسسات الكنسية التابعة لها، ومنحها دوراً في دعم الرئيس حين انتخابه، وكأنه يمنحها دورها القديم الذي كان لها. وبهذه الطريقة يكون بوتين قد عمل بشكل حثيث على رص صفوف حلفائه في الداخل، مانعاً وقامعاً المعارضين الذين قُتل منهم الكثير اغتيالاً وتسميماً، وموسعاً حروبه إلى الخارج لاستكمال رص الصفوف، مفترضاً أن طموحاته التوسعية ووقوف روسيا في وجه الغرب لتحقيقها يعيدان الصراع بين الشرق والغرب إلى غابر عهده، وبالتالي يعيد أمجاد روسيا كقطب عالمي، بعدما تحول العالم إلى سيطرة القطب الأميركي عقب انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي والشيوعية.
تولستوي وبوتين و”الحرب والسلام”
وكتب روبرت زاريتسكي أستاذ التاريخ في جامعة هيوستن، في بحثه الذي يحاول فيه الإجابة عن السؤال التالي “لو كان صاحب رواية الحرب والسلام ليو تولستوي على قيد الحياة، ما هو رأيه بما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه الفترة؟”. برأي زاريتسكي أن رواية “الحرب والسلام” لتولستوي لا مثيل لها في تصوير ما نسميه الآن “ضباب الحرب”، أو طبيعة المعركة “الغريبة والغامضة والقاتمة”. لكنها أيضاً لا مثيل لها في محاولتها الإجابة عن السؤال الرئيس الذي طرحه تولستوي “ما الذي أنتج هذا الحدث الاستثنائي؟”. وإجابته هي “بالتأكيد ليس رجال التاريخ العظماء” الذين يُنسب إليهم قيادة الأحداث العالمية.
ويعتقد زاريتسكي أن بوتين لا بد من أنه استمتع بقراءة رواية تولستوي، ولكنه لم يصل إلى خاتمتها لأنه لم يتعلم الدروس التي تعطيها، بل إن جل ما تعلمه بوتين من هذه الرواية أنه “رجل عظيم”، وأن أي حرب برية جديدة في أوروبا سيكون هو قائدها. وبرأي المحللة الروسية تاتيانا ستانوفايا، فإن “إحساس بوتين بالتفوق الممزوج بالغطرسة يمنحه شعوراً بالقدرة على استخدام القوة”، وهو من نوع القياصرة الذين يعتقدون أنه “يقع على عاتقهم تغيير مجرى التاريخ”.
لكن تولستوي في وصفه الأفكار الداخلية للإمبراطور الفرنسي كتب يقول “بدا لنابليون أكثر من أي وقت مضى أن قرار إراقة دماء شعوبه أو عدمه يعود له شخصياً، وأن الناس لا يمكنها الاستغناء عن هذا القرار مهما كان”. وهذا ما يحاول الباحث الروسي أن يصف به بوتين تماماً، أي القدرة على اتخاذ قرار الحرب على أساس أنه مطلب مدعوم من الشعب، وأنه قرار لا مفر منه لصالح روسيا.
ورفض تولستوي نظرية الرجل العظيم في التاريخ، التي تفترض أن المحرك الرئيس لأحداث العالم هو “القوة الكامنة في الأبطال والحكام”. وبرأيه أن هذا النهج خادع “إن ما يسمى بالرجال العظماء عبارة عن تسميات تعطي الحدث اسماً. بينما يكون هذا الرجل العظيم أقل ارتباطاً من بين الجميع بالحدث نفسه”. وفي مكان آخر يؤكد تولستوي نظرته بأن من يُطلق عليهم صفة عظماء هم “أدوات لا إرادية للتاريخ، ويؤدون عملاً جللاً وعظيماً لأمتهم. وهذا العمل تحديداً هو ما يبدو غير مفهوم للآخرين”. وهذا ما ينطبق تماماً على ما يجري في أوكرانيا اليوم، فالعالم لم يستوعب بعد إذا ما كان غزو الجيش الروسي مناطق أوكرانية متعادلاً في قيمته ونتائجه مع الهدف منه. أي على طريقة طرح سؤال “هل يحتاج الأمر إلى كل هذا الضجيج؟”.
الحنين إلى الإمبراطوريات
في تحقيق أجراه فريق مجلة “فورين بوليسي”، يشرح السبب الذي يدفع ما تبقى من الإمبراطوريات بعد سقوطها إلى استعادة أمجادها وليس أراضيها بالتحديد. وحسب البحث فإن “الإمبراطوريات تنتهي بعد فقدان أراضيها، ما يؤدي إلى ظهور النوى الإمبراطورية من الحطام مع الحد الأدنى من الروابط الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية مع الدول المستجدة في أراضي الإمبراطورية السابقة. العثمانيون مثال جيد. بدأت خسائرهم بفشل حصار فيينا في عام 1683، وانتهت تقريباً مع بداية الحرب العالمية الأولى. ظهر جوهر الإمبراطورية في تركيا في عام 1919، وكان همها الأساسي ليس استعادة الأراضي الإمبراطورية التي فقدتها قبل 300 عام تقريباً، ولكن تأكيد استقلالها والتعامل مع الأقليات اليونانية والأرمينية داخل حدودها”.
أما في روسيا فقد انهار إنشاء بطرس الأكبر الإمبراطورية الروسية في الفترة من 1918 إلى 1921، وهذه فترة الذروة في توسعها الإقليمي. لكن على الرغم من الانهيار القيصري، فإن الروابط الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية بين روسيا البلشفية والمستعمرات السابقة كانت لا تزال قوية. وشعر البلاشفة بأنهم مضطرون إلى الشروع في حملة إعادة الأمجاد الإمبراطورية، التي بلغت ذروتها في نهاية المطاف في تشكيل الاتحاد السوفياتي عام 1922.
لو عدنا إلى ضم بوتين لشبه جزيرة القرم والحرب في شرق أوكرانيا، نجد أن لا علاقة لهما بالمصالح الروسية الثابتة، لكن أراد بوتين أن يجعل روسيا عظيمة مرة أخرى، وكان مرتاباً من حلف شمال الأطلسي والغرب. لكنه رأى أكثر من ذلك أن ثورة الأوكرانيين البرتقالية قد أضعفت السد الأوكراني في وجه زحف الغرب، فكراً واقتصاداً وثقافة وديمقراطية، ما يهدد حكمه. فتضافرت الأيديولوجية الإمبراطورية، وضعف أوكرانيا الواقعة بين فكي الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، وثورة الأوكرانيين من أجل الديمقراطية، والأطماع الروسية والأوهام التوسعية والخوف والشعور بالضعف من التغيير الذي قد يزحف عبر الحدود، لجعل الغزو أكثر احتمالاً، إن لم يكن حتمياً. وهذا ما شاهدنا بعض فصوله الأولى قبل يومين.
الباحث السياسي ألكسندر ج. موتيل أستاذ العلوم السياسية في جامعة “روتجز”، كتب لمجلة “فورين بوليسي” قبل الغزو الحالي، بأن لبوتين طموحات جيوسياسية كبيرة، تمتد على طول الطريق إلى أفريقيا والشرق الأوسط – بينما يتخلف اقتصاده كثيراً عن الركب. لا يمكن أن يستمر هذا التجاوز الإمبراطوري لفترة طويلة. في مرحلة ما في المستقبل غير البعيد، ستشبه التزامات سياسته الخارجية التزامات الاتحاد السوفياتي بقيادة ليونيد بريجنيف، وسيصبح الانسحاب المنظم أو غير المنظم أمراً ضرورياً. وبرأيه، لا يقل أهمية عن ذلك أن بوتين بنى دولة شبه فاشية مفرطة في المركزية وفاسدة وغير قادرة على التحديث ولا تجيد سوى القمع. وبما أنه محور تلك الدولة، فإن مغادرته ستكشف عن نقاط ضعفها الداخلية. ولهذه الأسباب نفسها، فإن تحويل روسيا إلى “إمبراطورية استبدادية”، على حد قوله، وهو دور لا يمكنها تحمله. فالإمبراطور موجود لكن شروط الإمبراطورية لا يتوفر منها أي من أسبابها عدا “القوة العارية”.
المصدر أندبندنت عربية