محمد أبوالفضل
الفضائيات العربية تعاملت مع ما يجري في أوكرانيا بأسلوب تبسيطي يقوم على نقل التفاصيل بشكل متشابه ومكرر ودون تقديم تفسيرات وتحاليل عميقة للصراع مع روسيا، وهو ما يدفع المشاهد إلى الملل والبحث عن تفسيرات مواقع التواصل التي هي أقرب إلى الانطباع والمواقف المسبقة.
كل من تابع طريقة تناول القنوات الفضائية الناطقة بالعربية التي انخرطت في تطورات الغزو الروسي لأوكرانيا بدءا من فجر الخميس لاحظ كمية كبيرة من تدفق الأخبار التي ترصد الحدث في أماكن مختلفة. ووفرت بعض المحطات شبكة كبيرة من المراسلين، تفاوتت قدرات كل منها بما كشف درجة استعداد كل منها.
وجدت هذه المحطات في الغزو فرصة لاستعراض إمكانياتها الفنية ومواهب مراسليها وتأكيد حضورهم الإعلامي، وبدا الموقف سباقا غير معلن بين عدد من القنوات، تمثلت مظاهره في النوافذ التي تظهر على الشاشة وبها مراسلون من روسيا وأوكرانيا وغيرهما، ووصل الأمر إلى أن أطل من إحدى القنوات سبعة مراسلين في وقت واحد انتشروا في أماكن حيوية وتولى كل منهم تقديم الوصف التفصيلي للتطورات على الأرض، كأنه يصف مباراة في كرة القدم.
بذلت كل محطة جهدا من مقرها لمتابعة الحدث نفسه من خلال استضافة عدد من الضيوف، من الخبراء والمحللين والسياسيين والدبلوماسيين، تناولوا التطورات أيضا بشرح أقرب إلى الوصف، وحاول البعض تقديم تصورات مختلفة نوعا ما، كلها استغرقت الوقت في التطرق للتفاصيل الدقيقة لما يجري على الأرض للمشاهد.
الاستغراق في التفاصيل في مثل هذه الأحداث وغياب التفسير والتحليل وإلقاء الضوء على قضايا الحرب يعني ضياع الوقت
تستوجب طبيعة العمل الإعلامي متابعة سريعة للتطورات، ففي ظل السباق بين المحطات الناطقة بالعربية ودخول منصات التواصل الاجتماعي مجال المنافسة في هذه الحرب، تحاول كل منها أن تجد لنفسها موطئ قدم لجذب شريحة كبيرة من المشاهدين، وتصوير ما تقدمه على أنه أفضل تغطية ممكنة من خلال التركيز على زيادة عدد النوافذ على الشاشة، حتى ولو كانت صامتة وتبدو الكاميرا مصوبة نحو لقطة واحدة لا تتغير لفترة طويلة.
قامت إحدى المحطات ذات الإمكانيات المتواضعة بالاعتماد على صور متعددة من وكالات الأنباء وثبتت نحو ست من النوافذ الصامتة للإيحاء بأنها متواجدة على الأرض، وحاولت أن تروج لمشاهديها أنها قادرة على المنافسة مع المحطات الكبرى، وهي مسألة من السهولة اكتشافها عندما يضغط المشاهد على جهاز التحكم لتغيير المحطة ويرى أخرى بها سبعة نوافذ يطل من كل منها مراسل أو مراسلة من الميدان.
تمثل الحروب والصراعات والنزاعات الساخنة موسم رواج للقنوات الفضائية الناطقة بالعربية، فقد جاء إنطلاق الكثير منها مع اندلاع حربي العراق الأولى والثانية، عامي 1991 و2003، ثم توالى الانتشار بدرجات متفاوتة في المنطقة العربية مع كثافة الأزمات بها، وتبرز الأهمية من مضمون الأجندة السياسية التي تحملها كل محطة، حيث تعبر عن وجهة نظر الجهة الراعية حتى لو حاولت التظاهر بالحياد والموضوعية أو أنها تقدم خدمة إعلامية دسمة خالية من الأغراض السياسية.
استهلكت الكثير من المحطات العربية جانبا من وقتها في تغطية تفاصيل الغزو الروسي لأوكرانيا، بدءا من التطورات الميدانية وحتى ردود الأفعال في العواصم التي لها علاقة بها، مثل واشنطن وبرلين وباريس ولندن، فقد كان هناك حرص واضح على زيادة النوافذ في ظل وجود قناعة بأنه كلما زاد العدد زاد الكيف أيضا.
لم تنظر هذه المحطات بدقة إلى ما يهم المشاهد العربي وتجاهلت أن كثرة التفاصيل ينسي بعضُها بعضا ويصيبه بالملل بعد فترة قصيرة عندما يجد نفسه يدور في حلقات مفرغة بين صاروخ سقط على منطقة في خاركيف ودبابة على مشارف كييف، وبين إعلان أوكرانيا أنها أسقطت طائرة سوخوي 35 أو أسرت عددا من الجنود الروس.
لا أحد يستغني عن التفاصيل في مثل هذه الأحداث الكبيرة عندما تكون هناك ضرورة، لكن الاستغراق فيها إلى الدرجة التي يغيب معها التفسير والتحليل وإلقاء الضوء على القضايا الجوهرية في الحرب فهذا يعني ضياع المزيد من الوقت.
اهتمام دولي بالحرب
فلا يوجد المشاهد العربي الذي يستطيع أن يتسمر أمام الشاشة لفترة طويلة، وهو يملك جهاز موبايل يساعده على أن ينقل له نبض الكثير من تفاصيل الشوارع والميادين والبيوت ومواجع الناس في بقع كثيرة من البلد الذي يقع فيه الصراع.
دشنت حرب أوكرانيا الدور الريادي الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي، والتي دخلت مجال المنافسة من بابها الواسع بقدرتها على نقل الكثير من الأحداث أسرع من القنوات الفضائية، ورأينا بعض المراسلين الذين يطلون من النوافذ المتباينة على الشاشة وهم ينقلون التفاصيل عن المنصات من أجهزة الموبايل التي يقبضون عليها في أياديهم وهم على الهواء مباشرة.
كشفت هذه الوقائع المتكررة عن تحويل المحطات الفضائية إلى أشبه برهينة لمنصات التواصل الاجتماعي، لذلك كانت الإضافة النوعية التي يمكن أن تقدمها القنوات وتتفوق فيها على مواقع التواصل هي التركيز على معالجة الغزو بعمق والتوقف عند الملفات الجوهرية والأسئلة الكبيرة التي فجرها.
لا يهم المشاهد كثيرا أن يطل عليه المراسل/ المراسلة بتكرار ما سبق أن تم اجتراره في نشرة سابقة وإعادة التفاصيل التي لا تحوي سوى القليل من الأحداث الجديدة، فالعبرة ليست في كم التفاصيل التي يسردها أو حجم الأماكن التي زارها أو نوع الخسائر التي رصدها، لكن بما يحوي كل ذلك من تحليل يفسر ما جرى.
طبيعة العمل الإعلامي تستوجب متابعة سريعة للتطورات، ففي ظل السباق بين المحطات الناطقة بالعربية ودخول منصات التواصل الاجتماعي مجال المنافسة في هذه الحرب، تحاول كل منها أن تجد لنفسها موطئ قدم لجذب شريحة كبيرة من المشاهدين
غاب التفسير العميق عن الكثير من المحطات العربية بشأن جوهر الأزمة، فهناك خلفيات كانت بحاجة إلى مهارات خاصة من المراسلين والمحللين ويتولون التطرق إلى الموضوعات المركزية في الأزمة بما يتجاوز الحدود المعلنة عنها، فالمشاهد العربي مثلا لا يعلم شيئا عن العلاقة الثقافية بين روسيا وأوكرانيا، والتباين الحاصل بين النخب في البلدين، وشكل النظام السياسي في كليهما والقوى المؤثرة فيه، ناهيك عن خارطة العالم بعد الغزو، بما يتجاوز حدود التناول بطريقة هامشية.
يمثل الغوص في القضايا الكبرى بمختلف أنواعها مع ربطها بالتطورات أهمية للمشاهد العربي الباحث عن المعرفة، فلم تعد ثقافة “التيك أواي” كافية لشريحة كبيرة من الجمهور الذي يريد فهم المكونات الحقيقية للصراع وأبعادها وتداعياتها.
ربما تكون الأزمة نفسها أسهمت بدور مهم في هذا القصور، فلا يوجد في المنطقة العربية العدد الكافي من المحللين القادرين على التعاطي معها بعمق وموضوعية، كما أن حاجز اللغة أسهم بدور آخر في فضح هذا العجز، وهو ما جعل الكثير من المحطات تلجأ إلى الكم وتتجاهل النوع.
إذا كانت الحرب في أوكرانيا يمكن فهم دواعي قصور التحليل فيها، وهو عذر يمكن أن تتغلب عليه المحطات ذات الإمكانيات الهائلة في الترجمة، فإن تكرار الوضع في الأزمات العربية ذاتها يؤكد أن المسألة بعيدة عن الوفرة المادية، إنما هي مهنية وسياسة وجبلت عليها بعض المحطات التي ارتضت أن تجري وراء التفاصيل لأجل “الشو” الإعلامي وإبهار المشاهدين أنها تستطيع الوصول إلى أبعد نقطة في أي أزمة.
المصدر العرب اللندنية