كريتر نت – متابعات
ألقى الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بحجر كبير في مياه تسييس الرياضة عندما اتخذ موقفا سلبيا من روسيا وأنديتها على ضوء أزمة التدخل العسكري في أوكرانيا، وناقض منهجه في المناداة بعدم إقحام السياسة وهو يعلم أنه جرى خرقه وإذا تم تطبيق المعايير التي تنطوي على هذا المنهج يمكن أن تُحرم دول عديدة من ممارسة اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وهي كرة القدم التي أصبحت معشوقة الحكام والشعوب.
لندن – من يعلمون الطريقة التي تدار بها القضايا الكبرى في العالم لم يستغربوا موقف الكثير من الاتحادات الرياضية الدولية وتوقعوا حدوث مفارقات مختلفة وأن تتجلى الازدواجية في صورها القاتمة، لأن الحرب الروسية في أوكرانيا مست كبرياء دول غربية عدة ودخلت بورصة مزايدات تلاشت فيها الحدود بين السياسة والرياضة.
وقرر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) في بيان مشترك الاثنين إيقاف منتخب وأندية روسيا من جميع المنافسات الدولية التي ينظمها الاتحادان إلى حين إشعار آخر بسبب الأزمة الراهنة بين موسكو وكييف، وهو ما عارضه الاتحاد الروسي لكرة القدم واعتبره متناقضا مع “روح الرياضة”.
وظل فيفا يحرص دوما على الفصل بين الجانبين ويلوح بفرض عقوبات قاسية على الدول التي يشعر أن حكامها يستثمرون في الرياضة أو يفكرون في ذلك إعمالا بالمنهج الذي صكه مبكرا ويتخذ موقفا صارما من العنصرية وملحقاتها في الملاعب الدولية.
نبذ العنصرية ودعم المثلية
أصبحت مباريات كرة القدم التي تجرى في بعض الملاعب الأوروبية تبدأ بنبذ العنصرية من خلال جلوس اللاعبين واستنادهم على الركبة، وهو ليس كنوع من التأكيد على رفضها في الملاعب أكثر من كونه انتهازية جديدة في الاستفادة من اللاعبين المهاريين من ذوي البشرة السمراء الذين ملأوا ملاعب أوروبا.
ودعمت رابطة الدوري الإنجليزي لكرة القدم ركوع اللاعبين قبل أو خلال المباريات كعلامة تضامن رمزية، وحلت عبارة “حياة السود تهم” بدلا من أسماء اللاعبين في 12 مباراة عقب استئناف الدوري الإنجليزي بعد إجازة كورونا في يونيو 2020.
وتم إرساء هذه القاعدة في كرة القدم في الولايات المتحدة عام 2017 مباشرة بعدما قامت نجمة المنتخب ميغان رابينو بالركوع على ركبة واحدة في مباراة عام 2016 تضامنا مع مواطنها كولن كابرنيك اللاعب السابق لنادي سان فرانسيسكو لكرة القدم الذي ركع على ركبة واحدة خلال النشيد الوطني لدعوة بلاده لحماية حقوق الأميركيين (السود) من عنف الشرطة.
وأصبح الركوع على ركبة واحدة علامة تضامن عادت إلى الواجهة في الاحتجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة في أواخر عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بعد حادثة مقتل المواطن الأسود جورج فلويد في الخامس والعشرين من مايو 2020 على يد شرطي أبيض وضع ركبته على عنقه ولم يعبأ بعدم قدرته على التقاط أنفاسه.
لكن إذا تعارض التوجه ضد العنصرية مع مصالح الغرب تذهب العنصرية إلى الجحيم، وتحضر السياسة بكل صورها التي لم تكن بعيدة أبدا عن الرياضة من زمن طويل وزاد التداخل بينهما في ظل الإنفاقات الباهظة التي تصرف على الألعاب المختلفة حتى وصلت إلى أرقام فلكية، فالمتعة لم تكن مجردة يوما ما، وإن لم تكن الأدلة مباشرة على التسييس فقد يأتي ضمنيا في مظاهر متباينة.
وينطبق الحال أيضا على مسألة دعم المثلية التي باتت ظاهرة في بعض الملاعب الأوروبية من خلال وضع شعارها على أذرع اللاعبين، وهي لا تخلو من توجهات سياسية ولو جرى تغليفها بغطاء إنساني جذاب، حيث تعبر عن معان وتصورات لها علاقة بسيادة أنماط معينة من العلاقات البشرية وتخدم في النهاية فكرة التسييس المرفوضة من جانب الكثير من الاتحادات الرياضية.
النزاهة والطعن فيها
جاء سباق الاتحادات الدولية لمعاقبة روسيا في خضم سباق آخر لتطويقها، اقتصاديا وعسكريا، الأمر الذي جعل السياسة حاضرة بكل معانيها في ما تم الإقدام عليه من عقوبات رياضية، بدت مكملة لتقويض دور روسيا على الساحة الدولية.
وأوصى المجلس التنفيذي للجنة الأولمبية الدولية الاثنين الاتحادات الرياضية في العالم بمنع مشاركة الرياضيين والمسؤولين من روسيا وروسيا البيضاء في المنافسات “بهدف حماية النزاهة بالمسابقات الرياضية العالمية وسلامة جميع المشاركين”، كأن هذه اللجنة أو غيرها مكتملة النزاهة، في حين لم ينس العالم بعد فضائح الفساد التي ضربت هياكل فيفا ويويفا قبل سنوات وأدت إلى طرد عدد من المسؤولين فيهما.
وأكدت موسكو أنها متمسكة بحقها في الطعن في القرار وفقا للقوانين الرياضية الدولية، لأن الخطوة تحمل تمييزا واضحا ويضر بعدد هائل من الرياضيين والمدربين ومسؤولي الأندية والمنتخبات، والملايين من الروس والجماهير الأجنبية التي يجب أن تحمي المؤسسات الرياضية الدولية مصالحها في المقام الأول.
وكان من المقرر أن تستضيف روسيا منتخب بولندا في ملحق تصفيات كأس العالم في الرابع والعشرين من مارس الحالي، والتي سوف تقام في قطر قبل نهاية العام الجاري، ما يعني أن الأولى لن تستطيع خوض هذه المباراة إذا استمرت الأزمة، ولن يتمكن منتخب السيدات الروسي من المشاركة في كأس أوروبا المقررة في إنجلترا في يوليو المقبل.
واجتاح التسييس الاتحادات الخاصة بالدول، إذ أعلن الاتحاد البولندي لكرة القدم أنه يرفض اللعب أمام روسيا، واستبعدت أيضا جمهورية التشيك والسويد اللعب مع روسيا في الملحق المؤهل لكأس العالم، ويمكن أن تزداد العدوى الغربية للإيحاء بأن روسيا أصبحت دولة منبوذة في كل المجالات.
ويشير قرار يويفا إلى إلغاء مواجهة سبارتاك موسكو ورازن بال شبورت لايبزيغ في دور 16 بالدوري الأوروبي ليتأهل الفريق الألماني (لايبزيغ) إلى دور الثمانية.
ورحبت دوائر سياسية عدة في الدول الغربية بقرار الفيفا واليويفا، وأعرب مثلا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن دعمه لهذه الخطوة، قائلا “إنها رسالة قوية من المجتمع الرياضي الدولي تؤكد أننا لن نتساهل”، وهكذا بدأت عملية التسييس تتسع دوائرها بما يفقد كرة القدم تحديدا جانبا من حيادها الذي ظل البعض ينادون به.
ويقول مراقبون إن هناك إمكانية لاستمرار روسيا في اللعب على أرض محايدة تحت مسمى “الاتحاد الروسي لكرة القدم”، وهي طريقة معمول بها في حالة استبعاد بعض اللاعبين لدواع معينة كنوع من الحرص على مستقبل الرياضة، لكن الموقف بالنسبة إلى موسكو يبدو بعيدا عن هذا الاتجاه، لأن القضية سياسية بامتياز هذه المرة.
وكشفت اللجنة الأولمبية الدولية أنه من الممكن قبول الرياضيين أو الفرق من روسيا أو روسيا البيضاء فقط بصفة رياضيين محايدين أو فرق محايدة دون استخدام رموز أو ألوان أو أعلام أو أناشيد، في إشارة واضحة تسقط الصفة الوطنية عن هؤلاء.
رياضة واقتصاد أيضا
تداخلت السياسة بصورة سريعة مع الاقتصاد في الأزمة الأوكرانية، وألغى اليويفا شراكته مع شركة الغاز الروسية “غازبروم” في جميع مسابقات كرة القدم.
وبدأت الشراكة بين الطرفين منذ 2012 وشملت رعاية دوري أبطال أوروبا ومسابقات الأندية الأوروبية وبطولة أوروبا المقبلة (2024) التي سوف تستضيفها ألمانيا، وتقدر قيمة الرعاية بنحو 40 مليون يورو في الموسم.
أضف إلى ذلك أن الاتحاد الدولي للجودو أوقف الرئاسة الشرفية التي منحت من قبل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين كنوع من الاحتجاج على العمليات العسكرية التي تقوم بها بلاده في أوكرانيا.
كما جرّد الاتحاد الدولي للتايكوندو الرئيس بوتين من الحزام الأسود الشرفي المقدم له في نوفمبر 2013 بسبب التدخل العسكري، والذي يرفع شعار “السلام أغلى من الانتصار”، قائلا “الهجمات الهمجية على أرواح الأبرياء خالفت قيم الرياضة المرتبطة بالاحترام والتسامح”.
الخطورة تكمن في تحول ظاهرة تسييس الرياضة إلى حالة عالمية سعى كثيرون لمداراتها أو الكشف عنها على استحياء
وتعيد الفورة الحالية إلى الأذهان سلسلة كبيرة من المواقف التي تشابكت الرياضة فيها مع السياسة على نطاق كبير، وكادت أن تؤدي إلى أزمات ساخنة، لأن الطريقة التي استخدمت بها شهدت شدا وجذبا بين أطراف عدة انطلاقا من المواقف السياسية.
وقد دعت الولايات المتحدة الدول الأوروبية إلى مقاطعة الألعاب الأولمبية في موسكو عام 1980 احتجاجا على التدخل السوفييتي في أفغانستان، وهو ما ردت عليه بعض الدول المحسوبة على موسكو (حوالي 14 دولة) بمقاطعة دورة الألعاب الأولمبية التالية 1984 التي أقيمت في لوس أنجلس بالولايات المتحدة.
وألغيت مباراة ودية بين المنتخبين الأرجنتيني والإسرائيلي في سبتمبر 2018 بعد ضغوط سياسية على الفريق الأول واستفزاز اللاعب ليونيل ميسي، وكان من المقرر أن تقام في مدينة القدس ضمن استعدادات فريق الأرجنتين لمونديال روسيا التي اتهمت من قبل دول غربية باستغلال البطولة في الدعاية السياسية للنظام الحاكم في موسكو.
وتكمن الخطورة في تحول ظاهرة تسييس الرياضة إلى حالة عالمية سعى كثيرون لمداراتها أو الكشف عنها على استحياء، لكن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وما يحمله من ارتدادات متباينة يمكن أن يتحول إلى كرة ثلج قد تأخذ في طريقها مجموعة من المعاني الإنسانية التي حاول الفيفا التشدق بها.
بدأ هذا التحول العلني يُظهر الكثير من السلبيات في الملاعب الأوروبية، حيث تعزف بعض الفرق على نغمة التعاطف بصورة مبالغ فيها مع أوكرانيا ضمن سيمفونية غربية تريد محاصرة روسيا في جميع المجالات، ما يرخي بظلاله على العلاقة بين اللاعبين الذين ينتمون إلى دول مختلفة بعضها يؤيد روسيا والبعض ضدها.
وربما يفضي التدافع الشديد ضد روسيا والمتحالفين معها وصدور قرارات من الاتحادات الدولية إلى فتنة داخلية يحتاج علاجها إلى وقت طويل، بما يضر بألعاب كثيرة في مقدمتها كرة القدم التي أصبحت لدى فيفا الدجاجة التي تبيض له ذهبا.