مصطفى الأنصاري كاتب
تفاعلت دول مجلس التعاون الخليجي مع الأزمة الأوكرانية في وقت مبكر من اندلاعها، إلا أن استقلال المجموعة في مواقفها الجماعية والأحادية في معركة بين حلفائها الغربيين التقليدين، وأضدادهم الروس، أثار تساؤلات عدة حول ما إذا كان الخليج يمكنه أن يبقى على مسافة واحدة بين طرفَي نقيض، وهو الذي تربطه مصالح وتحالفات عميقة الجذور مع قادة الاصطفاف الغربي، أميركا وبريطانيا.
لكن سلوك أميركا نحو المنطقة الذي سبق تأجُّج المعارك في كييف، حمل كثيراً من الإجابات عن تلك التساؤلات، إذ إنه على الرغم من مراجعة واشنطن بعض قراراتها التي يعتبرها خليجيون مجحفة في حقهم، فإن خيبة أملهم تجاه سياسات واشنطن نحو الملف الإيراني بأبعاده النووية والتخريبية في الإقليم، لم تزل حية في الدهاليز الدبلوماسية، إلى درجة دفعت محللين غربيين إلى الاعتقاد أن أزمة أوكرانيا، فرصة قد يستثمرها الخليج في تلقين أميركا درساً يذكرها بأهميته، وإجبار واشنطن على تلبية مطالب دول المجموعة، الدفاعية منها والسياسية، وأخذ مخاوفها على محمل الجد.
إلا أن هذا المنطق من المساومات في المواقف، ليس ما برر به الخليج حياده الصعب في الأزمة، فهو منذ البداية قال إن دوله “تتابع بقلق تطورات الأحداث الجارية في أوكرانيا، وتؤكد تأييدها جميع الجهود الرامية لحل الأزمة من خلال الحوار والدبلوماسية، كما تؤكد دعم دول مجلس التعاون للجهود الدولية المبذولة لتخفيف حدة التوتر والتصعيد والشروع في إجراءات التهدئة بما يكفل عودة الاستقرار، ويفسح المجال أمام إجراء مباحثات سياسية تفضي إلى حل سياسي للأزمة”.
سيادة الدول واستقلالها
المعنى نفسه شددت عليه دول المجلس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما ألقى الوفد السعودي نيابةً عنها بياناً، تضمن المحاور السابقة، وزاد عليها “ضرورة الالتزام بمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لا سيما تسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها، واحترام سيادة واستقلال الدول ووحدة أراضيها وسلامتها الإقليمية”.
ورداً على التساؤلات التي تتوقع انحياز الخليج للموقف الغربي والأميركي من دون تمحيص، لفت البيان الخليجي إلى أنه من منطلق “عمق العلاقات التي تربطه (المجلس) مع الأطراف المعنية كافةً… فإننا ندعو جميع الأطراف إلى التهدئة والتحلي بضبط النفس والعمل على إنهاء هذه الأزمة بأسرع ما يمكن، وبالطرق الدبلوماسية، بما يلبي مصالح جميع الأطراف، وبما يجنب المدنيين تبعات التصعيد ومزيداً من الصعوبات الإنسانية”.
وبعد أيام من المعارك الدائرة بين أطراف الأزمة، لا يزال الموقف الخليجي يحاول الحفاظ على سرديته السابقة كما هي، على الرغم من المراهنات بأن هذا التعاطي قد يختلف مع الوقت، خصوصاً مع المزاعم بأن دول المجموعة قد تكون الرابح الأكبر من الأزمة بفعل قدرتها على تغطية أي عجز في إمدادات الطاقة تحدثه الحرب، وفقاً لصحيفة “اندبندنت” البريطانية، التي لفتت أخيراً في أحد تقاريرها إلى أن دول الخليج يمكنها أن “تستغل أزمة أوكرانيا لصالحها، وربما تصبح واحدة من الفائزين الكبار في هذه الحرب”، مشيرة إلى أن قائد الجبهة الغربية في الصراع الرئيس الأميركي بايدين “يفهم أن السياسة الواقعية تفرض عليه العمل مع السعودية”.
استغلال الأزمة
الصحيفة، طبقاً لتقريرها الذي بنته على فرضية أن أكبر دول المجموعة يمكنها تطويع المعركة لصالحها، اعتبرت من الواقعية تفهُم أن الرياض لن تقوم بذلك الدور المنقذ للغربيين من دون أن تحصل على ثمن، إذ “يمكن للسعوديين أن يطلبوا نوعاً من حزمة الصواريخ الشاملة التي يحتاجون إليها… أو الحصول على مزيد من الضوء الأخضر في ما يتعلق باليمن، وسيكون من الحماقة ألا يفعلوا ذلك عندما يكونون في مقعد القيادة”.
تردُّد هذا الصدى في الإعلام الغربي تسلل أيضاً إلى المشرّعين الأميركيين الذين لا يستوعبون أن تخرج دول المجموعة الخليجية عن رغبات البيت الأبيض، فيذهب براد شيرمان إلى القول إن السعودية إن لم تضخ مزيداً من النفط لمواجهة روسيا، فإنها بذلك تتاجر بدماء الأوكرانيين، في موقف وصفه سعوديون بـ”الوقح”، لكأن بلادهم موسكو الغازية، أو حلف شمال الأطلسي الذي اتهمه رئيس أوكرانيا بتركها وحيدة لمصيرها أمام عواصف الغضبة الروسية بادئ الأمر.
إصرار الخليج على الاحتفاظ بموقعه المحايد حتى الآن، دفع الإمارات العربية المتحدة أخيراً في مجلس الأمن إلى الامتناع عن التصويت على القرار الأميركي الذي استهدف إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، مؤكدة في بيان علقت فيه على خطوتها بأنها ترى “التطورات الخطيرة في أوكرانيا تقوض الأمن والسلم الإقليميين والدوليين”، في انسجام مع موقف المجلس وشقيتها الكبرى السعودية التي تنسق معها عادةً في التحركات السياسية المصيرية.
وأعربت وزارة الخارجية والتعاون الدولي في بيانها عن قلقها بشكل خاص تجاه “التداعيات المترتبة على المدنيين الموجودين في أوكرانيا، وعلى المنطقة والمجتمع الدولي بأسره… داعيةً جميع الأطراف إلى احترام القانون الإنساني الدولي، وإعطاء الأولوية لحماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق”، حسب وكالة الأنباء الإماراتية “وام”.
وكانت سفيرة أبو ظبي في مجلس الأمن، قد ذكرت المجلس بأن انتماء بلادها إلى منطقة الشرق الأوسط جعلها تدرك “الأهمية البالغة لوجود بيئة أمنية إقليمية مستقرة، والحاجة لخفض التصعيد والدبلوماسية والانخراط في الحوار، وبحكم تجربتنا، نتفهم أيضاً ضرورة وجود مشاورات شاملة”.
هل تساوم موسكو العرب؟
مواقف دول الخليج المنسقة على ما يبدو- في ملف كهذا بدأ يطغى على ما سواه-، حملت الخارجية الروسية إلى الإعلان عن اجتماع مرتقب لسيرغي لافروف في موسكو (الاثنين) الماضي مع نظيره الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، لمناقشة “زيادة تطوير التعاون الثنائي، وكذلك الوضع الدولي والإقليمي، لا سيما الوضع في سوريا واليمن وليبيا والتسوية العربية الإسرائيلية”، مما يعطي انطباعاً بأن الروس يرغبون في إغراء العرب بإحراز تقدم في ملفاتهم الخاصة، عوضاً عن الملف الأوكراني الذي يحاول الغرب إغراق حلفائه الخليجيين في تفاصيله أو بعضها على الأقل.
لكن الزيارة تم تأجيلها لأسباب صحية، حسب ما نقلت “آرتي” الروسية عن مصادر في موسكو ذكرت أن “الوفد الإماراتي، وبسبب مخالطته مصابا بفيروس كورونا، أرجأ الزيارة إلى موعد لاحق لأسباب صحية”.
وحتى قبل اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لا يرى الروس والمحسوبون عليهم من الصواب استجابة دول الخليج للضغوط الغربية لتطوير علاقات تجارية واستثمارية كبرى مع كييف، لأنهم حتى قبل الغزو يرون أوكرانيا بلداً غير مستقر، وأي استثمارات فيه مهددة بمصير مجهول، مما قد يعني أن موسكو تخطط لشنها الحرب على جارتها الغربية منذ عهد بعيد.
وعلى الرغم من أن الدول الخليجية مجتمعة أو كل من جهته رفضت الاستجابة للضغوط الغربية في جانب استخدامها بديلاً جاهزاً عن روسيا في الغاز والنفط، فإن اتصالها ظل باقياً مع الجانب الأوكراني، إذ تلقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بعد اندلاع الأزمة اتصالاً من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد بدء العمليات العسكرية الروسية ضد بلاده، وفي حينه “أطلع الأمير على آخر المستجدات على الساحة الأوكرانية، وفي هذا الصدد دعا (تميم) جميع الأطراف إلى ضبط النفس وحل الخلاف عبر الحوار البناء والطرق الدبلوماسية وتسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وعدم اتخاذ ما من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التصعيد”، وذلك وفقاً لوكالة الأنباء القطرية “قنا” التي نقلت تأكيد الأمير موقف بلاده وحرصها على “ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الراسخة للقانون الدولي، بما فيها الالتزامات بموجب الميثاق بتسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، والالتزام بسيادة واستقلال الدول وسلامتها الإقليمية”.
مصير الصفقات مع موسكو
وبينما أكدت السعودية تمسكها باتفاق “أوبك بلس” على الرغم من الضغوط الغربية المتلاحقة، نقلت “بلومبرغ” عن مصادر في قطر والإمارات كذلك عدم التفريط في استثماراتها الضخمة في روسيا، عكس ما تؤمل دول غربية، تسابقت إلى الإعلان عن تخفيض أو بيع أصولها في روسيا، لتكثيف الضغط على المجهود الحربي للكرملين في أوكرانيا.
وقالت الوكالة إن شركة مبادلة للاستثمار في أبو ظبي وجهاز قطر للاستثمار يتبنيان نهجا مختلفا عن صندوق الثروة السيادي النرويجي – أكبر صندوق سيادي في العالم – الذي يبدأ عملية لإزالة الأصول الروسية من محفظته.
ونقلت عن مصادرها أن “جهاز قطر للاستثمار، الذي يمتلك قرابة 19% من أسهم شركة “روسنفط”، يرى أن هذا الاستثمار هو مفتاح دعم علاقة الدوحة بموسكو، كما أن شركة “مبادلة” الذراع الاستثماري لإمارة أبو ظبي لديها ما لا يقل عن 3 مليارات دولار من الاستثمارات مع روسيا، ومن غير المرجح أن تفكك شراكتها مع صندوق الاستثمار المباشر الروسي، أو تتخذ خطوات تعرقل العلاقة”.
يأتي ذلك في وقت زادت الاستثمارات من منطقة الشرق الأوسط في الأصول الروسية ورابطة الدول المستقلة على مدى السنوات القليلة الماضية، وفقا لبيانات شركة الأبحاث “غلوبال إس دبليو إف”.
رسالة الغزو أبعد من أوكرانيا
وكان الكاتب في “الشرق الأوسط” اللندنية، غسان شربل، قد نبّه في وقت سابق قبل الغزو الروسي أوكرانيا إلى أن تسهيل مهمة بوتين في شطب حدود جيرانه على الخريطة جزئياً أو كلياً، من شأنه أن يبعث برسائل خطرة إلى دول مثل الصين وإيران وتركيا قد تدفع بها أطماعها التوسعية إلى اتخاذ إجراء مماثل.
وهذا المعطى قد يفسر اللهجة الخليجية الصريحة أيضاً في رفض الغزو الروسي حتى وإن لم تشأ أن تدور في فلك القوى الغربية، وتتبنى منطقها الحرفي خلال الأزمة.
ويخشى المراقبون أن يُعيد الصراع الجديد بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، أجواء الحرب الباردة إلى أشدّها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي 1991م، وفي ذلك الحين انقسمت الدول العربية بين المعسكرين تبعاً لظروفها السياسية وخياراتها الجيوسياسية.
وبينما تنقلت دول منها بين معسكر وآخر، ظلت دول الخليج وفية لحليفها الغربي ومنخرطة معه في تفاصيل سجالاته وحروبه، بما في ذلك حرب أفغانستان التي سرى الاعتقاد بأنها التي قصمت ظهر السوفيات وعجلت بتفكك حلفهم، لكن من دون أن تستفز موسكو التي كانت في حينه تنظر للعرب كأطراف غير ذات أولوية في معركتها مع الغرب، وإن استدرجت بعضهم إلى محيطها.
لكن، حتى وإن عادت الحرب الباردة، فإن علاقة المنطقة بأميركا لم تعد بالأهمية التي كانت عليها في السابق بالنسبة إلى أميركا وأيضاً الخليج الذي رأى كيف أن واشنطن أعلنت مرات عدة انسحابها من الشرق الأوسط والتركيز على الصين، وهو ما قيل إنه ترك فراغاً أغرى دولاً مثل إيران وتركيا وروسيا على استغلاله.
نقلاً عن أندبندنت عربية