رضوان السيد
كتبتُ هنا، الأسبوع الماضي، محاولةً لفهم التصرف الروسي تجاه أوكرانيا، وذهبت إلى أنّ «العقلنة» في الفهم تشير إلى أمرين: أنّ روسيا تعيد إحياء فكرة «المجال الحيوي» التي حملتها ألمانيا طويلاً، وهي تعني إحاطة القلب (روسيا الاتحادية) بمجالٍ مُوالٍ لروسيا.
وكان ذلك في روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي متحققاً بالجمهوريات الإسلامية وبسيبيريا وبجمهوريات البلطيق.
وما كانت هناك حدود مباشرة غير محايدة إلا مع ألمانيا وبولندا.
وفي الجانبين تقدمت روسيا في الحرب العالمية الثانية فأدخلت بولندا في حلف وارسو، واستولت على إقليم ألماني (كونغسبورغ وما حولها ) وما انسحبت منه حتى بعد استعادة ألمانيا لوحدتها عام 1990.
ما هي التسمية الصحيحة لهذه الفكرة أو الممارسة؟ هذا هو الأمر الثاني، أي الأمن الاستراتيجي! هل هي عودةٌ إلى أفكار قديمة؟ ليس تماماً.
فإسرائيل استولت على الجولان السوري تحت هذا العنوان.. إنما الفرق أنّ الأوروبيين كانوا قد تجاوزوا بالفعل هذه الفكرة والممارسة، واعتبروا استعادة وحدة ألمانيا (المنقوصة) نهايةَ الأمر، وأنّ الحدودَ صارت مقدسةً.
لذلك قلقوا إلى حد ما من الاضطراب الذي تسبّبت به روسيا في جورجيا وفي الاستيلاء على القرم.
وإلى جانب فكرة ثبات الحدود، جاؤوا بفكرة الشراكة الوثيقة مع روسيا في التجارة والاقتصاد والامتداد التكنولوجي المتقدم، ولا داعي لحشود الجيوش والعتاد.
ومع أنّ المستشارة الألمانية السابقة إنجيلا ميركل كانت هي داعية الشراكة الرئيسية مع روسيا، فقد قال لي أحد مستشاريها في عام 2015 إنّ المستشارة قلقت كثيراً لحدثَي العام 2014-2015 حين لم تكتف موسكو بأخذ القرم، بل خلقت جمهوريتين انفصاليتين في شرق أوكرانيا، وأرسلت عشرات الآلاف من الجنود إلى سوريا.
المجال الحيوي إذن، والأمن الاستراتيجي، كلاهما وارد، ويستحقان حشد عشرات الألوف من الجنود والعتاد العسكري الثقيل.
ولا يهم أنّ أميركا ما عادت راغبةً في امتداد «الناتو» ولا حتى في الشراكة الاقتصادية والأمنية مع أوروبا القوية والموحدة.
وهذا التفكير الأميركي ربما يظل سائداً رغم الحماس الظاهر الآن في الدفاع عن أوكرانيا.
إنما الحال ليس كذلك مع الأوروبيين الذين يشعرون بالتهديد حتى في بريطانيا وفرنسا، رغم أنّ الخطر الممكن أو المباشر هو على دول البلطيق وربما بولندا ومولدافيا.. واستطراداً ألمانيا. فما العمل؟ في أوروبا كلها تشتعل شعبويات اليمين، بسبب الهجرة وخُواف الإسلام.
وفي كل البلدان تخشى قوى يمين الوسط الحاكمة من الشعبويات.
أما بعد الحركة الروسية فقد تفاقم تحديان: أولهما هجرة الملايين من أوكرانيا الآن ومن غيرها غداً.
وثانيهما الحسابات الروسية القادمة.
وهناك احتمالان: أن يتوحد اليمين مع يمين الوسط لمواجهة الخطر، أو أن يزداد الانقسام بينهما ويتفاقم التطرف ضد روسيا أكثر.
وقد بدت مظاهر لذلك: ألمانيا التي أوقفت خط أنابيب الغاز الروسي «نورد ستريم 2» تنوي تقوية جيشها بمائة مليار يورو للعديد والعتاد. والسويد وفنلندا ودول أخرى تسعى للانضمام لـ«الناتو» أو في الحد الأدنى للاتحاد الأوروبي(!). وفي كل الأحوال ما عاد هناك أحد في أوروبا، حتى هنغاريا، يرغب في تقارب أو شراكة مع روسيا!
نقلاً عن العربية نت