كتب :جون ر. ديني
بينما تراقب إدارة بايدن رد فعل موسكو على التسابق الدراماتيكي للولايات المتحدة وحلفائها نحو مساعدة أوكرانيا وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية على روسيا، يجب عليها أن تحول تركيزها إلى جزء صغير نسبيًا من شمال شرق أوروبا مألوف للاستراتيجيين العسكريين ولكن غالبا ما يتجاهله معظم صانعي السياسات وعامة الناس.
يفصل ممر سوالكي بين منطقة كالينينغراد الروسية في بحر البلطيق وبيلاروسيا التي تستضيف حاليا الآلاف من القوات الروسية ومن المقرر أن تصبح عن قريب موطنًا دائمًا لها، بما في ذلك الطائرات المقاتلة المتطورة والأسلحة النووية. ويمثل هذا المعبر الطريقة الوحيدة من بولندا وأوروبا الوسطى للوصول عن طريق البر أو السكك الحديدية إلى دول البلطيق – التي يمكن القول إنها أكثر أعضاء الناتو تعرضًا للخطر.
من المستبعد سعي روسيا للسيطرة على هذا الممر لأن أي تحرك سيكون هجومًا مباشرًا على أراضي الناتو وسببًا لتقلي ردّ عسكري أمريكي. مع ذلك، إذا كانت عملية إعادة غزو موسكو لأوكرانيا تقدم أي دروس محورية في هذه المرحلة، فهي ضرورة استعداد المسؤولين الأمريكيين وحلفائهم حاليًا لأسوأ السيناريوهات من خلال التركيز على القدرات العسكرية الروسية الفعلية في المنطقة بدلًا من التركيز على نية الكرملين المعلنة أو تقديرات المنطق الاستراتيجي لروسيا أو التقييمات الاستخباراتية لؤرية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يبلغ عرض ممر سوالكي أربعين ميلا في خط مباشر، ولا يعد ممرًا كبيرًا على الأقل من حيث الحدود الطبيعية مثل الأنهار أو السواحل أو الجبال. أثناء القيادة عبر المنطقة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في رحلة بحثية إلى وحدات الناتو، وجدت أنها منطقة ريفية مفتوحة على مصراعيها تتميز في الغالب بأراضي زراعية تتخللها الغابات والقرى الصغيرة. وتعتبر معظم تضاريسها مثالية للمركبات التي يتم تعقبها مثل الدبابات، نظرا للطرق المحدودة للغاية والتلال الهادئة.
هناك طريقان سريعان – أحدهما به مساران في كل اتجاه والآخر يحتوي على ممر واحد فقط في كل اتجاه – بالإضافة إلى خط سكة حديدية تشكل البنية التحتية للنقل البري التي تربط بولندا بدول البلطيق. ومنذ الغزو الروسي الأول لأوكرانيا في سنة 2014، أولى المسؤولون الحكوميون الغربيون والقادة العسكريون وخبراء مراكز الأبحاث اهتمامًا إضافيًا بهذا الممر الضيق نسبيًا بين الحلفاء ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى كونه يُشكّل نقطة ضعف في حال سعت روسيا إلى عزل دول البلطيق.
تفاقمت هذه المخاوف مؤخرًا، ويفكر المسؤولون الغربيون فيما إذا كانت المساعدة المقدمة لأوكرانيا تصور الغرب باعتبارهم مقاتلين متواطئين في نظر القانون الدولي مما يوفر لبوتين مبررًا للهجوم. من المحتمل أن ترد موسكو عسكريًا على العقوبات الصارمة التي فرضها الغرب في الأسبوع الماضي في محاكاة لهجوم الإمبراطورية اليابانية سنة 1941 على ميناء بيرل هاربور بعد فرض حظر أمريكي على تصدير النفط. وبينما تتدفق القوات الأمريكية والقوات الأخرى المتحالفة إلى بحر البلطيق والجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، قد يرى الكرملين في ذلك تهديدًا متزايدًا لكالينينغراد ويستولي على ممر سوالكي لإنشاء جسر بري.
كانت كالينينغراد – المعروفة سابقًا باسم كونيغسبيرغ – تابعة للأراضي الروسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي حاليًا موطن لقوات قتالية روسية كبيرة العدد بما في ذلك أسطول البلطيق الروسي والدفاعات الجوية المتقدمة وصواريخ “إسكندر إم” المحمولة ذات القدرة النووية. بالنظر إلى ذلك، فإن روسيا حساسة بشكل خاص لأي تهديدات متصوّرة لسيطرتها على المنطقة غير المجاورة وقد تخاطر بالتصعيد إذا أساءت تفسير تصرفات الناتو بالقرب من كالينينغراد.
من الواضح أن الاستيلاء على ممر سوالكي يستلزم مهاجمة ليتوانيا أو بولندا أو كليهما، مما يؤدي مباشرة إلى نشوب حرب بين الناتو وروسيا. ويبدو هذا الاحتمال غير منطقي أو غير حكيم من الناحية الاستراتيجية بالنسبة لبوتين. ولكن من الواضح أن قدرة الغرب على معرفة وفهم منطق بوتين والأساس المنطقي وراء اتخاذه للقرار كانت مقيدة بشكل واضح بسبب الافتقار إلى الخيال أو جودة المعلومات الاستخباراتية التي تجمعها أو كليهما.
فعلى سبيل المثال، اعتقد البعض أنه من غير المنطقي أن يأمر بوتين بغزو شامل لأوكرانيا إذا كان هدفه ببساطة هو إبعادها عن الناتو، على الرغم من أن صراع دونباس المحتدم حقق هذا الهدف بشكل فعال منذ سنة 2014، نظرًا لأن أحد المتطلبات غير الرسمية لعضوية التحالف هو عدم وجود نزاعات إقليمية مع الجيران.
بالإضافة إلى ذلك، لم تضغط أي سلطات في واشنطن أو بروكسل بجدية من أجل عضوية أوكرانيا في التحالف، ومن المؤكد أن الدبلوماسيين الروس وأجهزة المخابرات التابعة لها يعرفون ذلك. علاوة على ذلك، فإن خطاب بوتين الأخير عن المظلمة ضد الغرب ليس بالأمر الجديد – فقد تبنى هذه المواضيع لسنوات. لكن لماذا قررت روسيا الغزو الآن؟ الجواب غير واضح، بصرف النظر عن الاستنتاج بأن هذه الحرب تتمحور حول شيء أكثر من مجرد منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو.
لهذا السبب، تعد محاولة تحديد نية بوتين من المضي قدمًا في غزو أوكرانيا مجرد مهمة سخيفة. ولا يمكن للغرب أن يفترض أنه يفهم كيف يمكن لبوتين أن يتفاعل مع انهيار الاقتصاد الروسي، سواءً كانت تصريحاته المثيرة للجدل مؤخرًا بشأن إخراج الناتو من وسط وشرق أوروبا ترقى إلى توجيهات سياسية، أو كيف يمكنه استغلال علاقته الاستعمارية الجديدة عمليًا مع بيلاروسيا، التي تستضيف حاليًا عشرات الآلاف من القوات الروسية.
على نحو مماثل، لا يمكن للغرب أن يفترض أن روسيا لن تتخذ خطوة ضد ممر سوالكي لمجرد أنه يبدو قرارا غير منطقي. خلال تمرين زاباد الاستراتيجي العسكري السنة الماضية، ورد أن القوات الروسية والبيلاروسية تدربت على إغلاق ممر سوالكي بالهجوم من بيلاروسيا في اتجاه كالينينغراد.
بدلًا من محاولة تحديد نية بوتين أو منطقه، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها التركيز على القدرات التي اكتسبها الكرملين في أوكرانيا وبيلاروسيا وحولهما. ففي عشية الغزو الأخير، نشرت روسيا 30 ألف جندي في بيلاروسيا، بما في ذلك قوات النخبة الروسية “سبيتسناز”، بالإضافة إلى مجموعة من المعدات مثل طائرات الهجوم الأرضي من طراز “إس يو-25″، وطائرات الهليكوبتر الهجومية، وأنظمة الدفاع الجوي إس-400، والطائرات المسيرة؛ وقد انتقلت معظم هذه القوات إلى أوكرانيا في الأسبوع الماضي أو استمرت في دعم العمليات هناك من بيلاروسيا.
في مكان آخر من شمال شرق اوكرانيا وشرقها وجنوبها، يدخل ما يقرب من 120 ألف جندي روسي أوكرانيا إلى جانب مجموعة من المركبات المدرعة والصواريخ والمدفعية وغير ذلك. باختصار، تمثل هذه القدرات أهم تجمّع للقوة القتالية التقليدية في أوروبا الشرقية منذ نهاية الحرب الباردة.
بالنظر إلى كل هذا، يحتاج الغرب إلى تعزيز موقفه وبنيته التحتية بشكل كبير في منطقة سوالكي وحولها. ويجب أن تتمحور الخطوة الأولى حول تأكيد الناتو أنه لن يخضع بعد الآن لبنود قانون التأسيس لحلف الناتو وروسيا لسنة 1997 نتيجة لإقدام روسيا على نقض القانون من جانب واحد.
لقد ألزم هذا الاتفاق السياسي الناتو بتنفيذ مهامه الدفاعية الجماعية وغيرها من المهام من خلال “ضمان قابلية التشغيل المتبادل الضروري والتكامل والقدرة على التعزيز بدلًا من التمركز الدائم الإضافي لقوات قتالية كبيرة” على أراضي دول حلف وارسو السابقة. كما أرغم روسيا على “تقييد عمليات نشر قواتها التقليدية في أوروبا”. اتفق الجانبان على أن هذه المبادئ تستند إلى “البيئة الأمنية الحالية المتوقعة” منذ 25 سنة. ومن الواضح أن موسكو لم تتقيد بذلك مما أسفر عن تغيّر البيئة الأمنية بشكل كبير.
فيما يخص الوضع، يجب أن تعود القوات البريّة البريطانية والكندية بشكل دائم إلى القارة على شكل لواء يضم قرابة 4000 جندي لكل منهما على التوالي، بناءً على وحداتها الصغيرة نسبيًا في إستونيا ولاتفيا. وفي الوقت نفسه، يجب أن تتوسع القوات البرية الألمانية إلى حجم اللواء في ليتوانيا.
بالإضافة إلى الزيادات المؤقتة الأخيرة في القوات المتناوبة للولايات المتحدة، يجب على واشنطن أيضا ضمان الوجود الدائم للدروع والطيران القتالي والحرب الإلكترونية والطائرات المسيّرة والمهندسين ووحدات الدفاع الجوي. كما يجب على إيطاليا وإسبانيا وفرنسا – نظرا لحجمها العسكري وأهميتها في التحالف – الالتزام بتركيز وحدات قابلة للتشغيل المتبادل بحجم كتيبة قوامها 800 جندي في قواعد دائمة في بولندا أو ليتوانيا أيضًا.
عندما يتعلق الأمر بالبنية التحتية، من المرجح أن تنتشر الدبابات الحديثة – بما في ذلك الدبابات أمريكية الصنع “إم1 أبرامز” التي أعلنت بولندا مؤخرا أنها ستشتريها – على العديد من الطرق والجسور في شمال شرق بولندا وليتوانيا، التي تحتاج إلى استبدالها أو تعزيزها. فضلا عن ذلك، تتطلب السعة المحدودة للطرق السريعة والسكك الحديدية في المنطقة استثمارات كبيرة وفورية
معظم الطرق الرئيسية عبر دول البلطيق عبارة عن ممر واحد في كل اتجاه تحدها أحيانًا غابات كثيفة أو خط ساحلي أو أراضي ومستنقعات منخفضة – في حالة وقوع هجوم روسي في منطقة سوالكي، قد يكون من الصعب نقل القوات العسكرية أثناء محاولة السماح للاجئين بالخروج. هذه التحديات وغيرها من تحديات البنية التحتية والتنقل في شمال شرق أوروبا معروفة جيدًا، ولكنها لم تحظ للأسف بالاهتمام أو التمويل اللازم.
إن التحسين السريع للبنية التحتية ذات الصلة عسكريًا في منطقة سوالكي، وتعزيز صفوف قوات الحلفاء بشكل كبير ودائم في شمال شرق أوروبا وإلقاء اللوم على بوتين بشكل صريح بشأن الانقلاب الكامل للأمن الأوروبي، يعد بمثابة خطوات ضرورية.
وفي أعقاب غزو بوتين لأوكرانيا، يجب أن يركز رد الناتو على التخطيط القائم على القدرات بدلا من بناء الافتراضات حول نية بوتين الحقيقية أو منطقه. كما يجب على التحالف أن يأخذ بعين الاعتبار مستويات القوة الروسية والقدرات العسكرية المزعزعة للاستقرار الموجودة في كالينينغراد وبيلاروسيا وأن يقترب من مطابقتها على الأقل من الناحية النوعية من أجل ردع موسكو. او الاعتماد على التخمينات الغربية حول كيفية استجابة الكرملين منطقيًا يمثل مخاطرة كبيرة للغاية، خاصة إذا كان التحالف يأمل في إبقاء ممر سوالكي مفتوحا.
المصدر: فورين بوليسي