حسن المصطفى
ما هي خارطة التنوع المذهبي في السعودية، وكيف تعمل رؤية المملكة 2030، على بناء مجتمع يحترم التعددية ويصون التعايش والسلم الأهلي.
“السعودية لديها المذهب السنّي والشيعي، وفي المذهب السنّي توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية، ولا يمكن لشخص الترويج لأحد هذه المذاهب ليجعلها الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية”، يقول ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، في الحوار الذي أجرته معه مجلة “ذا أتلانتيك”، وفق الترجمة العربية التي نشرتها “وكالة الأنباء السعودية” في 3 مارس الجاري.
الصراحة التي اتسم بها حديث الأمير محمد بن سلمان، تهدف إلى ترسيخ التعددية المذهبية في السعودية، وتقديم المملكة بوصفها وطناً لمختلف مكوناتها المجتمعية، وأن “المواطنة” هي اللبنة الأساس في بناء الدولة، ولمختلف المواطنين الحق في اختيار المذهب الإسلامي الذي ينتمون له، دون تمييز بينهم أو تفضيل لشخص أو طائفة على أخرى، فالجميع سعوديون، لهم حقوق وعليهم واجبات، وهم متساوون في ذلك.
عندما أعلن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، تأسيس الدولة السعودية الثالثة، العام 1932، وتوحيد الجزيرة العربية، كان يعرف أن دولته تحتضن ثقافات وقبائل ومذاهب متعددة، وأن أحد عناصر قوة الدولة، الحفاظ على التعايش السلمي بين جميع هذه المكونات، وجعلها تتعاون فيما بينها. وأنه كقائد لهذا الشعب، يمثل رمز وحدتهم، وبالتالي فإن مدماك البناء كان الفعل “السياسي” لا “الديني”، حيث ابتنت الدولة على رؤية سياسية تروم التنمية والأمن والاستقرار.
التعددية القائمة!
العام 2015، أصدر “مركز المسبار للبحوث والدراسات” كتابه الشهري رقم 107: “التعددية في الخليج وجواره: الواقع والآفاق”، شاركتُ فيه بدراسة عن التنوع المذهبي في السعودية، حمِلت اسم “التعددية التي لا يُرادُ لها أن تُرى”، أشرتُ فيها لـ”ممانعة شريحة واسعة من رجال الدين المتشددين، الذين سعوا لإبراز المملكة في صورة الدولة السلفية، التي لا يصح أن تدنس نصاعة سلفيتها أي رؤية مذهبية أو عقدية أخرى، يجد فيها رجال الدين هؤلاء نوعا من مخالفة الشريعة والبدعة ومروقاً عن الدين”، وهو “ما كرس الصورة النمطية بشكل أكثر سلبية، ضاربين ستارا يمنع رؤية أي تنوع داخل مجتمع لم يكن واحداً طوال تاريخه”، حيث أن “الفرد السعودي يحمل سمات عامة تشكل هويته الوطنية، وفي ذات الوقت لديه هويته الفرعية التي هي نتاج حاضنته الاجتماعية والمذهبية والمناطقية والعائلية المباشرة”، وهذا التنوع هو ما تنظر له “رؤية المملكة 2030” كعاملِ قوة وثراء، وتريدُ تحويل هذه التعددية إلى عنصر جذب، بوصف السعودية دولةً إسلامية عربية كبرى، منفتحة على مختلف الأديان والمذاهب والثقافات، وهي بذلك تحملُ مشروعاً نابذاً للخطابات الطائفية وأفكار التطرف والإرهاب.
التنوع المذهبي!
خارطة المذاهب الإسلامية المتعددة في السعودية، تناولتها بالتفصيل “الدراسة” المشارُ إليها أعلاه، والتي يمكن إيجازها كالتالي:
المنطقة الوسطى، حيث العاصمة الرياض، ومدن رئيسية مثل بريدة وعنيزة والقصيم والزلفي وسواها، يسُودُ فيها المذهب الحنبلي، التابع لمدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وتحديداً في نسخته المطورة على يد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، وتالياً الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
تضم المنطقة ثقلاً علمائياً حنبلياً. حيث العديد من الشخصيات العلمية المؤثرة، كالشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وسواهم.
تاريخياً، كانت المنطقة الوسطى أيضاً موطناً للعديد من العائلات “الشيعية”، التي بقيت بعض بيوتاتها حتى الآن في الرياض، وبعضها الآخر تحول إلى المذهب السني، فيما عدد منها تداخلت هويته المذهبية بين ممارسات لعقائد وطقوس من الثقافتين السنية والشيعية.
المنطقة الغربية، والتي تعرف تاريخياً بـ”الحجاز”، وتضم الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إضافة لمدن كجدة وينبع. يتبع السكان هنالك عدة مذاهب، إنما أبرزها المذهبين المالكي والشافعي، إضافة إلى العديد من الطرق الصوفية، التي كانت لها مواسمها وزواياها المنتشرة في بدايات القرن الميلادي المنصرم، قبل أن يتم إزالة هذه التكايا، وتقتصر على احتفالات وموالد محدودة.
المذهب الشيعي الاثنا عشري هو الآخر له حضوره في الحجاز، وتحديدا المدينة المنورة، كما في جدة وإن كان بشكل محدود.
من أبرز علماء المالكية في الحجاز، الشيخان علوي عباس المالكي ومحمد علوي المالكي. أما الشافعية فمن أشهر بيوتاتهم: الزواوي، وبابصيل، ويماني، والسادة المراغنة. وبرز منهم الشيخان محمد سعيد يماني، ومحمد حسن يماني، والشيخ ياسين فادن، والأخير اشتهر بكونه محدثا، أكثر منه فقيهاً. ومن شخصيات الشافعية المعاصرة: وزير النفط السعودي الراحل أحمد زكي يماني، والدكتور عمر كامل، والشيخ عبد الله فراج الشريف.
فيما يعتبر الشيخ محمد علي العمري الاسم الشيعي الأبرز في المدينة المنورة، قبل أن توافيه المنية العام 2011.
الأحناف بدورهم كان لهم حضور تاريخي في الحجاز، وتحديداً في مكة المكرمة.
ويأتي الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن سراج، كواحدٍ من الأسماء العلمية التابعة للمذهب الحنفي، حيث كان مفتي الأحناف وقاضي قضاة مكة، ومرجعا في الأحكام الفقهية، قبل أن يتوفى العام 1848.
المنطقة الشرقية، والتي تضم الأحساء والقطيف والدمام والظهران والخبر، وسواها.
يحضر التشيعُ الاثنا عشري كمذهب سائد في مدن القطيف والعوامية وسيهات وصفوى وباقي قرى محافظة القطيف، إضافة لجزء كبير من محافظة الأحساء، دون إغفال وجود مواطنين سعوديين سنة في محافظة القطيف، وتحديداً في: عنك، الزور، دارين، النابية.
يمكن اعتبار الأحساء مثالا على التنوع المذهبي والتعايش السلمي بين المكونات السعودية المختلفة، حيث تضم مواطنين شيعة وسنة.
العديد من الأسماء العلمية الشيعية في المنطقة الشرقية كان لها حضورها الفقهي والشعبي المؤثر على الأتباع، مثل: الشيخ علي أبو عبد الكريم الخنيزي، والشيخ عبد الحميد الخطي، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والسيد ماجد العوامي، والشيخ محمد الهجري، والشيخ حسين العمران، والسيد علي السلمان وسواهم.
من جهتها، ضمت عائلة “آل مبارك” في الأحساء العديد من رموز علماء المالكية، ومنهم الشيخان: عبد الحميد المبارك، وقيس آل مبارك.
الشافعية كان لهم حضورهم في الأحساء بين عدد من البيوتات الشهيرة، حيث يتواجد أكثرهم في مدينتي الهفوف والمبرز.
ويعد الشيخ أحمد بن عبد الله الدوغان، الذي توفي في أكتوبر 2013، أحد أبرز الزعامات الدينية الشافعية.
عائلة “الملا” من البيوتات الأحسائية التي ينتمي تاريخاً العديد من أفرادها للمذهب الحنفي، ومن شخصياتهم الشيخ أبو بكر بن عمر الملا، وابنه عبد الله.
المنطقة الجنوبية، وتضم نجران وجازان وعسير، وسواها من المدن والقرى المتفرقة. في هذه المنطقة يختلط المذهب بالقبيلة، حيث تحضر الأخيرة كمكون رئيس وفاعل، يفوق في أهميته المذهب ويتقدم عليه. حيث مازال لشيخ القبيلة كلمته المسموعة والمحترمة.
تقطن في نجران قبيلة “يام”، التي يتبع العديد من أفرادها المذهب الشيعي الإسماعيلي، ويعرفون بـ”المكارمة”.
الشيخ عبد الله بن محمد المكرمي، والذي توفي في إبريل 2015، يعد أحد أبرز الزعامات القبلية والمذهبية للإسماعيلية في المملكة. وقد تولى إدارة شؤون الطائفة من بعده الشيخ أحمد الجمالي المكرمي.
الشيعة الزيدية الذين تُشكل اليمن، وتحديداً العاصمة صنعاء، مركز ثقل بشري وعلمي لهم، لهم وجود وإن صغير ومحدود في جنوب المملكة. إلا أن أغلب الزيدية إما انتقلت إلى اليمن، أو ذابت ضمن النسيج الإسلامي السني العام.
عسير تاريخياً يعتنق سكانها المذهب الشافعي. إلا أن عدم وجود شخصيات علمية متصدية للفتوى في المنطقة، وانشغال سكانها بالعمل والزراعة والحقل، وطبيعة التدين البسيط والفطري، أدى إلى أن يتحول الكثير من الشافعية إلى الحنبلية، خصوصاً بعد دخول “المعاهد العلمية” ووفود رجال الدين من أجل الدعوة.
الثراء السعودي!
التوزيع الجغرافي-المذهبي السابق، يظهر تداخلاً بين الثقافات والطوائف المتعددة، وأن الحدود المتخيلة في الأذهان، والتقسيمات الطائفية-السياسية، هي نتاج تكريس خطاب متشدد، استخدم الدين لتحقيق مآرب سياسية وحزبية محددة، وأيضاً بسبب قراءة نمطية للدين من قبل بعض التيارات، التي كانت تريد تعميم صورة أحادية تراها هي الصواب المطلق، وهو النهج الذي يخالفُ الطبيعة البشرية، ويناقض حقيقة ما هو قائم في السعودية طوال قرون. من هنا، أتت “رؤية المملكة 2030” لتعيد الاعتبار للتنوع وتحافظ عليه تحت سقف الدولة وتحميه بقوة القانون.
لقد تجاورت المذاهب على مدى مئات السنين الفائتة، وإن شاب هذا التجاور بعض التوتر، وهو أمر طبيعي يصيب أي مجتمع، ويحدثُ داخل المكون المذهبي الواحد، إلا أن الأصل هو العلاقة الحسنة والتعايش بين الناس، والتعامل التجاري، والتعاضد في حال الأزمات والمحن لتجاوزها.
هذا الإرث الإيجابي الكبير، لا يريدُ له “المتشددون” أن يروى أو يُرى، لأنهم يودون الترويج لسرديتهم القائمة على إقصاء المختلف، وهي السردية “المُضللة” التي لا مكان لها في السعودية اليوم.
السعوديون اليوم تختلط مذاهبهم وقبائلهم وعائلاتهم وثقافاتهم في المناطق والمدن والقرى المختلفة، حيث يعملون على تجاوز ثقافة “الغيتو” التي كرستها الخطابات الطائفية المتشددة طوال أكثر من أربعين عاماً خلت!
اليوم كبريات المدن السعودية هي مزيج من خليط سعودي مذهبي وثقافي وقبائلي، تتجاور في العديد من أحياء هذه المدن بيوت السعوديين الشيعة والسنة، القبليون والحضر، حيث يعيدون بناء هويتهم السعودية الحديثة، وهي هوية تعتقد أن التعدد رأسمال رمزي وثقافي مهم، وأحد الثروات الوطنية التي يجب الحفاظ عليها وحمايتها من دعوات الكراهية والتعصب والعنف.
صونُ التنوع!
هذه التعددية المذهبية، محمية قانونياً بحسبِ ما جاء في الباب الثالث من “النظام الأساسي للحكم”، والذي أتى تحت عنوان “مقومات المجتمع السعودي”، حيث نصت مادته الثانية عشرة، على أن “تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام”.
الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، والذي تسلم مقاليد الحكم في يناير 2015، أكد في أكثر من خطاب على أهمية ترسيخ مفهوم المساواة بين المواطنين، وعدم تفضيل فرد على آخر، قائلاً: “إن كل مواطن في بلادنا وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى”، مضيفاً: “نؤكد حرصنا على التصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة، والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع بما يضر بالوحدة الوطنية، فأبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات”.
المصدر : العربية نت