احمد عبد اللاه
من غرفة صغيرة في الدور الثامن من مستشفى “روكي فيو”، تطل هموم الأرض البعيدة على شتاء كالجري.. هذا الشتاء ليس نموذجياً فهو على غير عادته مسلوب الإرادة، وطيش الشموس يعبث بطقوسه الصارمة، إضافةً إلى أن رياح “شنوك الروكيز” الموسمية ذات الأمزجة الساخنة، تجبره على أن يمثل عدولاً عن المألوف.. لا أعرف كيف يستطيع عزازيل (شيطان يوسف زيدان) أن يقترب من سرير مرض أحد، بينما صاحبه ميمِّم وجهه شطر الحالة الإيمانية والتقرب من المألوه في لحظات تسامح ضافٍ مع كل شيء.
عزازيل في رائعة الروائي الكبير زيدان لم يكن كعادته كما بدا لقارئ مثلي، ولا يشابه ما أسقطته على وعينا قرون من ثقافات الخير والشر.. فقد يصبح عزازيل حالة درامية خاصة ومحددة الهوية، تتفاوت بين العمل على تحفيز الغريزة للخضوع أمام مارتا، فاكهة الجمال، أو سحر أوكتافيا المشتعلة، أو التوق لفلسفة هباتيا الإسكندرانية، قتيلة التوحش الديني فيما بعد، وبين أن تسوق أحياناً قدراً ناضجاً من الحِكَم والتوجيهات الصائبة للراهب “هيبا” لكي يدوِّن في رقوق مسجلة مسيرة حياته الممتلئة بمشهديات القرن الخامس ميلادي، والصراع الديني داخل الكنيسة المسيحية بنساطيرها وببابوياتها المثلِّثة.
لا أدري لماذا تُمعن فكرة عزازيل في حضورها في آنٍ كهذا، فربما مرت في شريط الاخبار مدينة حلب التي تربّى التاريخ في عزها كأقدم مدن الارض فتخيلت الخرائب الأثرية، الموصوفة في لفائف هيبا، والواقعة في إحدى الجهات الحلبية على الطريق الممتدة إلى أنطاكيا.. ربما، فالشتاء ونوع العلاج يصوغان وعياً تمور فيه دوامات سيكلوجية لتحدث تداخل عجيب بين الازمنة وتدفع إلى السطح فكرة الركون إلى التاريخ الساكن كشاطئ بعيد خال من حاضر وحواضر الاحداث المستعرة، فقد انتهى أمره وبقي في جوف المخطوطات وفكر الرواةِ المؤرخين.
لا بأس من أن يعترف عزازيل، وأنا أتصوره شيخاً وقوراً يهدي إلى الغواية “الخلاقة”، ويتسلل من ثنيات تتجلى عندها أفئدة رخوة خاشعة ومُستلَبة، لمتلقٍ تتدفق عليه الفتاوى وتصل به إلى مفترق غير محدد يقع بين العقل الدنيوي والشغف بالتواصل مع جنات المولى الرحيم عن طريق إهراق دم “الكفار”، لا بأس أن يتمثل في صورة من يعترف بأنه لم يغوِ أحد من العامة البسطاء الذين يُسائل عنهم أمام ربِّ القيامة، لكنه يوعز إلى ماكنات الإفتاء بأن تصنع ذلك.. وأنه لم يعد كما كان في القرن الخامس، فقد تعلم فنون العصر المكتظ بالرياح الالكترونية فاستخدم أشرعته بمهنية لا تُقارن ولا تُقاوَم.
عزازيل القرن الواحد والعشرين منتشر عبر الأثير المفترض والميديا العصرية ولم يعد بحاجة إلى طريقة العمل البدائي لممارسة وظيفته الأزلية في الوسوسة والإغواء مع كل مفردة بشرية، كما أنه تخلَّى عن ألقابه التاريخية المسرودة في الصحف الأولى والآيات المحكمة، فقد استنسخت البشرية اصطلاحات تتفاوت دلالياً لكنها تؤدي في آخر الطريق إلى إنجاز مهمته بصورة مثالية.
تمر رمزية حلب المدمرة، حيث توضأ الزمن قبل أن يقرأ فاتحته الأولى، على شريط إخباري بائس وصامت، ليس منطوقاً بالسريانية ولكن بلغة العالم الحديث البعيد عنها، وهي تحمل بصمات عزازيل الحاضر العربي، الأشد فتكاً من نسخه التاريخية فقد أخرج من سراديب الذاكرة المتوارثة خيول الطوائف مستخدماً كيمياءه لمعالجة اللفائف الغائرة في اللاوعي التاريخي، لينفذَ إلى كيانات كبيرة وعلماء الدين وتقنيات السياسة الموحشة ويخلطها لينتج كل هذا الدمار الذي يهدد بإنتهاء مقومات أمة عاقرها الإرتباك والجهل حتى أمسك بها شيطانها الجمعي، ويصنع حاضراً عروبياً بطريقته المعاصرة.
أجواء كالجري الكندية منقحة ومنفتحةً هذا العام على كل الطقوس، وأنا أراقب هذا الإنفلات الشتوي وكأنه يشد الرحيل نحو فوضى فصولية ربما تصبح خلّاقة فينتج عنها فصلاً هجيناً تتداخل في يومه الواحد كل رياح السنة.
أو ربما هي الحمّى التي أتت بعزازيل الحلبي، إن أردنا تجنيسه، وهيبا الكاهن المصري إلى سرير الهلوسة المرضية! لا شيء في هذا العالم يستحق أن نستغرق فيه فكل شيء يتبدل بسرعة فائقة.. إلَّا أننا نكره الفوضى الخلاقة من قمة رأسها حتى أخمص صهارتها البعيدة عن السطوح المنكشفة.
ومع كل ذلك يبقى السؤال الخالد: متى سيغادر عزازيل هذا الشرق البائس؟