أسامة رمضاني
لم يعد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مجرد رمز يستحضره التونسيون من حين إلى آخر من دفاتر التاريخ. فهو قد أصبح حاضرا أكثر من أي وقت مضى لدى الساسة وعامة الناس.
كان الرئيس قيس سعيد من آخر من زاروا ضريح بورقيبة وتلته عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر المعارض.
تحول الرئيس التونسي إلى مدينة المنستير حيث أشرف على موكب انتظم هناك بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لوفاة الرئيس الأول للجمهورية التونسية.
أكد سعيد في معرض حديثه عن إصلاحات بورقيبة أنه كان هناك في عهده “عمل حضاري كبير غيّر وجه تونس في مجال التعليم وتغيّر حتى اللباس وتغيّرت التقاليد، وتحدث بكلّ عقلانية عن العديد من المسائل. ثمّ أيضا لا ننسى الدور الكبير الذي لعبته تونس في مجال الصحة والتعليم والمرأة”.
قيل الكثير عن مؤسس الدولة التونسية الحديثة. ولكن تحول سعيد وموسي إلى ضريح بورقيبة في المنستير أشّر لإجماع متنام على الساحة التونسية حول الزعيم الراحل بغض النظر عن الانتماءات والخلافات السياسية.
هناك قاعدة مشتركة تبدو بصدد التشكل بين مختلف مكونات الطبقة السياسية والنخب الفاعلة فيه، حتى تلك التي مازال لديها خلاف أو اختلاف في الرؤى مع بورقيبة.
ينبني هذا الإجماع على الرمزية الوطنية الثابتة لبورقيبة وهي رمزية يحتاجها وينشدها التونسيون خاصة زمن العواصف والأزمات التي يمرون بها اليوم.
هذه الرمزية تضع بورقيبة أحيانا في مقام الأسطورة، بما يغطي على كل التحفظات التي كان يعبر عنها غرماء الرئيس الراحل التقليديون، حول مواقفه إزاء جملة من المواضيع الخلافية مثل الاستقلال الداخلي وحرب بنزرت إضافة إلى قبوله بالرئاسة مدى الحياة وعلاقته بالغرب وغيرها.
هناك إرث من الواقعية والعقلانية تركه بورقيبة ومازال يمكن أن يساعد تونس على النأي بنفسها عن المغامرات غير المحسوبة
ولكن هذه المواضيع تحولت إلى تفاصيل لا تعني إلا المؤرخين وهواة التنقيب في أغوار الماضي السحيق والأقلية غير القادرة على تجاوز عدائها لبورقيبة.
أما أغلبية الناس فنادرا ما يتجاوزون الهالة المبهرة التي تحيط بصورة بورقيبة أو يستهويهم الغوص في التفاصيل الدقيقة التي أثثت سيرته الفعلية.
تتكون في المخيال الجماعي للشعوب على مدى السنين رموز وطنية يتذكرها الناس بخير وأحيانا يخلدونها من خلال إطلاق أسمائها على الشوارع والمعالم والساحات. وفي حالات نادرة فقط تتحول هذه الرموز إلى ما هو أكبر من ذلك. تتحول إلى أساطير تنساب مع وجدان الناس إلى مستوى التأسيس للهوية الوطنية. وذلك ما حصل مع بورقيبة.
المعجبون ببورقيبة اليوم لا يجدون في إرثه برنامجا للحكم بقدر ما يجدون جملة من المبادئ والقيم يحاولون استلهامها.
حتى أفراد النخب الذين دخل بعضهم أو أفراد عائلاتهم السجون من أجل آرائهم إبان حكم بورقيبة، ينظرون بإعجاب لجرأة القائد السياسي ومواقفه الطلائعية التي سبقت عصره. لم ينتظر بورقيبة تشكل إجماع مساند له قبل أن يبادر بإدخال إصلاحات جوهرية على المجتمع على شاكلة ما تضمنته مجلة الأحوال الشخصية كأول تشريع في العالم العربي يمنع تعدد الزوجات ويعطي المرأة حقوقها. لم يتردد الزعيم في العمل على فرض المساواة بين الجنسين في مجتمع تقليدي كان معظمه في ذلك الوقت أميا. كان يعرف أنه يستطيع أن يفعل ذلك. لا أحد كان يخامره شك في أن بورقيبة كان على حق. كانت تربط “المجاهد الأكبر” عرى من الثقة المتبادلة مع شعبه عززها على مدى السنين اتصاله المباشر بالسكان في المدن والأرياف وعمدها دم المناضلين خلال معركة الكفاح من أجل الاستقلال التي قادها هو دون منازع.
بلا ريب كانت الكثير من سياسات بورقيبة ومبادراته وليدة عصرها ولا علاقة لها بظروف تونس اليوم. فحملات التنظيم العائلي وتحسين الهندام ونزع السفساري (اللحاف التقليدي) من على رؤوس النساء تبدو بالمقاييس الحالية تصرفات سلطوية لا تحترم حريات الآخرين، ولكنها في سياقها التاريخي كانت تجسم سباق بورقيبة المحموم مع الزمن من أجل أن تلتحق تونس بركب الحداثة.
كل مبادراته كانت تحكمها رؤية راسخة لما يستوجبه النهوض بتونس من اختيارات استراتيجية على صعيد التنمية الاجتماعية والبشرية بما يشمل قطاعات التعليم والصحة وتطوير الاقتصاد وغيرها.
كان بورقيبة مقتنعا بقدرة التونسيين على رفع تحدي التنمية على أساس الآفاق التي يمكن أن يفتحها التعليم أمام الشباب من الجنسين باعتباره يشكل الثروة الحقيقية للبلاد.
ترك بورقيبة لساسة اليوم إرثا من الواقعية في مقارباته تجاه السياسات الداخلية والخارجية بما يتناسب وقدرات البلاد. ويتذكر التونسيون تأنيبه للقذافي على المباشر في الإذاعة (فيما سمي بخطاب البالماريوم) ساخرا من رغبته في تحدي الولايات المتحدة في حين أن بلدانا مثل تونس وليبيا غير قادرة على تحقيق اكتفائها الذاتي في شيء. كان القذافي طيلة تأنيب بورقيبة له ساكتا يبتسم. وما كان ليبتسم صامتا لو أنه كان محل تأنيب من شخص آخر غير بورقيبة.
كان بورقيبة مقتنعا بقدرة التونسيين على رفع تحدي التنمية على أساس الآفاق التي يمكن أن يفتحها التعليم أمام الشباب من الجنسين باعتباره يشكل الثروة الحقيقية للبلاد
كان دوما مصرا على الحفاظ على هيبة الدولة ولا يتردد في استعمال كل الوسائل للحفاظ على الأمن والاستقرار. كان ذلك عصر غير هذا. ولكنه كان أيضا بكل براغماتية مستعدا للتراجع التكتيكي عن مواقفه عندما كانت الظروف تملي ذلك، وخاصة عندما يتضح له أن قراراته مرفوضة شعبيا. لم ينس التونسيون كيف تراجع بورقيبة عن الترفيع في سعر الخبز بل إنه حوّل تراجعه إلى نصر سياسي بعدما خاطب الناس بما يفهمون عندما خرجت الأمور عن السيطرة.
انسحبت البراغماتية كذلك على سياسته الخارجية لما دعا الدول العربية، مثلا، إلى الاعتماد على قرار التقسيم الأممي كأساس لحل النزاع العربي الإسرائيلي وإن كان اصطدم بجمال عبدالناصر، (وإن قالت مصادر بعد ذلك إنه كان يوافقه الرأي في السر ولم يكن يتجرأ على المجاهرة بذلك).
ومن منطلق تقييمه لميزان القوى خلال الستينات والسبعينات انحاز بورقيبة بكل وضوح إلى جانب الولايات المتحدة، سواء خلال حرب فيتنام أو الغزو الروسي لأفغانستان ومختلف محطات الحرب الباردة، ولكنه أيضا لم يتردد في التهديد بطرد السفير الأميركي من تونس وقطع العلاقات مع واشنطن لو هي صوتت في مجلس الأمن ضد التنديد بإسرائيل بعد إغارتها على حمام الشط جنوب العاصمة التونسية في أول أكتوبر 1985. وبالفعل لم تستعمل الولايات المتحدة عندها حق الفيتو لفائدة إسرائيل.
هناك إرث من الواقعية والعقلانية تركه بورقيبة ومازال يمكن أن يساعد تونس على النأي بنفسها عن المغامرات غير المحسوبة.
إرث يتضمن رؤية ثاقبة فقدتها تونس في معظم العهود بعده. وكذلك أيضا قدرة على تحديد الأولويات عندما تتراكم التحديات. قدرة على جعل عامل الزمن حليفا للقائد السياسي في كل مشاريع الإصلاح.
هناك بالطبع من المشككين من يقول إن الساسة يسعون لتوظيف تعلق الناس ببورقيبة الرمز والأسطورة أكثر من الاستلهام من سيرته.
ولكن التوظيف نفسه قد يكون من أفضل أنواع الاعتراف بما يمثله بورقيبة لأغلب التونسيين.
أن يتوسع إجماع التونسيين على استحضار إرث بورقيبة فذلك سوف يعني بالضرورة أنهم تقدموا أشواطا كبيرة نحو التصالح مع تاريخهم ومع هويتهم ومع أنفسهم قبل كل شيء.
نقلاً عن العرب اللندنية