إبراهيم الزبيدي
لا بد أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أن يرسل جيوشه إلى أوكرانيا، قد راجع حساباته وتشاور مع مخابراته، وتيقن من أن الولايات المتحدة ستكون ملزمة بأن تنتفض عليه وتضع كل خزائنها العسكرية والسياسية والمالية والتكنولوجية والإعلامية الهائلة، كلها، في حربِ حياة أو موت ضده، وضد كل من يحاول المساس بتفرّدها بقيادة النظام الدولي، ولكنه، برغم ذلك، غامر وقامر وأقدم على منازلتها ومنازلة حلف الناتو الذي تقوده.
ثم وقع المحذور، كما تَوقع، وهبَّت الولايات المتحدة الديمقراطية والجمهورية، معا، معلنة نفيرَها العام، لا بالعقوبات الخانقة غير المسبوقة التي سارعت إلى فرضها على روسيا من أول ساعات الغزو، بل باستخدام كل نفوذها لتوحيد أوروبا وراءها. فقد انشغلت بتسيير وفودها إلى حليفاتها حول العالم، وخاصة تلك التي تملك الطاقة، طالبة منها الانخراط في مشروعها لمنع الجيش الروسي من الانتصار في أوكرانيا، ولعزل الدولة الروسية عن العالم، وإنهاكها، وتحويلها إلى دولة من درجة كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران.
وطبعا لم تَغضَب الولايات المتحدة إلى هذه الدرجة الساخنة الحارقة حبا بزرقة عيون الرئيس فلوديمير زيلينسكي وعيون مواطنيه الأوكرانيين، ولا من أجل الدفاع عن حرمة الديمقراطية، ولا عن سيادة دولة مستقلة، كما تدعي، بل ليقينها بأن العالم يصنعه المنتصرون، وبأن الناس مع الواقف، وبالتالي فإن أي ثلم لهيبتها وجبروتها وسطوتها على العالم لا بد أن يوحّد عليها أعداءها التقليديين، الصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وإيران، ثم يشجع دولا أخرى على التمرد عليها، وعلى التحالف مع أعدائها.
الأكثر إيلاما للإدارة الأميركية فقد كان رفض ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي استقبالَ مكالمات هاتفية من الرئيس الأميركي بايدن
وهذا هو ما جعل الغزو الروسي لأوكرانيا هو الأخطر على الولايات المتحدة من احتلال بوتين لجزيرة القرم في 2014، ومن غزوه لجورجيا والشيشان، قبل ذلك، ومن حربه التدميرية في سوريا، وذلك لأنه سوف يفرض عليها أن تخوض، لاحقا، حروبا كثيرة وكبيرة في مناطق أخرى متعددة من العالم.
ومن مراقبة ضخامة شحنات المساعدات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية لأوكرانيا، وجولات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومن تحركات الرئيس الأميركي جو بايدن، نفسه، وتصريحاته اليومية، ومن متابعة أخبار متاعب الجيش الروسي وخسائره المتلاحقة، بفعل الدعم الأميركي – الأوروبي غير المحدود، وآخرُها تدمير أهم بوارجه الحربية في البحر الأسود، يمكن التكهن بأن المطلوب، أميركيا، من هذه الحرب أن تتحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تُنهك روسيا، وتقضي على طموحات بوتين الزعامية، وربما تسقطه، في النهاية.
وتؤكد صحيفة واشنطن بوست أن “الكثير من الإجراءات التي تبنّتها الولايات المتحدة والغرب ستظل قائمة حتى بعد انتهاء الحرب”.
والتحذيرات الأميركية والأوروبية الحازمة العلنية والسرية للصين من دعم بوتين بأي شكل من الأشكال لا تعني سوى أن الولايات المتحدة تخوض حربها لا مع روسيا، فقط، بل مع كل من يؤيدها أو يعاونها، وجعله عبرة لمن يعتبر.
ثم جاء التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة على قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ليضاعف من قلق الولايات المتحدة على هيبتها في العالم.
فقد أظهر لها أن دولا عديدة تُعدُّ من حليفاتها المؤتمَنات، على مدى سنوات، تَبيَّن أنها كانت تتحين الفرص المواتية للتمرد عليها لتصفية حساباتها مع سياساتها المؤذية الابتزازية الانتهازية السابقة.
فقد اعتبرت صحيفة “ناشيونال أنتريست” الأميركية أن رفضَ 35 دولة دعمَ القرار المناهض لروسيا في الأمم المتحدة “علامةٌ مزعجة ومقلقة”.
التحذيرات الأميركية والأوروبية الحازمة العلنية والسرية للصين من دعم بوتين لا تعني سوى أن الولايات المتحدة تخوض حربها لا مع روسيا، فقط، بل مع كل من يؤيدها
فبالرغم من أن 141 دولة صوتت لصالح القرار من مجموع 193، وأن خمس دول، فقط، عارضته، إلا أن الذي أقلق الإدارة الأميركية على مشروعها الهادف إلى تشكيل تحالف دولي منيع ضد بوتين، هو أن عدد الممتنعين عن التصويت كان 35 دولة.
ورغم أن امتناع كازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان وأرمينيا وكوبا ونيكاراغوا وبوليفيا والسلفادور عن التصويت كان متوقعا لدى الأميركيين، من قبل، إلا أن رفض الهند ودول شرق أوسطية، مهمة منها الجزائر والعراق الذي يعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي العسكري والاقتصادي الكبير هو المزعج المثير للاستغراب.
أما الأكثر إيلاما للإدارة الأميركية فقد كان رفض ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي استقبالَ مكالمات هاتفية من الرئيس الأميركي بايدن، حسب رواية وول ستريت جورنال التي قالت “إن المسؤولين السعوديين والإماراتيين أصبحوا أكثر توجّها نحو الصين في الأسابيع الأخيرة، وأكثرَ انتقادا للسياسة الأميركية في الخليج”.
والسؤال المهم الآن، إذا كانت كلُّ هذه التغيّرات المزعجة قد حدثت في مواقف دول العالم وبوتين محاصر ومُحبط، فكيف إذن سيكون الحال لو خرج منتصرا في أوكرانيا، ثم أغراه انتصارُه فيها فزحف على فنلندا ثم السويد، مثلا، قبل انضمامهما لحلف الناتو، وتبعته الصين فغزت تايوان، وتجرأت كوريا الشمالية فهاجمت كوريا الجنوبية، واضطرت الولايات المتحدة لأن تحارب في جميع هذه الجبهات دفعة واحدة؟ ألن يتلاشى النظام الدولي الحالي الأميركي ويحل مكانه نظام جديد يقوده تحالفُ المنتصرين؟
والشيء بالشيء يذكر. كيف كان العالم يبدو اليوم لو انتصر صدام حسين على إيران، مثلا، وتحقق له أن يحتل مناطق النفط والغاز في مناطقها الغربية، ثم غزا الكويت ولم تحشد الولايات المتحدة جيوشها وجيوش 30 دولة لإخراجه منها، وتخادمت معه بدل نظام الخميني، وتركت له حرية احتلال المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية الغنية بالنفط، ثم احتلال البحرين وقطر والإمارات، أما كان اليوم هو إمبراطور الشرق الأوسط الكبير، والمالك لثلاثة أرباع حاجة العالم إلى الطاقة؟ وأما كان اليوم هو أحد ثلاثة كبار، شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، يديرون العالم ويتحكمون بالنظام العالمي الجديد؟ وأما كان قصي صدام حسين هو وليَّ العهد الذي تسعى الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات لكسب ودَّه ورضاه؟ وأما كان علي خامنئي قد جُلب أسيرا مع كبار مساعديه العسكريين والمدنيين وأعدموا في ساحة الفردوس؟ وأما كان نوري المالكي وهادي العامري ومقتدى الصدر وفالح الفياض وأبوعلي العسكري وأبوفدك يعملون اليوم خدما في منزل أحد أحفاد القائد الضرورة، أو ضيوفا على إحدى مقابره الجماعية التي لا يجرؤ أحدٌ على أن يتحدث عنها إلا همسا وفي الخفاء؟
نقلاً عن العرب