محمد الرميحي
من النادر أن يكتب كاتب موضوعاً يعالجه بعقله ويتمنى في الوقت نفسه من كل قلبه أن لا يتحقق ما ذهب اليه، فرغم القبول الكبير للتطورات التي انتجها اللقاء التشاوري بين القوى اليمنية في الرياض بدعوة ومشاركة من مجلس التعاون الخليجي، وظهور المجلس الرئاسي الى العلن، إلا أن المراقب ما زال غير قادر على الاقتناع بأن اليمن في طريقه الى السلام. ربما الإنجاز الأهم أن الرئيس المغادر عبد ربه منصور هادي، من رؤساء اليمن القلائل الذين يغادرون منصبهم من دون دم.
هنا يتوجب أن نفرق بين مجمل الشعب اليمني المغلوب على أمره، وبين النخب اليمينة، بخاصة تلك التي ظهرت مع بزوغ الأيديولوجيات العربية المختلفة: الماركسية، القومية، والإسلام السياسي. تلك النخب لم تستوعب الخصوصية اليمنية والسواد اليمني لا يفهم رطانتها، فهو في الغالب يريد ان يؤمن عيشه بعد أن يؤمن حياته.
الرطانة الأيديولوجية غريبة على معظم أبناء اليمن وقامت النخب (كل في مسارها) بإضافاتها من خارج السياق الشعبي اليمني وهي لا تتسق مع ثقافته.
هذه النخب في الغالب غير قادرة على استيعاب أن التنظير يعاكس الواقع وبيع الأوهام لا يطعم الشعب.
فظهرت نتيجتان من هذا المسار، الأولى أن القوى الأيديولوجية في معظمها تلبست ملابس القبيلة والمنطقة، والثانية تطور عداء مرضي، وغير عقلاني للجوار، وبخاصة الجوار المحاذي وهو المملكة العربية السعودية، فسقط في عقل “الأيديولوجيين” بمعظم فروعهم أن المملكة العربية السعودية تضمر لهم شراً وهو ترويج متخيل يلمسه المقارب للنخب اليمنية، بل إن بعضهم وثق ذلك في أدبيات معروفة للمتابعين في شيطنة هذا الجار، في حين أن العقل والمنطق يقولان إن لا رغبة للمملكة ولا لأي من دول مجلس التعاون بموارد اليمن الذي يحتاج الى عون خارجي كثيف حتى يسير في أول درجات التنمية، فما عند اليمن من قليل عند الآخرين منه الكثير!.
إلا أنها الأدلجة وربما أيضاً “سندروم الجيرة” في خلق فزاعة! زاد الحوثي الرطانة برفع شعار “الموت لأميركا” ومن يموت في السنوات الأخيرة هو اليمني الذي يقضي إما بالرصاص أو بالجوع أو بالمرض.
المشهد السياسي اليمني يتسم بالعنف، فغالبية الأئمة الزيديين الذين تعاقبوا على حكم أجزاء من اليمن انتهت حياتهم قتلاً بسيوف اليمنيين أو بنادقهم (وفي أغلبهم بناء على فتوى)! أو ماتوا إثر إصابات سابقة لم تقتلهم في الحال! آخر النماذج الإمام يحي حميد الدين ونجله الإمام أحمد يحي حميد الدين!
في اليمن الجمهوري انتهت حياة الرئيس الحمدي مقتولاً (وشوهت صورته مع مجموعة نساء غريبات). بعده بأشهر قتل رئيسان لليمن الشمالي والجنوبي، الغشمي وسالم ربيع. قحطان الشعبي أول رئيس للجنوب سجن حتى توفي! كما انتهت حياة عبدالفتاح إسماعيل ومعه وزير دفاعه علي عنتر بشكل مأساوي! الرئيسان السلال والارياني انتهت حياتهما السياسية بانقلاب، وفي زمن الوحدة انتهت حياة أول رؤسائها علي صالح مقتولاً برصاص حلفائه! كل ذلك بسبب مفارقة الواقع والرطانة الأيديولوجية!
لذلك، الاحتفاء بخروج هادي من السلطة حياً استثناء وجب ذكره وحمده! هناك سلسلة طويلة من الدم الممزوج بالسياسة المتسمة بالشعارات في اليمن. فهل يصمد المجلس الرئاسي كي يأخذ اليمن الى بر الأمان؟ ذلك سؤال مفتوح على أكثر من احتمال!
اليمن يزخر بالموارد الاقتصادية الثرية، ولكن ما ينقصه هو التوافق على حكم مستقر وإدارة حديثة، وهو النادر في تاريخه، كان الأئمة في اليمن يلجأون الى فكرة الرهائن لإخضاع الشعب، يجبرون بعض مشايخ القبائل على إيداع أبنائهم في سجون الإمامة في ما يسمى “رهائن الطاعة”، وكان أغلبهم يموتون في السجون بالأمراض! ولكنها كانت طريقة بدائية للإخضاع.
وحتى الحكم الأخير لعلي عبدالله صالح فإن الأمن بمعناه الشامل لم يكن مستتباً، فإن خرجت من صنعاء تحتاج الى مرافقين مسلحين، لأنك لا تعرف متى وأين توقف من أجل دفع المقسوم وإلا حياتك!
في فضاء كهذا، ليس غريباً أن تستمر حرب أهلية كل هذه السنين وتقهر مجموع الشعب نخبٌ تحمل شعارات مختلفة ويستعين بعضها بدول من وراء الأفق لها مصالح غير مشروعة ترغب في تحقيقها.
موارد اليمن معروفة، من موقع استراتيجي وسواحل غنية وموارد معدنية متعددة ومياه وأرض قابلة للزراعة والاستصلاح وتاريخ ثري وحضارة وجزر يمكن أن تكون مكاناً رحباً للسياحة، وكلها مُضيعة!
لم يوفق اليمن بإدارة حديثة بسبب تنافس النخب المرضي، وفي بعضه الاستخفاف بمصالح الأغلبية، ففي “العهد الصالحي” (نسبة لعلي صالح) الطويل نسبياً، كان الزائر يشاهد في “مقايل القات” التقليدية في صنعاء المتناقضين السياسيين يتسامرون في ما بينهم، بينما في الحياة العامة كل فريق يحتكر الحكمة المطلقة ويستخف بآراء الآخر المخالف، وفي بعص الأوقات يستعان بالسلاح في دوامة غير منتهية من العنف.
وانتقل ذلك الى نخب ما بعد سقوط حكم صالح وقدوم الانقلابيين، فالجناح المناوئ للانقلاب منشق الى أجنحة و (قبائل) سياسية، في الغالب نظرية، من دون اهتمام كبير (إلا باللفظ) بمعاناة اليمني البسيط الذي يكتوي بآلام الفقر والعوز والمرض وصواعق الموت! أما الانقلابيون فهم يفرضون رطانة تراثية غير قابلة للتطبيق!
هذا التحليل قد يكون متشائماً، والمرجو عكسه تماماً، لكن ذلك يتوقف على وعي وأهمية تكاتف النخب اليمنية ووقف الصراع بينها وتقديم الخير العام على قاعدة هجر الرطانة، وقد يكون ذلك تمنياً!!
نقلاً عن “النهار”