صنعت المسلسلات مكانة جعلت منها قوة ناعمة لحث المشاهد على التفكير دون وصاية من أعلى
أمينة خيري
هذا العام، جنح النقد صوب أخلاق المجتمع، وتدين المتدينين، وشطح الشاطحين، ووطنية المواطنين، ومشاكل المطلقين، وحقوق النساء، وسطوة الرجال، وجمود القوانين، والاستيلاء على المواريث، والعنوسة، وقائمة طويلة من قضايا المجتمع المصيرية.
هذا العام، حتى النقاد المتخصصون في الدراما حادوا قليلاً أو كثيراً عن التدقيق في البناء الدرامي، والتأمل في أداء الفنانين، لمجاملة فنان عاد بعد غياب، أو لوم آخر زاد وزنه، أو بالغ في أدائه، أو أساء اختيار دوره.
متابعة الخدش والتحريك
الدراما الرمضانية تحفر لنفسها مكانة مختلفة وترسخ دورها باعتبارها قوة ناعمة ضاربة تنجح فيما تعثرت فيه قوى المجتمع السياسية والاجتماعية والدينية والإعلامية والتعليمية على مدار نحو عقد كامل، فيما بات يعرف في مصر بـ”معركة بناء الوعي”. صحيح إنه النجاح في هذا المضمار ما زال يقتصر على تحريك مياه النقاش الراكدة، وتليين مفاصل الحوار المتيبسة، لكنه يبقى نجاحاً عزيزاً طال انتظاره، والعبرة باستكمال المسار ومتابعة الخدش والتحريك.
خدش وتحريك ترسانة القوانين الظالمة للمرأة، سواء كانت قوانين وضعية، أو تلك التي فرضها المجتمع وصارت عرفاً، ونظرة المجتمع للمرأة التي اختارت ألا تتزوج أو ألا تنجب، وسكوت المجتمع على استيلاء الأخ على ميراث الأخت، ومعنى التدين، والتطرف، والتشدد، والخط الفاصل بين حرية الشخص في طريقة اعتناق المعتقد وحق المجتمع، قائمة طويلة من الأمور المستعصية والمشكلات المستفحلة المزمنة تدور على الشاشات منذ بدأ رمضان.
مذاق مختلف
ومنذ بدأ الشهر المبارك والدراما التلفزيونية المصرية لها مذاق مختلف وأثر مغاير وردود فعل غير مسبوقة مقارنة بأعوام مضت. الاختلاف لا يكمن في كونها أفضل أو أسوأ، ولكن في المحتوى الفريد الذي يجري حوله قدر هائل من الشد والجذب منذ أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، لكنه في مجمله شد سياسي وجذب اقتصادي وقودهما الدين وأرضيتهما بعيدة عن المواطنين.
فجموع المصريين غارقون تماماً في متابعة الوليمة الرمضانية الدرامية الفاخرة. والغالبية تدق بلا هوادة على أزرار الـ”ريموت كونترول” منتقلة بين ربوع نحو 36 مسلسلاً مصرياً، من “أحلام سعيدة” وما فيها من استيلاء الأخ على ميراث شقيقته وأزمة المرأة التي اختارت ألا تتزوج، إلى “الكبير أوي” وما يحمله في جزئه السادس هذا العام من قضايا متنوعة، حيث تنمر الصغار ببعضهم البعض في المدرسة، وإساءة معاملة الزوج زوجته باعتبار أن الإساءة إليها من أعمدة العلاقة الزوجية العادية، محتوى فارغ منزوع القيمة عديم الفائدة يقدمه مؤثرون ومؤثرات لهم ملايين المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية وما تحمله في طياتها من كوارث غير مرئية.
تستقر الجموع عند “الاختيار” في جزئه الثالث، مع جرعة إشهار الحقائق السياسية والكشف عن المخاطر الأمنية التي تعرضت لها مصر منذ هبوب ما يسمى بـ”رياح الربيع العربي” في 2011 وحتى العام الذي حكمت فيه جماعة الإخوان المسلمين مصر، ثم تلجأ إلى “جزيرة غمام” حيث كم مذهل من الإسقاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، معها “مانيفستو” لكيفية خراب البلاد أو بنائها في قالب خيالي تماماً.
كما تهرع الجموع إلى “العائدون” وكشف درامي لما تعرضت له مصر في السنوات القليلة الماضية من مؤامرات ومحاولات هدم عاتية عبر نشر الإرهاب واختراق “داعش” للبلاد بهدف إسقاطها، إلى “بطلوع الروح” وتعرية أخرى لـ”داعش” وغيره من جماعات الإسلام السياسي الغارقة في التطرف التي تعتنق المنهج التكفيري، ومنها إلى “راجعين ياهوى” ودق على أوتار النوستالجيا لزمن فات هو زمن الكاتب والسيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي يصفه مصريون بـ”الزمن الذهبي”.
وجبة معتادة بإضافات
هذه المسلسلات وغيرها تمثل وجبة رمضان الدرامية المعتادة، إذ يتفرغ ملايين المشاهدين للمتابعة، وعشرات النقاد للتدقيق والتحليل، ومعهم عشرات من المجالس والهيئات الرقابية لإصدار التقارير عن أي الأعمال احتوى مشاهد تدخين وتعاطي أو كلمات نابية أو أفكاراً شاذة، وأيها احترم مواثيق الدراما النظيفة والأعمال القويمة وقدم أعمالاً تعمل على بناء الوطن وتحسين أحوال المواطنين. لكن الوجبة تطل على المشاهدين هذا العام بمكون رئيس إضافي متغلغل في أغلب المسلسلات. هذا المكون يسميه البعض “قوة ناعمة” طال انتظارها، ويعتبره البعض الآخر سلاحاً جديداً في معركة الوعي التي أعيت الجميع.
سنوات طويلة مرت منذ أطلت على مصر قوى من نوع آخر سيطرت على العقول وهيمنت على القلوب وجعلت من أول انتخابات رئاسية “ديموقراطية” تقام في البلاد بعد أحداث يناير 2011 الترجمة الفعلية لما يزيد على نصف قرن من الاستلاب وتدمير القوى الناعمة. ولا يجوز فهم أثر هذا الاستلاب أو تقدير حجم الخراب الذي لحق بالقوى الناعمة دون النظر إلى ما جرى في سبعينيات القرن الماضي.
الكاتب الصحافي عبد المنعم سعيد رصد مشاهدة مما جرى في مقال عنوانه “في آداب معركة الوعي” (2021) قال فيه إن “الشيخ كشك (من الرعيل الأول لمشايخ التطرف الذين ذاع صيتهم في المجتمع المصري) كان أحد الأعلام ذائعة الصيت في سبعينيات القرن الماضي. وكان صيته راجعاً ليس فقط لإلقائه خطبة الجمعة في أحد مساجد القاهرة التي يغشاها عدد كبير من المصلين، وإنما لأنه اعتاد الإشارة مستنكراً إلى مشاهد من الأفلام والتمثيليات التلفزيونية، وذكر شطراً من الأغاني هنا وهناك لكي يدلل على مدى الفسق والفساد الذى وصل إليه المجتمع. وكانت لديه سخرية سوداء تذهب بالعجب من الكيفية التي يحث بها مستمعيه للابتعاد عن المشاهدة والاستماع والطرب مما كان يراه رجساً من عمل الشيطان”.
ويضيف سعيد أن “الشيخ كشك كان دائماً في حالة هجومية، ليس فقط على الممثلين والممثلات، وإنما أساساً على المستمعين في المسجد، أو في الطابور الطويل أمامه. كان هؤلاء هم الهدف، وهو الإحساس الدائم بالإثم والذنب والمعصية لأنهم يشهدون ويستمعون وياللفاجعة يستمتعون أيضاً”.
الشيخ كشك وآخرون
بالطبع لم يكن الشيخ كشك وحده من استهدف وعي المصريين، بل كان هناك العشرات من المنتمين لفكر جماعة الإخوان المسلمين وأبناء عمومها من جماعات الإسلام السياسي المختلفة. ويرى عبد المنعم سعيد أن ما جرى في مصر من تغييب للوعي وتخريبه لم يكن ليحدث ويصل إلى هذه الدرجة من الإرهاب والعنف والهيمنة على مجالس نيابية وأجهزة إدارية “إلا بفشل ذريع من المقابل المدني الحكومي والأهلي الذى انقسم بين اليمين واليسار، وبين التقليد والتجديد، وبين التيارات الليبرالية والاشتراكية والماركسية والناصرية وغيرها من التيارات التي وجدت نفسها في صراع مع بعضها البعض، عكس تيارات الشيخ كشك وأقرانه، الذين كان هدفهم دائماً التقويض الصبور طويل المدى، الذى لا ينتهى بالدولة إلا بعد المرور الدائم على المرأة والمسيحيين”.
أحداث عام 2011 أدت إلى تحالف “عجيب” للتيارين الأصولي الديني والمدني الليبرالي، وهو التحالف الذي نجم عنه تشرذم التيار المدني في خلافات وصراعات مع بقاء التيار الأصولي بأجنحته المختلفة. ويشير سعيد إلى أن سنوات مضت، وانهزم الإخوان والسلفيون والإرهاب، ورغم النصر، فإن المعركة لا تزال مستمرة.
انتصار المسلسلات
استمرار معركة بناء الوعي- أو إعادة بنائه- على مدار سنوات ما بعد سقوط حكم جماعة “الإخوان المسلمين” صادفت انكسارات أكثر من الانتصارات. لكن مسلسلات رمضان هذا العام تحقق انتصاراً من نوع آخر. فحين يغوص المصريون في جدال حول حقوق المرأة المطلقة في مصر، وإساءة استخدام بعض الأزواج للقانون كوسيلة ضغط على المرأة والانتقام منها، وتصف نساء مسلسل “فاتن أمل حربي” بأنه ينصفهن بعد طول ظلم، وينعته رجال بأنه مبالغة في إنصاف النساء؛ وحين ينشأ نقاش على صفحات مواقع التواصل عما إذا كان من اللائق أو المقبول أن تقرر امرأة ألا تتزوج أو تتخذ قراراً بعدم الإنجاب، وإن كان مثل هذا القرار ملكها وحدها أم أن المجتمع هو من يقرر لها؛ وحين يتناقش رواد مقهى بعد الإفطار إن كان الإخوان يشكلون مرجعية لفكر “داعش” أم أن لـ”داعش” فكراً مستقلاً، وإذا ما كان تجنيد كوادر للتنظيم يختلف عن تجنيد كوادر لـ”الإخوان”، فإن كل ما سبق يعني أن الجرعة الدرامية عامرة بالأفكار والقضايا التي تستفز العقول وتحرك الركود، وربما تقي شرور العودة إلى مربع الاستلاب من قبل الجماعات المتطرفة.
إحدى المحاولات الدرامية هذا العام لاستفزاز الوعي الذي يرزح جانب كبير منه تحت إمرة التديين الذي ساد في السبعينيات هو مسلسل “العائدون”. فبعد سنوات كثيرة من تصالح المجتمع المصري، ومعه الدراما المصرية، مع تغلغل الفكر المتطرف وقيم المغالاة في تفسير الدين، لدرجة وقوع البعض من أهل الفن أنفسهم في فخ تحريم كل كبيرة وصغيرة بما فيها الفن نفسه، يطل مسلسل “العائدون” مساء كل ليلة مصراً على جذب المشاهد خارج “منطقة راحته” أو Comfort zone.
وداعاً للتخدير
يقول الكاتب الصحافي محمد العسيري في مقال عنوانه “العائدون: لسه الكلام مانتهاش (لم ينته) بيننا” أن “المسلسل أحد الأعمال الدرامية هذا العام التي لا تريد خداع المشاهد أو الضحك عليه. إنه عمل فني لا يريد تخديرنا مجدداً، هو عمل كاشف لمهمة صعبة ومستمرة. كثيرون لا يستحضرون سوى الصورة الذهنية للعائدين من الجهاد في أفغانستان إلى بلدانهم، وهم محملون بأفكار ما أنزل الله بها من سلطان، متأرجحة بين قيم تنظيم القاعدة وأفكار طالبان ومرجعية الإخوان”.
صورة
ويتابع العسيري أن العائدين “هم بعض الذين وقعوا في حبال (داعش)، سواء عملوا في العراق أو سوريا لوقت محدد قبل أن يعود التنظيم لاستخدامهم في مصر. وهؤلاء الذين لم نكن نعرف عنهم شيئاً خرجوا من مصر في ظروف كانت مؤسساتنا قد أُنهكت وتعرضت لكثير من العطب في ذلك العام الحزين الذي وصل فيه الإخوان وحلفاؤهم إلى السلطة. والعائدون هذه المرة جاءوا من بلدان ليست بعيدة وفى أزمنة أقرب، فهم شباب سافروا بعد أحداث يناير ليتم تجنيدهم وتدريبهم لإكمال المهمة الكبرى”. ويشير العسيري إلى أن كم الجهد الذي بُذِل من قبل صناع المسلسل لتصل الفكرة هادئة دون صخب وواضحة دون مباشرة هائل، لكن المسلسل يحتاج جهداً موازياً في الفرجة (المشاهدة) عليه”.
اللافت أن وليمة رمضان لا تقتصر على الجرعة الوطنية التي بزغ نجمها في الأعوام الثلاثة الأخيرة، في ظل حالة الاستقطاب العنيفة التي شهدتها مصر منذ أحداث 2011 والانقسام المجتمعي بناء على مقياس ريختر للتدين ودرجة التعاطف مع جماعات الإسلام السياسي، لكنها تمتد إلى قائمة موضوعات وقضايا اجتماعية وحقوقية وأخلاقية وسلوكية ودينية استوجبت الطرح والنقاش والتفنيد، لكنها كانت أكبر من قدرات القوى الناعمة التقليدية، التي أنهكتها أحداث عقد كامل من الزمان، أو انشغلت عنها بقضايا أمنية أو سياسية آنية.
أعمدة القوى الناعمة
إذا كان الكاتب والسياسي الأميركي، الذي شغل مناصب قيادية وسيادية عدة في وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين ومجلس الاستخبارات الوطني، جوزيف ناي، حدد القوى الناعمة في ثلاثة أعمدة، هي القيم السياسية، والثقافة، والسياسة الخارجية، كما ورد في كتابه الشهير “القوة الناعمة”، فإن شاشات رمضان هذا العام تضيف الدراما التليفزيونية، باعتبارها أحد أعمدة القوى الناعمة. وهي ليست قوة ناعمة في سياق السياسة الخارجية، من حيث إقناع دول بجاذبية دولة ما أو التأثير عليها بتوجيه الرأي العام فيها عبر فيلم أو شطيرة “بورغر” أو مشروب غازي، لكنها قوة ناعمة موجهة هذه المرة إلى الداخل. هي قوة درامية تحمل أفكاراً وتطرح قيماً للنقاش وتتجرأ على الخوض في أعراف اكتسبت صفة القدسية، على الرغم من أنها من صنع الإنسان. قوة رمضان الدرامية هذا العام قائمة على الطرح دون صخب وإجبار المشاهد على التفكير دون شرط فرض الفكرة. هي أعمال درامية تقوم على إشراك المشاهد في عملية إعادة تشكيل وعيه بإجباره على التفكير فيما اعتبره من المسلمات منذ عقود.
نقلاً عن أندبندنت عربية