فؤاد مسعد
“إن الدين الذي يريد أن يستبدل التفكير الحر بأسرار صوفية، والحقيقة العلمية بعقائد جامدة، والفاعلية الاجتماعية بطقوس، لا بد أن يصطدم بالعلم”.
بيجوفيتش- الإسلام بين الشرق والغرب
*الطريق الثالث*
حين ينظر بيجوفيتش في كل من الروح والمادة، وما يتصل بهما من أفكار ورؤى، يلاحظ أن هناك ثلاث رؤى: الأولى دينية وتأخذ بدايتها من الروح، أما الرؤية الثانية فهي رؤية مادية تنطلق من المادة، بينما تنطلق الثالثة من الوجود المتزامن للروح والمادة معاً، وهي النظرة الإسلامية. وإذا كانت الأولى تعكس الضمير فالثانية تعكس الطبيعة أما الثالثة فتعكس الإنسان حين يجمعهما معاً.
ويمثل للأولى بالمسيحية، وللثانية بالمذاهب والنظريات المادية، بينما يمثل الإسلام الرؤية الثالثة.
الإنسان هو وحدة الروح والجسد، بينما الإسلام يشكل وحدة بين الدين الذي هو عماد الروح، وبين النظام الاجتماعي الذي يجسد النظرية المادية، حسب بيجوفيتش، ومن هذه الزاوية يكشف عن وسطية الإسلام بين تياري الروح والمادة، الأول ممثلا بالمسيحية والثاني ممثلا بالاشتراكية المادية، ليس من واقع فكرة الإسلام فحسب، ولكن من ممارسة الرسول محمد -عليه الصلاة والسلام، يقول بيجوفيتش:
لقد تجنب المسيح دخول القدس، لأنها مدينة الفريسيين، والمجادلين والكتاب والكفار وأصحاب الإيمان السطحي، ومن ناحية أخرى لا توجه الاشتراكية خطابها لأبناء الريف، وإنما تتوجه به لأبناء المدن الكبرى، أما محمد فكان يذهب إلى غار حراء ليتعبد، ولكنه كان يعود في كل مرة إلى المدينة الكافرة (مكة) لكي يؤدي رسالته.
وهو يجعل من المثالين السابقين دليلا على أن المسيحية في بداية ظهورها تجنبت المدن، وآثرت البقاء بعيدا عنها، بينما أولت الاشتراكية اهتمامها بالمدن وأهملت ساكني الأرياف، ومع ما أورده من وقائع واستشهادات تؤكد ما ذهب إليه إلا أنه يمكن ملاحظة نسبية هذا الاستنتاج في الحالتين، فالمسيحية لم يظل موقفها من باقي المدن كما هو من القدس في مرحلة زمنية سابقة، كما أن الاشتراكية عمدت لتعميم فكرتها وتجربتها في كل قطر استطاعت الوصول إليه سواء في ذلك المدينة أو الريف.
والأمر نفسه ينطبق على تجربة الرسول محمد في مكة، وهو ما عبر عنه بيجوفيتش نفسه بالقول: “إن كل ما حدث بمكة لا يمكن وصفه بأنه الإسلام، لأن الإسلام اكتمل وبلغ ذروته في المدينة، لقد كان محمد في غار حراء صائما متنسكا متصوفا حنيفا – والحنيف هو الشخص الذي ينبذ العقائد المزيفة ويلتزم بالدين الصحيح- وكان في مكة مبشرا بفكرة دينية، أما في المدينة فقد أصبح داعية إلى الفكرة الإسلامية، إن الرسالة التي حملها محمد رسول الله اكتملت وتبلورت في المدينة، فهناك وليس في مكة، كانت بداية ومصدر النظام الإسلامي الاجتماعي كله”.
وإن كان للأديان السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) دورها في التاريخ البشري، كما ذهب إلى ذلك بيجوفيتش، فإنه يقرر أن النجاحات والإخفاقات لكل من اليهودية والمسيحية توّجت بخبرة إسلامية عن الجنس البشري.
وحين يقرر بيجوفيتش أن الدين لا يمكن أن يؤثـر في العالم الدنيوي إلا إذا أصبح هو نفسه دنيويًّا، بمعنى أن يصبح معنياً بالسياسة في معناها الواسع، فإنه في هذه الناحية يعتبر الإسلام، مسيحية أعيد تكييفها تجاه العالم، كما “كانت المسيحية عودة للروح في قلب اليهودية، ومحاولة للتخفيف من غلوائها”. (علي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1).
وتبعاً لذلك أتى الإسلام يواجه في عيسى بن مريم اليهود، مفتتحاً الوحي الإلهي بقول الله تعالى: ” إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ”. (الزخرف:59).
وفي تمييزه بميلاد يختلف عن غيره “آية صارخة لمن طال عليهم الزمن فقست قلوبهم وتحجرت أفئدتهم، يردهم من خلالها إلى الروح التي باعوها لشياطين أنفسهم المادية”، وتتعزز وسطية الإسلام في هذا الموقف حين يثبت لليهود ما حاولوا إنكاره في عيسى، خاصة وأنهم لم يدعوا له مكاناً في تاريخهم، لكنه لا يقر للمسيحيين اعتباره إلهاً أو ابن إله. (المرجع السابق).
وعليه يمكن تعريف الإسلام بأنه دعوة لحياة مادية وروحية معاً. حياة تشمل العالمين الجواني والبراني جميعاً، كما يقرر القرآن: “وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”. (القصص:77).
يُكرّس كتاب التوراة فكرة الأذى بالأذى، ويدعو الإنجيل للعفو، أما القرآن فيؤلف مبدأه الخاص من الفكرتين السابقتين: “وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”. (الشورى:40) .
أتباع العهد القديم (التوراة) يستبعدون فكرة الخلود ويستحضرون دائما تحقيق الجنة على الأرض وتطبيق العدالة هنا والآن، وبالتالي فلا مجال للحديث عن العفو في مواجهة الأذى، ولا بد من مواجهة الأذى بالأذى، لكن لدى أتباع العهد الجديد (الإنجيل)، تحضر فكرة العفو كفكرة مفضلة على ما عداها، اعتماداً على قيم روحية تتسامى عن اجتراح الأذى، وتدعو من يقع عليه الاعتداء مهما كان قاسياً للعفو عن الفاعل.
*بين المسيحية والإسلام*
يقول بيجوفيتش إن المسيحية لم تبلغ الوعي التام بوحدانية الله، ورغم أن لديها مفهوم مفعم بالحيوية عن الألوهية، لكنها تفتقر لفكرة واضحة عن الله.
ومن ثم يستنتج أن مهمة محمد عليه الصلاة والسلام، أن يجعل الفكرة الإنجيلية عن الله أكثر وضوحاً وأقرب إلى عقل الإنسان وفكره. فالله هو الإله (الواحد) الذي تتوق إليه النفوس وتصبو إليه الأفكار النبيلة في العقول، وإذا كان الله في الأناجيل أب، فهو في القرآن رب العباد، هو في الأناجيل محبة، أما في القرآن فجلال يستحق الحمد والثناء.
هذه الخاصية في فهم المسيحية للألوهية انقلبت فيما بعد إلى سلسلة من الصور المختلطة ضحَّت بالوحدانية الأصلية للمسيحية في سبيل الثالوث وتكريس الأم العذراء والقديسين، فشخص المسيح وفقاً لهيجل “هو تقييم للطبيعة الإلهية، ومتعين كابن لله، وجزء من طبيعة الله ذاته”. (هيجل: محاضرات في تاريخ الفلسفة).
وهذا التطور –وفقا لبيجوفيتش- غير ممكن في الإسلام، فبرغم كل ما مرّ به من نكبات تاريخية، ظل أنقى أديان التوحيد.
وبمقارنة قاموسي المفردات المستخدمة في المسيحية والإسلام، يلاحظ بيجوفيتش ورود ألفاظ معينة في الإنجيل مثل: مبارك، مقدس، ملاك، الحياة الأبدية، سماوات، الفريسي، خطيئة، حب، ندم، عفو، سر، الجسد (كحامل للخطيئة)، النفس، تطهر، خلاص، .. إلخ، بينما الألفاظ نفسها في القرآن صيغت على صورة هذا العالم، واكتسبت تحديداً وواقعية، مثل: العقل، الصحة، التطهير (الوضوء)، القوة، الشراء، العقد، الرهان، الكتابة، الأسلحة، القتال، التجارة، الفاكهة، العزم، الحذر، العقاب، العدل، الربح، الانتقام، الصيد، الشفاء، المنافع، .. إلخ، وهذا دليل آخر على مقاربة الإسلام للحياة والواقع ودفع المؤمنين به لممارسة نشاطات الحياة وفق سنن الكون ونواميسه دون أن يكون في ممارستهم ما يتناقض مع مبادئ الإسلام وتوجيهاته.
ومن هنا يرى بيجوفيتش أن الإسلام لا يعرف كتابات دينية (لاهوتية) معينة بالمعنى المفهوم في أوروبا للكلمة، كما أنه لا يعرف كتابات دنيوية مجردة، فكل مفكر إسلامي هو عالِمُ دين، كما أن كل حركة إسلامية صحيحة هي حركة سياسية، وبيجوفيتش يتحدث هنا عن عموم ما يقتضيه الوعي الإسلامي في الفرد المسلم إذا ما كان مفكراً أو عالماً، وفي الكيان الإسلامي أو الإطار الذي يؤلف في مجموع أعضائه حركة إسلامية، وإن بدت صورتها في الواقع غير مكتملة كما ينبغي أو كما يفترضها بيجوفيتش، خاصة في العصر الحديث الذي عرف تراجع المسلمين في مجالات العلم والحياة والفكر كافة، ففي الشق الأول باتت الفجوة واسعة على مستوى الأشخاص بين الفكر الإسلامي والعلوم الدينية، كما هي الفجوة أكثر اتساعا لدى بعض الكيانات والجماعات بينها وبين السياسة.
وفي سياق متصل بمقارنته بين الديانتين يضع مقارنة أخرى بين المسجد والكنيسة، ثم يستنتج أن المسجد مكان للناس أما الكنيسة فهي معبد الرب. ففي المسجد يسود جو من العقلانية، وفي الكنيسة جو من الصوفية، ومن حيث موقع كل منهما يلاحظ أن المسجد بؤرة نشاط دائم وقريب من السوق في قلب المناطق المعمورة بالسكان، أما الكنيسة فتبدو أقل التحامًا ببيئتها، حيث يميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت والظلام والارتفاع، إشارة إلى عالم آخر، عندما يدخل الناس كاتدرائية قوطية يتركون خارجها كل اهتمام بالدنيا كأنهم داخلون إلى عالم آخر، أما المسجد فمن المفروض أن يناقش الناس فيه بعد انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم، وهذا هو الفرق.
ويأتي إلى الوجه الثالث للمقارنة، ويتمثل في هوية المخاطَب في الكتابين المقدسين، ففي حين يتوجه الإنجيل إلى الإنسان، يتوجه القرآن إلى الناس، يتسق الأول اتساقاً تاماً مع روح الصفوة المسيحية ومبدئها الهرمي المقدس، أما القرآن فيتضمن دلالات دنيوية معينة، ويشير إلى الناس كتعبير عن العقل العام رفيع الشأن، لأن الإسلام لا يعترف بالصفوة، رهباناً كانوا أو قديسين، ولا يوجد فيه برنامجان: واحد للمختارين وآخر للناس العاديين.
ويدعو بيجوفيتش للنظر في الظروف التي أحاطت بظهور الإسلام لأنه يساعد على فهم الإسلام فهماً أفضل، حيث كان العرب قوماً ممتلئين بالنشاط والحيوية، وكانت لديهم تقاليد تجارية تتسم بالعناء والمشقة، كما كانت لديهم تقاليد دينية ميتافيزيقية. ولم تكن كعبتهم مركزاً دينياً فقط، إنما مركزاً تجارياً أيضاً على مدى القرون، لم تكن الظروف الطبيعية المحيطة بهم لتسمح لهم بتجاهل أهمية العامل الاقتصادي في الحياة، فلم تكن بلاد العرب مثل مدينة الجليل الخصبة مهد المسيحية حيث يستطيع الإنسان أن يعول نفسه بقليل من الجهد، وإنما كانت الحياة في بلاد العرب شاقة لا يمكن كفالتها إلا بالجهد والعناء، كان عليهم أن يتحملوا مشقة الرحلات الطويلة لقوافل الجمال، أو العمل المُضني لزراعة قدم واحد من الأرض، أو الحصول على جالون واحد من الماء، وفي الوقت نفسه كانت حياة الصحراء تثير وتدعّم مشاعر دينية قوية وعميقة في نفوسهم، وتحت التأثير الدائم لهاتين الحقيقتين المتعارضتين، تشكلت عبقرية العرب وغريزتهم، والمهم أنها هيأتهم لاستقبال قدرهم، ألا وهو الإسلام، الذي جمع في تعاليمه بين السماء والأرض.
تستطيع الأناجيل أن تقول: “عِشْ كما تحيا الزنابق في الحقول”، ولكن القرآن يحث الناس على الكدح والسعي وراء العيش فيقول:
“وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا”. (النبأ:11)
ويذكرهم بنعمة النهار المضيء الذي يسهّل السعي والحركة والعمل، فيقول: “اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ”. (غافر:61).
ويطالبهم بالسعي في طلب الرزق بعد ما يفرغون من أداء العبادة: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”. (الجمعة:10).
غير أن فريقاً من المسلمين قصروا الإسلام على جانبه الديني الروحي، وأهملوا الجانب المادي، فأهدروا وحدة الإسلام ثنائية القطب، كما يقول بيجوفيتش، لأنهم اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية، فتدهورت أحوال المسلمين، وضعف نشاطهم بعد ما أهملوا دورهم في هذا العالم، وتوقفوا عن التفاعل معه، لتصبح الدولة الإسلامية كأي دولة أخرى، ويصبح تأثير الجانب الديني في الإسلام كتأثير أي دين آخر، وتصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها، في حين يبدأ الدين الخامل يجرّ المجتمع نحو السلبية والتخلف. ويشكل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون، ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية، والشعراء السكارى، يشكلون جميعاً الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام. وهنا نعود إلى المعادلة المسيحية: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
*الثنائية في الإسلام*
تتجلى الثنائية في الإسلام في أمور كثيرة بدءا بمصدريه الأساسيين: القرآن الكريم والسنة النبوية، ويمثل الأول الإلهام والثانية الخبرة، يرتبط القرآن بالخلود والسنة بالزمن، إنها ثنائية التفكير والممارسة، الفكر والحياة كما يراها بيجوفيتش الذي يقرر أن “الإسلام طريقة حياة أكثر منه طريقة تفكير، وتشير جميع التفاسير القرآنية إلى أنه بدون السنة النبوية، أي بدون حياة النبي يتعسر فهم القرآن فهماً صحيحاً، إنه فقط من خلال فهم حياة الرسول يعرض الإسلام نفسه كفلسفة عملية أو خطة شاملة للحياة كلها”.
وإذا أضيف إلى المصدرين فكرة الإجماع فستتجلى الثنائية نفسها لكن بشكل آخر، فالإجماع عند الإمام الشافعي يعني: اتفاق جميع الآراء، وعند الطبري والرازي: اتفاق أغلب علماء الفقه، وبالتالي فالثنائية في الإجماع تشتمل على مبدأي الصفوة والعدد معاً، ففي الإجماع توجد الصفوة النوعية (الأرستقراطية)، كما يوجد الجانب العددي (الديمقراطية).
وتتجلى الثنائية أيضا في مبادئ الإسلام وأركانه، إذ الصلاة انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم، حيث إنه لا صلاة بدون طهارة ولا جهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها، وبالتالي فإن الصلاة تعتبر أكمل تصوير لما يطلق عليه بيجوفيتش “الوحدة ثنائية القطب في الإسلام”.
كما يرى بيجوفيتش في إعلان الزكاة دلالة على أن الإسلام بدأ يتخذ وضع الحركة الاجتماعية، إذ جاء فرض الزكاة استجابة لظاهرة ليست في حد ذاتها واحدية الجانب، لأن الفقر ليس قضية اجتماعية بحتة، وسببه ليس في العوز فقط، وإنما أيضًا في الشر الذي تنطوي عليه النفوس البشرية، فالحرمان هو الجانب الخارجي للفقر، وأما جانبه الباطني فهو الإثم أو الجشع، وإلا فكيف يُفسر وجود الفقر في المجتمعات الثرية؟
إن الفقر مشكلة، يقرر بيجوفيتش أنه لا يعالج بنقل ملكية بعض السلع، وإنما أيضا من خلال التضامن الشخصي، والقصد والشعور الودي، فلا شيء يمكن إنجازه على الوجه الصحيح بمجرد تغيير ملكية سلع العالم طالما بقيت في النفوس الكراهية والاستغلال والاستعباد، ويرى أن هذا هو السبب في إخفاق الثورات الدينية المسيحية والثورات الاشتراكية، وينقل عن ألبير كامو: “على مدى ألفيْ سنة لم ينقص حجم الشر في العالم، ولم تستطع إمبراطورية مقدسة أو إمبراطورية ثورية الوصول إلى غايتها المأمولة”.
عن البعد الأخلاقي والإنساني لفريضة الزكاة يتحدث بيجوفيتش، وهو الذي خبر شئون الاقتصاد من خلال عمله عشرين عاماً في شركة تجارية، وحصوله على شهادة عليا في الاقتصاد، يقول: كل مجتمع مستقر يُدعّمه ـ بالإضافة إلى المعايير الأخلاقية والإنسانية ـ مبدأ البقاء، وقَدَرُ المجتمع الإسلامي أن يبلغ الحد الأقصى من الناحية الإنسانية ومن ناحية الكفاءة معاً، فليس إسلامياً أن تهدد الاعتبارات الإنسانية استقرار المجتمع، وبالعكس، إذا سمح التأكيد المُغالى فيه على الكفاءة والقوة بإهدار المبادئ الأساسية للحرية وحقوق الإنسان والإنسانية، فدستور المجتمع الإسلامي يتحدد بالتحام هذين الشرطين المتعارضين: أقصى الإنسانية وأقصى الكفاءة.
ثم يجمع بين الصلاة والزكاة مقرراً أن المعادلة القرآنية المألوفة التي تجمع بينهما ليست إلا صيغة مُعيّنة من معادلة أخرى ثنائية القطب أكثر تكرارًا وأكثر عمومية، وهي “آمن وافعل خيرًا”، في إشارة لحديث الرسول لسفيان بن عبد الله عندما قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، فقال: “قل آمنت بالله، ثم استقم”. (رواه مسلم في الصحيح)، قال بعض الفقهاء أن المقصود: استقم كما أمرت، ممتثلاً أمر الله تعالى، مجتنباً نهيه.
وهذه المعادلة يعتبرها بيجوفيتش الأساس الجوهري للأوامر الدينية والأخلاقية والاجتماعية في الإسلام، إذ تحدد العمودين اللذين لا بديل لهما، واللذين يقوم عليهما الإسلام كله، ولعله من المناسب النظر إلى هذه المعادلة باعتبارها أول صيغة للإسلام وأرفعها، فالإسلام بكامله يقع تحت صيغة الوحدة ثنائية القطب.
إن الإسلام يدافع عن الحياة الطبيعية ولا يكرس الزهد، ويدافع عن الثراء ضد الفقر، وعن قدرة الإنسان على الطبيعة، والحياة في الإسلام -وفق ما يرى بيجوفيتش- يحكمها عاملان متكاملان، أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة، والثاني الكمال الأخلاقي، أو الخلْق الدائم للذات. هذان العاملان يتعارضان، ويطرد أحدهما الآخر في إطار المنطق النظري فقط، لكنهما يتآزران بطرق عديدة في الحياة، وهذه إمكانية مُنحت فقط للإنسان، ومن خلالها يتم الحكم عليه، ويقرر أن هذه “الثنائية ليست فلسفة سامية، وإنما هي نوع من الحياة الإنسانية السامية”.
إنه الانتقال من فلسفة سامية تتغيا السمو الإنساني إلى ممارسة الحياة الواقعية استناداً لقيم الإسلام ومبادئه التي جعلت السمو هدفها، لكن دون أن تتنكر للواقع أو تتنصل من تبعاته، وتلك فلسفة الإسلام كما قرأها بيجوفيتش.
المقال جزء من دراسة للباحث نشرها مركز نماء للدراسات بعنوان: منظور بيجوفيتش في التوفيق بين الدين والفلسفة.