علي الصراف
إحدى أهم المشاكل المتوارثة في الولايات المتحدة هي أنها تؤمن بقدرتها على ارتكاب أخطاء.
تختار واشنطن سياسات خاطئة باستمرار. بعضها يقوم على أساس انطباعات شخصية أو مختصرات أيديولوجية جاهزة، أو معلومات سياحية. وتعتقد أن قوتها العظمى قادرة على التصويب.
غزو العراق واحد من آخر الأمثلة. والتواطؤ مع إيران لتسليم العراق إلى ميليشيات تابعة للحرس الثوري، مثال آخر. والاتفاق النووي مع إيران مثال ثالث. وترك أزمة الشرق الأوسط تهدأ وتستعر مثال رابع. وحرب أفغانستان وبناء نظام هش لا يتوافق مع المعايير الأميركية نفسها، مثال خامس. وبناء علاقات التحالف الاستراتيجي مع الشركاء الإقليميين على أساس معايير مزدوجة مثال سادس. والتقلبات المزاجية في البيت الأبيض حيال هذه القضية أو تلك، مثال سابع. والأمثلة لا تعد ولا تحصى.
الكل يعرف الآن أن توقيع الاتفاق النووي مع إيران في العام 2015 كان خطيئة، لأنه قام على معلومات سياحية، أو أقل، عن طبيعة النظام الإيراني، وما يشكله من أخطار على الاستقرار الإقليمي. تلك المعلومات السطحية سمحت للولايات المتحدة بأن تقدم العراق لميليشيات إيران على طبق من فضة، مقابل الحصول على بعض المنافع. ثم اتضح أن هذه المنافع أصبحت عرضة للتهديد، من جانب إيران نفسها، بعد أن ظنت إدارتان جمهورية وديمقراطية أنه يمكن الثقة بمنافع التواطؤ المتبادل.
ولقد خرجت إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي، لأنها رأت جانبا من العواقب. فالعراق الذي أنفقت الولايات المتحدة من أجل السيطرة عليه نحو تريليوني دولار، انتهت فيه إلى ضحية لهجمات الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني.
محاولات العودة إلى الاتفاق النووي قامت هي نفسها على افتراضات سطحية. أقل من سياحية أيضا، عن طبيعة الأخطار التي تشكلها إيران.
الرئيس الأميركي جو بايدن قدم التعهد بالعودة إلى الاتفاق النووي على أساس اعتبارات شخصية تتعلق بموقفه من الرئيس ترامب. هذا الأساس، كان من أساسه، فاسدا. حتى المعلومات السياحية أفضل منه.
لم يثبت في أي مرة من المرات التي ارتكبت فيها الولايات المتحدة أخطاء في هذه المنطقة، أنها قادرة على تصويب ما فعلت. حتى أصبح التخلص منها ومن أعبائها حلما نبيلا.
الافتراض الذي ظل يهيمن على خيارات البيت الأبيض يقوم على منع إيران من الحصول على “قنبلة نووية” أو على قدرات نووية صالحة للاستخدام العسكري. أما الاعتبار “الاستراتيجي” الذي وقف وراء هذا الافتراض، فهو أن المواجهة مع “إيران نووية” تختلف جذريا عن المواجهة مع إيران ذات قدرات عسكرية تقليدية.
يبدو الأمر من هذه الناحية عميق الفهم، إلا أنه غبي في الوقت نفسه، لسببين على الأقل:
الأول، هو أن المواجهة مع إيران لن تحصل من الأساس. فبرغم الكثير من الخطط والمزاعم، فقد أثبتت أربعة عقود من الكلام الفارغ، أن الأمر كله كان مجرد حملة لبيع الأوهام. وعندما أدركت إيران هذه الحقيقة، فقد كان من الطبيعي أن تتنمر، لأنها لم تعد تخشى شيئا. وقدمت الاعتداءات الإيرانية المتواصلة، والمتحدية، دليلا بعد آخر على ذلك. وبدلا من المواجهة، اختارت الولايات المتحدة الهرب. فزادت الطين بلة على نفسها وعلى أمن المنطقة.
والثاني، هو أن ميليشيات الإرهاب وزعزعة الاستقرار هي الخطر الذي يواجه المنطقة، وليس ما إذا كانت إيران تملك سلاحا نوويا أم لا.
بعد ثماني جولات من مفاوضات استغرقت أكثر من عام، ارتكبت إدارة الرئيس بايدن قائمة جديدة من الأخطاء ولم تعثر على صواب واحد. لا تنس، أن الأساس كان هو نفسه فاسدا.
بدأت الهزيمة من قبول العودة إلى التفاوض مع إيران من دون أن تشترك الولايات المتحدة في المفاوضات بشكل مباشر. قبلت واشنطن بأن تتعرض للإذلال والمهانة. وظلت تقبلها من بعد ذلك، بشروط تزداد تطلبا من جانب إيران، حتى وصلت إلى حد المطالبة برفع اسم الحرس الثوري الإيراني من قائمة التنظيمات الإرهابية، وبإلغاء الفقرة المتعلقة بـ”آلية فض النزاع” أو ما يسمى “آلية الزناد” من الاتفاق نفسه الذي يريد الرئيس بايدن العودة إليه. وذلك في إذلال ومهانة أخرى. وتلك الآلية تجيز العودة إلى فرض العقوبات إذا ما ثبت أن إيران تجاوزت التزاماتها.
العودة إلى الاتفاق النووي، تعني في حدها الأدنى:
1ـ إعادة تمويل إيران بمئات المليارات من الدولارات، سواء بالإفراج عن أموالها المجمدة، أو بالعودة إلى سوق النفط.
ظلت المنطقة تدفع الثمن، بينما تهرب الولايات المتحدة من مسؤولياتها المزعومة وتعهداتها الوهمية. ومن بعد الإذلال والمهانة اللذين قبلت بهما من إيران
2ـ عودة إيران إلى أسواق الأسلحة، وهو ما اعتبره الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني في الحادي عشر من نوفمبر 2020 “نجاحا سياسيا هائلا بالنسبة إلينا. فعندما يتم رفع العقوبات العسكرية، يمكننا بسهولة شراء وبيع الأسلحة… هذه واحدة من النتائج المهمة للاتفاق النووي”.
3ـ عدم المساس ببرنامج إيران الصاروخي، وهو حجر زاوية في التهديدات الأمنية، مع أو دون رؤوس نووية.
4ـ عدم المساس بأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة، ولا بميليشياتها، لاسيما وأنها هي رأس الحربة في تلك الأنشطة.
إدارة الرئيس بايدن رضيت بكل ذلك، إمعانا في قبول الإذلال والمهانة.
لم يلاحظ مفاوضو واشنطن شيئين على الأقل:
الأول، هو أن إيران يمكن أن تتخلى عن كل ما قامت به من خروقات لالتزاماتها في الاتفاق النووي. إلا أن هذه الخروقات قابلة للاستئناف في أي وقت. لأنك حتى إذا قمتَ بتدمير الآلاف من أجهزة الطرد المركزي، فإن إعادة بناء الآلاف غيرها لن يستغرق وقتا طويلا. ولا توجد ضمانات، على أي حال، بأن تدمير تلك الأجهزة سوف يحصل من الأساس.إنما لكي ترى حجم المذلة.
والثاني، هو أن إيران لا تريد من العودة إلى الاتفاق النووي، أكثر مما يمكن أن تحصل عليه من أموال في غضون الوقت المتبقي لإدارة الرئيس بايدن. هذا الوقت سوف يسمح لها بالحصول على نحو 400 مليار دولار. وحتى لو جاءت إدارة أميركية جديدة قد تلغي الاتفاق، فإن هذه الأموال تكون قد دعمت “صمود” الحرس الثوري الإيراني، ودعمت بقاء النظام وانتهاكاته وجرائمه، ووفرت له القدرة على استئناف كل ما سبق من خروقات نووية، من دون أن تبدو إيران في وضع دبلوماسي حرج. الولايات المتحدة هي التي ستكون في هذا الوضع الحرج.
لم يثبت في أي مرة من المرات التي ارتكبت فيها الولايات المتحدة أخطاء في هذه المنطقة، أنها قادرة على تصويب ما فعلت. حتى أصبح التخلص منها ومن أعبائها حلما نبيلا.
ظلت المنطقة تدفع الثمن، بينما تهرب الولايات المتحدة من مسؤولياتها المزعومة وتعهداتها الوهمية. ومن بعد الإذلال والمهانة اللذين قبلت بهما من إيران، ظلت تتنمر علينا نحن. يا للعجب. حتى وهي لا تعرف عن دولنا أكثر من معلومات سياحية وانطباعات شخصية وخلاصات أيديولوجية مسبقة.
قوة عظمى تقبل الذل والمهانة، ولا تحترم حلفاءها، وتبني سياساتها على مزاج متقلب، لا تستحق حتى أن يقال لها: هالو.
نقلاً عن العرب اللندنية