نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق
لا يختلف أحد على أن العالم، أو على الأقل الساحة الأوروبية، تمر بمرحلة بالغة الخطورة، وقد تكون الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، لاعتبارات عدة على رأسها أن النزاع الدائر بين روسيا والغرب يتعلق في المقام الأول بتعارض الرؤى الغربية والروسية وتناقض مواقفها حول مفاهيم التوافق الأمني بينهما منذ منتصف القرن الماضي، وهو أن لكليهما مناطق ومساحات نفوذ لا يتم تجاوزها من قبل الطرف الآخر.
اهتزت هذه المفاهيم جزئياً مع انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو المشكل من الدول الاشتراكية الموالية له، وقبلت روسيا على مضض حينذاك ولعقود من الزمن توسع حلف شمال الأطلنطي شرقاً خلال مرحلة لم الشمل الداخلية والتقاط الأنفاس، وإن لم تكن راضية عما حدث، وظلت عاقدة العزم على استعادة بعض نفوذها لاحقاً أو على الأقل كبح جماح التوسع الغربي، واختارت لاحظة الانكماش الريادي الأميركي والاضطراب الأوروبي لخطواتها في أوكرانيا.
وبالغ الغرب في طموحاته وجنوحه شرقاً وبخاصة الولايات المتحدة، مبرراً التحرك بأنه استجابة لحقوق مشروعة لشعوب شرق أوروبا في اختيار النظام السياسي الذي تبتغيه، وهو حق يراد به باطل، ومن مؤشرات ذلك تصريح وزير الدفاع الأميركي أخيراً بأن من أهم الأهداف الأميركية إضعاف روسيا، فضلاً عن أنه يعكس ازدواجية في المعايير الأميركية والغربية من حيث تمسكها بأن تكون لها مناطق وساحات نفوذ لا يسمح بتجاوزها وعدم قبول تمسك روسيا بالشيء نفسه.
ومن ثم فمن أخطر تداعيات أحداث أوكرانيا الأخيرة أن النظام الدولي المعاصر أو على الأقل بين الدول الكبرى أميركا وروسيا وستنضم إليهما الصين هي الآن في مرحلة إعادة تشكيل مرحلة قد تطول وتشهد تنازعات أمنية واقتصادية مختلفة، مع سعي الولايات المتحدة للحفاظ على ريادتها العسكرية والأمنية والاقتصادية على مستوى العالم، ورفض كل من روسيا والصين ذلك، بخاصة أن هناك محاولات أميركية متكررة ومستمرة لعدم إعطاء المزايا نفسها والحقوق للدول الكبرى الأخرى.
ومن أهم المخاطر الأمنية الأخرى المرتبطة بأحداث أوكرانيا عودة الحديث عن تصعيد عسكري بالغ، تكرر في تصريحات وزير خارجية روسيا عن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، وحديث الرئيس الروسي بوتين عن التهديد النووي وعن تكنولوجيا صواريخ جديدة عابرة للقارات من طراز “سارمات”، باعتبارها تكنولوجيا روسية فريدة لا تتوافر للآخرين، وأن بلاده على استعداد لاستخدامها إذا اضطرت لذلك، وبما يشكل تهديداً صريحاً، ويعود بنا مرة أخرى إلى النظريات الخرافية للحرب الباردة عن توفير الأمن من خلال التهديد الرادع “بالفناء المتبادل”.
لم تشهد العلاقات بين الدول الكبرى مرحلة مماثلة من التوتر والتصعيد منذ أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962، قبل أن تتغلب حكمة الرؤساء على طموحاتهم، ويعود العالم سريعاً من حافة حرب نووية، وشهدنا تصعيدا نووياً أميركياً محكوماً خلال حرب 1973 في الشرق الأوسط، كرسالة غير مباشرة للاتحاد السوفياتي بعدم المبالغة في توفير العتاد لمصر وسوريا في حروبهما لتحرير الأراضي العربية المحتلة من قبل إسرائيل.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ الحالتين المشار إليهما وضع الاتحاد السوفياتي وأميركا نظاماً دقيقاً لتبادل المعلومات والمكاشفة عن سياساتهما النووية وتمركز قواتهما ودرجات الاستعداد لقواتهما النووية تجنباً للأخطاء أو سوء التقدير، وهي إجراءات تم وقفها بشكل شبه كامل، مما أفقد الجانبين آلية لضبط النفس والمراجعة العاجلة، وفتح الباب على مصراعيه لنظريات متبادلة عن النوايا الحقيقية للطرف الآخر، وأدخل مرة أخرى الخيار النووي في الحسابات الأمنية بين الدول، وهو أمر جد خطير.
أي إن حيازة الدول السلاح النووي، بأشكاله المختلفة، والتهديد باستخدامه أصبح مرة أخرى من الاحتمالات الواردة، وهو ما يفتح الباب مرة أخرى إلى تطلع الدول للحصول عليه، فحتى في الساحة الأوكرانية، دولة كانت على أراضيها أسلحة نووية كجزء من أجزاء الاتحاد السوفياتي، يلاحظ تنامي الأحاديث عن احتمال تصنيع أسلحة الدمار الشامل البيولوجية من قبل الغرب، أو احتمال استخدام روسيا للأسلحة النووية التكتيكية، ولا أعتقد أن من محض الصدفة أن تتزامن مع ذلك تصريحات من كوريا الشمالية عن تطوير قدرات بلادها الصاروخية.
والخلاصة الثانية هي أن العالم يعود مرة أخرى إلى مرحلة من التصعيد العسكري، بما في ذلك احتمال حيازة وتهديد باستخدام أو حتى استخدام أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الأسلحة البيولوجية والنووية بخاصة الأسلحة النووية التكتيكية.
ولا يخفى على أحد أن الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم اضطراباً واستخداماً لأسلحة الدمار الشامل الكيماوية، وتشمل دولة نووية غير معلنة هي إسرائيل، وبرنامجاً نووياً إيرانياً مصدر قلق لكثير من الأشقاء العرب، بخاصة مع سياساتها الخشنة المهيمنة في مناطق متعددة في الشرق الأوسط.
وهناك تداعيات أمنية عديدة للأوضاع الأخيرة الأوكرانية على الأنماط السياسية العسكرية في الشرق الأوسط، يجب أخذها في الحسبان أو الاستعداد لها، حتى إذا لم تتضح الرؤية حتى الآن. ومن تلك التداعيات ماذا يكون رد الفعل الإيراني إذا لم يتم التوصل إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي بينها والدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا، وبعد أن بات واضحاً أن الرغبة السياسية لدى الجميع متوفرة، وأن أغلب النقاط الفنية تم تجاوزها، وأن من أهم المشكلات العالقة قضايا سياسية مثل رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، خطوة تتردد إدارة بايدن في الالتزام بها، وسيزداد هذا التردد مع اقتراب الانتخابات في الكونغرس والسباق الشديد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول الأغلبية في مجلسي المؤسسة التشريعية الأميركية.
والموقف الإسرائيلي من كل ذلك أيضاً محير، فهل تلجأ إلى الإعلان عن أنها دولة نووية كرد فعل لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، أو في سياق معادلة شرق أوسطية جديدة والتوازنات في المشرق العربي، مع استمرار تواجد إيراني منضبط، وإنما مقلق في سوريا ولبنان.
هل تلجأ إسرائيل أو حتى إيران إلى التنويه عن توافر قدرات ذاتية لتصنيع الأسلحة النووية التكتيكية لضبط صراعهما إقليمياً وخروج الحسابات عن التوازنات الدولية؟ علماً أن الأسلحة النووية التكتيكية في شكل قنبلة واحد كيلو طن توازي التفجير الذي شهدته العاصمة اللبنانية بيروت عام 2020 لكميات من نترات الأمونيا، التي أحدثت تدميراً كبيراً للساحة على مدار 400 متر تقريباً، وهو ما يفتح الباب أيضاً لحديث عن أسلحة كيماوية وبيولوجية.
وإذا لجأت إسرائيل أو إيران إلى حيازة أو التهديد باستخدام الأسلحة النووية فماذا يكون الموقف العربي؟ هل ينتهي بنا إلى صراع منافسة نووية شرق أوسطية سعياً للحماية المشروعة لمصالحنا وحدودنا؟ أم نسرع من الآن في تنشيط الجهد لوضع ضوابط أكثر تحديداً ودقة لحماية المنطقة من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، من خلال توسيع الاتفاق النووي مع إيران كخطوة نحو إنشاء منطقة منزوعة السلاح النووي، أو على أقل تقدير أن يستكمل هذا الاتفاق ببروتوكولات إضافية، أحدها يضع خريطة طريق نحو اتفاق إقليمي لحظر الأسلحة النووية عن المنطقة، والآخر يشمل إعلان مبادئ عن العلاقات بين الدول في الشرق الأوسط. مبادرات وأفكار وتحرك أراه ضرورياً، وأعتقد أن مصر والسعودية هما الأقدر على تبنيهما وتحريكهما.
نقلاً عن أندبندنت عربية