أحمد حافظ
أن يتحوّل مذيع أو مراسل حربي إلى جليس في المنزل مع الأزمات التي يعيشها الإعلام في مصر، فهذا أمر طبيعي يعاني منه كثيرون، لكن عندما يتحول أحد أشهر المراسلين الحربيين الذي كان ذات يوم علامة مميزة لنشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون المصري إلى مقدم برنامج طبخ فتلك مفاجأة تستحق الوقوف عند تفاصيلها.
هذا ما حدث مع الصحافي والمراسل الحربي طارق عبدالجابر، صاحب أشهر جملة في نشرة التاسعة التي تميز بها التلفزيون الرسمي في مصر “كان معكم مراسلكم طارق عبدالجابر من القدس المحتلة”، فقد اعتاد عليه الجمهور يُدلي برسالته يوميا من الأراضي الفلسطينية قبل أكثر من عشر سنوات، وصار وجها مألوفا في البيوت.
تحمل المسيرة الإعلامية لعبدالجابر العديد من القصص والعبر لأي إعلامي، حيث خفت نجمه في المهنة بسبب سوء تقديره للمستقبل عندما اختار أن يرتمي في أحضان جماعة الإخوان تحت وهم أن التنظيم سيوفر له المال والحياة المرفهة ولو كان ذلك بعيدا عن بلده مصر، فقرر أن يدعم الجماعة وينضوي تحت ألويتها.
كانت الخطيئة الكبرى في رحلته الإعلامية عندما قبل بنصيحة زميل له أن يشارك في دعم الإخوان من على منصة اعتصام رابعة العدوية الشهير، والذي نظمه أنصار الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، ليكون وقودا لاحتجاجات نظمتها تيارات إسلامية لإجبار الجيش على إعادة مرسي للسلطة.
الصعود والهبوط
في غفلة، وربما خدعة شخصية، صعد المراسل الحربي على منصة رابعة العدوية، قبل فض الاعتصام في أغسطس 2013، وسط تصفيق حاد من أنصار الإخوان، واستغل خبرته الإعلامية في التحدث بلباقة ولغة جذابة وأسلوب مقنع، محرضا الإسلاميين على البقاء في الميدان والاستمرار في الاعتصام، قائلا لهم “اثبتوا، فالعالم يتحدث عنكم بفخر، والقنوات الدولية تتعاطف معكم، وتتحدث بلسانكم”.
كان لعبدالجابر فقرات ثابتة يوميا على منصة رابعة العدوية ليشعل حماس المعتصمين ويطمئن الذين أصيبوا بالملل وخيبة الأمل من تمسك الجيش بموقفه، وكان ينقل لهم أن الغرب يضغط على الرئيس عبدالفتاح السيسي، وكان وقتها وزيرا للدفاع، ليحترم الشرعية، ويتوقف عن الانقلاب العسكري، حسب وصفه، حتى أصبح مصدرا لبث الأمل في نفس الإخوان.
لم تمض أيام قليلة حتى قام الجيش بفض اعتصام رابعة بالقوة، حينها أدرك عبدالجابر أن حياته داخل مصر محاطة بالخطر، فإذا غضت الأجهزة الأمنية الطرف عنه وتركته يعيش في أمان، فلن يجد فرصة عمل توفر له حياة كريمة بعدما أصبح محسوبا على جماعة إرهابية، كما صنفتها الحكومة، فاختار الهجرة إلى الخارج، قاصدا تركيا.
تعرّف هناك على المعارض أيمن نور صاحب قناة الشرق الإخوانية والتحق للعمل في المحطة ليقدم برنامج “الأبواب الخلفية” الذي يناصب العداء للقاهرة، بعدما نجح في تقديم نفسه كمناصر للإخوان، وناقم على النظام المصري، وكانت مقاطع الفيديو الخاصة به وهو يخطب في المعتصمين ضد الجيش من أعلى منصة رابعة، أكبر داعم له في تأكيد ولائه وأنه يستحق أن يصبح ضمن الإعلاميين الناطقين بلسان الجماعة.
استفاق الفتى الأسمر من الغيبوبة سريعا وأدرك أنه يسير في طريق مسدود، فالنظام المصري يقوى، وجماعة الإخوان تضعف، ولن تعود إلى المشهد مهما بلغ تصعيدها الإعلامي، وصارت الصورة واضحة كالشمس، لا بديل عن العودة إلى مصر، مهما كانت الفاتورة باهظة، وبعد تفكير قرر التبرؤ من الإخوان والتقرب للنظام المصري.
لم يتردد عبدالجابر في التحدث إلى سياسيين وكتاب وإعلاميين قريبين من النظام المصري أو لديهم قنوات اتصال مع دوائر صناعة القرار، بينهم عبدالله السناوي، وأحمد موسى، وإيمان الحصري، وسليمان جودة، وأبلغهم بتفكيره في العودة، لكنه يخشى الملاحقة الأمنية، ونقل البعض رسالته لشخصيات فاعلة في السلطة.
جاء الرد من الرئاسة إلى السناوي تحديدا بالموافقة على عودة عبدالجابر إلى مصر متى شاء، مع وعد بعدم إدراجه على قوائم ترقب الوصول، وقال في تصريحات صحافية “وصلتني رسالة، أن السيسي قال لوسيط، إذا كان طارق لا يمتلك تذكرة العودة إلى مصر سنوفرها له، وإذا كان بحاجة للعلاج سنعالجه على نفقة الدولة”، حيث أصيب بسرطان المعدة وساءت حالته الصحية قبل أن يخوض فترة علاج طويلة بالولايات المتحدة.
كانت رسالة الرئيس السيسي نقطة تحول في حياة عبدالجابر الشخصية والمهنية، فهو صار محصنا من رأس السلطة في مصر، لكنه تشكك في الأمر بعدما فوجئ بهجوم شرس من الإعلامي والبرلماني مصطفى بكري، متهما إياه بالخائن الذي باع وطنه، ومطلوب محاسبته فور عودته، فراوده الشعور بأن هناك فخا ينتظره.
ألغاز الإعلام
◙ عودة عبدالجابر إلى مصر ستكون لها انعكاسات إيجابية في تحفيز المزيد من العاملين في الإعلام الإخواني على التوبة
عاد إلى سؤال بعض الشخصيات حول فحوى رسائل بكري، لكن تم إبلاغه بأن الرئيس على وعده بعدم ملاحقته أمنيا، واطمأن أكثر عندما أتيح له إجراء مداخلات هاتفية مع برامج تلفزيونية تبثها قنوات مملوكة للحكومة ليتحدث عن الندم والخديعة التي تعرض لها من الإخوان طالبا العفو من النظام المصري.
وجدت الحكومة في ندم عبدالجابر الكثير من المكاسب السياسية، لأن اعتذاره عن الانضمام إلى الإخوان وإعلان التوبة وطلب العفو أكبر دليل على أن أنصار الجماعة والمتعاطفين معها دخلوا مرحلة الانهيار النفسي، وكل ما يتم التسويق له عبر المنابر الإعلامية الخاصة بالتنظيم وكانت تدعمها قطر وتركيا، مجرد محاولة للتمسك بالأمل.
كما أن عودة عبدالجابر إلى مصر، وهو ليس مجرد مذيع هاو أو مبتدئ، بل مخضرم وله شعبية كبيرة، ستكون لها انعكاسات إيجابية في تحفيز المزيد من العاملين في الإعلام الإخواني على التوبة وإبداء الندم وربما تكرار نفس السيناريو بالعودة إلى مصر، وإذا لم يحدث ذلك، فعلى الأقل يتم ضرب صورة المنابر الإعلامية للإخوان وتعريتها في نظر جمهورها داخل وخارج البلاد.
تحقق مراد الحكومة بالفعل بعدما تم فتح القنوات والصحف أمام عبدالجابر ليفضح إعلام الإخوان والدور المشبوه الذي يلعبه في ضرب الأمن والاستقرار في مصر وطريقة تمويله ودور النظامين التركي والقطري في هذه اللعبة.
ولم يبخل الفتى الأسمر في كشف المستور عن الأبواق الإعلامية للإخوان وكواليس ما يجري بها، والأموال المشبوهة التي تُضخ لها على الدوام.
أصبح عبدالجابر أكبر من مجرد فاضح للإخوان ونظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وصار كنزا معلوماتيا، حيث يمتلك ما يكفي من الخبايا والكواليس التي يبحث عنها المصريون لمعرفة كيف يفكر الإخوان وإعلامهم.
تحولات سريعة
أفصح عن السياسة التحريرية لإعلام الإخوان، وكيف أن النظام التركي يحظر استخدام وصف الرئيس المعزول على مرسي، ويحظر أيضا تسمية السيسي بالرئيس، ويتم وصفه بـ”قائد الانقلاب” وكانت هذه تعليمات صارمة لكل القنوات، وتتابع الأجهزة التركية تنفيذها بصرامة، وإلا يتم استهداف القناة والعاملين فيها، مع الاهتمام بتشويه أي قرارات أو سياسات إيجابية في مصر.
كل ذلك لم يشفع لعبدالجابر للعمل بأي منبر إعلامي تابع للحكومة أو أجهزتها، رغم التحول السياسي الجذري في حياته، من التبعية للإخوان إلى التمجيد في السيسي وإنجازاته ووصفه بالبطل واتهام كل المعارضين له بقصر النظر لأنهم لا يشاهدون ما يحدث في مصر من إيجابيات وأمن واستقرار.
مجرد الاطلاع على مسيرة عبدالجابر المهنية والسياسية والتحولات الجذرية بها يكفي للحكم على ما وصل إليه الإخوان وأنصارهم والمتعاطفون معهم، فالكثير منهم مثله أصبحوا نادمين أو مؤمنين باستحالة تغيير الواقع كما يريدون أو يحلمون، وهذا يضيف إلى رصيد نظام السيسي السياسي ويجعله أكثر قوة وثباتا.
لا يعني أنه خُدع في الانضمام إلى الإخوان أنه مؤيد أو داعم أو حتى متعاطف، فهو بالأساس ليبرالي وكان عضوا بحزب الجبهة الديمقراطية الذي سبق وترأسه السياسي أسامة الغزالي حرب قبل دمجه مع حزب المصريين الأحرار الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، لكن عبدالجابر اختار الانضمام للجماعة بحثا عن مكاسب مادية، ما يوحي بأن هناك وجوها مضت في نفس الطريق، لكنه كان أكثر ذكاء وجرأة عندما اختار التوبة والمصالحة عام 2015، أي في البدايات.
تعكس الطريقة التي عاد بها عبدالجابر إلى مصر أن النظام الحاكم لا يُمانع تكرار نفس الفعل مع آخرين غررت بهم جماعة الإخوان أو خدعتهم بالمال، ولا يزال الباب مفتوحا أمام كل من لم تلوث يديه بالدماء أو أسهم في التخريب أو حرض على عنف، وهي رسالة يداوم السيسي على إطلاقها بين حين وآخر.
بعيدا عن استجابة البعض أم استمرارهم في نفس الطريق، تظل قصة عبدالجابر مليئة بالدروس لكل إعلامي أو سياسي يقرر في لحظة أن يتخلى عن مبادئه بحثا عن مصالح ضيقة، لأنه سينتهي به الحال إلى الاختفاء من المشهد أو نسف كل ما حققه على المستوى الشخصي والجماهيري ليكون شيئا من الماضي.
صحيح أن مهنة الطهي عموما ليست معيبة، لكن الفكرة في حد ذاتها لمذيع كان يوما ما من نجوم الشباك على شاشات التلفزيون ينتظره الجمهور كل مساء وهو ينقل لهم كواليس الصراعات والحروب وتحول في نظر البعض إلى بطل في معركة.
شعور قاس، خاصة إذا كان سجله حافلا بتغطيات مميزة يصعب على كثيرين تكرارها.
حقق نجاحات في تغطية أحداث الثورة الليبية والصراع في البلقان ورواندا وأفغانستان والعراق وجنوب لبنان ودارفور وتشاد، وأوكلاند وقت الحرب البريطانية الأرجنتينية، إلى درجة جعلته من الإعلاميين المقربين لنظام الرئيس الراحل حسني مبارك، حيث كان يهاتفه مبارك ليطمئن عليه أوقات الخطر وعرف عنه العمل تحت الرصاص.
كان من قوة شغفه بالمهنة أن تواجد في مناطق شديدة الخطورة إلى درجة أن رصاصة اخترقت كتفه في إحدى المرات، وتدخلت المخابرات العامة المصرية لإنقاذه من الموت المحقق، وجرى تأمينه من محاولات اغتيال كاد يتعرض لها في الأراضي الفلسطينية، وكانت علاقاته قوية بالدولة المصرية وأجهزتها.
بغض النظر عن الخطأ الذي ارتكبه بالانضمام إلى الإخوان لا يزال يمتلك بعضا من السمات المهنية وهو في حاجة ملحة إلى العمل، حيث توصل إلى اتفاق مع فضائية “الشمس” المصرية لتقديم برنامج يحمل اسم المراسل ليحكي فيه تجاربه وكواليس حياته في تركيا وأسرار الصراعات التي حضرها، ثم عاد أخيرا ليطل على الجمهور ويقدم برنامجا عن الطبخ في المحطة يناقش من خلاله بعض القضايا الاجتماعية.
المصدر : العرب اللندنية