أحمد حافظ
يؤكد خبراء علم النفس خطورة الظاهرة الأسرية المتمثلة في طلب الاستشارة من الأصدقاء والمتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي حول طريقة التعامل مع الأبناء المتمردين بُغْية تقويم سلوكهم. ويؤكد الخبراء أن النصائح التي يتلقاها الأبوان غير صالحة لكل الحالات باعتبار أن أطفال اليوم ليسوا أطفال الأمس وأن لكل عائلة خصوصياتها.
واضطر الأب محمد حلمي إلى اللجوء إلى إحدى المجموعات المغلقة للرجال بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لطلب النصيحة في كيفية التعامل مع ابنته التي تبلغ من العمر 14 عاما ولا تنصاع له وتتعمد الخروج من المنزل كثيرا، وسأل: ماذا أفعل مع ابنتي، وكيف أجبرها على الاستجابة لكلامي؟
وتابعت “العرب” الردود العنيفة على كلام الأب، فالبعض سخر منه لكونه يجاهر بعدم استطاعته تربية ابنته، وآخرون تبرعوا بعرض تجاربهم في التربية لمثل هذه الحالات مع بناتهم، وكان لافتا لجوء أغلبهم إلى استخدام العنف اللفظي والجسدي والحرمان من الحقوق في تربية أبنائهم، مثل عدم شراء الملابس أو قطع المصروف عنهم ومنعهم من مشاهدة التلفزيون.
وتبرع البعض من المتفاعلين مع حديث الأب بسرد وقائع مماثلة حدثت لهم خلال تربية أولادهم، وكل منهم حكى تجربته بدقة والأسلوب الأمثل للتعامل مع الفتاة المراهقة وإجبارها على احترام والديها، من الترغيب إلى الترهيب، وكيف يكون التهديد المتكرر أداة مثالية لترويض تمرد الصغار بعيدا عن التدليل وتجاهل الأخطاء. الأب محمد، جزء من ظاهرة أسرية أصبحت موجودة على نطاق واسع في مصر، تتمثل في قيام آباء بطلب استشارة من الأصدقاء والمتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي أو ما يعرف بـ”الغروبات” أو المجموعات على فيسبوك، حول طريقة التعامل مع الابن المتمرد والابنة غير الملتزمة في نظر أسرتها، ثم يتلقى الأبوان نصائح باعتبارها ناجحة وصالحة للاستخدام في كل الحالات.
وتكمن المشكلة في أن الكثير من الآباء والأمهات يتلقفون التجارب الأسرية الأخرى ويقررون تطبيقها على أبنائهم، بغض النظر عما إذا كانت ملائمة لحالة أبنائهم أم غير ملائمة، من حيث البيئة والتعليم والثقافة، وهو ما يمثل مغامرة غير محسوبة العواقب قد تهدد كيان الأسرة بكامله عندما يتسبب التقليد الأعمى لهذه التجارب في صدام بين الآباء والأبناء.
الكثير من الأسر لا تُدرك اختلاف أطفال اليوم عن أطفال الماضي وأنهم يحتاجون إلى تربية تتلاءم مع المتغيرات المجتمعية
وأقرت آية محمد (من القاهرة)، وهي أم لثلاثة أبناء، بأنها أخطأت عندما لجأت إلى الأصدقاء والمتابعين على شبكات التواصل الاجتماعي، وكانت تداوم على طلب النصيحة كلما شاهدت سلوكيات خاطئة يقوم بها أيّ من أبنائها، واكتشفت ارتفاع حدة التمرد عليها بعد تطبيقها ما نُقل إليها من تجارب وقصص زعم أصحابها أنها نجحت.
وقالت لـ”العرب” إنها تأكدت أن التمرد الذي بدا واضحا على أبنائها الثلاثة كان بسبب التقليد الأعمى في التربية، وعندما لجأت إلى أخصائي نفسي قام بتوبيخها على ما فعلت، لأن أطفال اليوم ليسوا مثل أطفال الماضي ولكل منهم شخصيته وأسلوبه، ولا يمكن تعميم طريقة التربية على أبناء الأسرة الواحدة، حتى تكون هناك تجربة مستوردة تطبق على الجميع.
وأصبحت شبكة الإنترنت وسيلة للتثقيف بشأن تربية الأبناء بالاطلاع على آراء متخصصين واستشاريين في تقويم السلوك أو قراءة الكتب والأبحاث المتعلقة بهذا الأمر، أو باستطلاع آراء آباء وأمهات، في ظل انشغال أرباب الأسر بمتطلبات الحياة اليومية وعدم الاهتمام بالأبناء بالقدر الكافي ثم يفاجأون بأنهم صاروا متمردين.
ويبرر هؤلاء موقفهم بأنهم يبحثون عن الوصول بأبنائهم إلى قمة التربية والنضج والالتزام القيمي أسوة بأبناء الأصدقاء والأقارب، لكن المعضلة تكمن في تمسكهم باتباع نفس الأسلوب في التنشئة بعيدا عن البيئة والعادات والتقاليد، وعدم الاقتناع بأن لكل أسرة خصوصيتها، ولكل ابن من السمات والميول ما يجعله مختلفا عن الآخر.
وأكد محمد هاني، استشاري العلاقات الأسرية وتقويم السلوك في القاهرة، أن “الكثير من الأسر لا تُدرك اختلاف أطفال اليوم عن أطفال الماضي وأنهم يحتاجون إلى تربية تتلاءم مع المتغيرات، فمن الصعب إقناعهم بالرضا بالقليل من الفرص المتاحة لهم، وليس من السهل تكيّفهم مع الظروف المحيطة بالأسرة ويستسهلون التمرد لتلبية رغباتهم”.
الأم هي المدرسة الأولى لتربية البنت وتعليمها كيفية تدبير شؤون الأسرة
وأضاف لـ”العرب” أن “التقليد الحرفي للتربية مخاطرة، لأنه يأتي بنتائج عكسية يدفع ثمنها الطرفان، الأسرة والأبناء. والمشكلة الحقيقية تكمن في اقتناع الكثير من الآباء بأن دورهم الأساسي تلبية الاحتياجات المادية للأولاد دون أن يضعوا في الحسبان أهمية توفير الاحتياجات العاطفية للصغار، وبمرور الوقت يحدث نوع من الجفاء وقد يفقد الأبوان السيطرة على تصرفات الابن”.
وتشير الكثير من الدراسات إلى أن اندفاع الأبوين إلى التقليد في التربية يكرس لدى الأبناء المزيد من العصيان لعدم قبولهم نمط تنشئة لا يتناسب مع رغباتهم وتطلعاتهم وشخصياتهم، كما أن تكرار تعنيف الصغار قد يتحول من تقويم إلى تدمير للطفل وتصبح لديه مناعة ضد أي سلوك عدواني من أفراد أسرته.
صحيح أن التقليد في التربية يتضمن نوايا حسنة من الآباء تجاه الأبناء ويرتبط بتطلعات أسرية إلى تنشئة سوية، لكن استيراد تجارب الآخرين دون مراعاة طبيعة وشخصية الابنة أو الابن هو في النهاية انتهاك لخصوصية الأسرة والأولاد؛ فعندما يتم نقل التجربة بحذافيرها دون مراعاة للفروق الفكرية والثقافية والنفسية تحدث الفجوة بين الطرفين.
اندفاع الأبوين إلى التقليد في التربية يكرس لدى الأبناء المزيد من العصيان لعدم قبولهم نمط تنشئة لا يتناسب مع رغباتهم وتطلعاتهم
ويعتقد معارضون لثقافة نقل تجارب الآخرين في علاقة الآباء بالأبناء أنه ليس بالضرورة أن تكون أساليب التربية التي تتبعها أسرة بعينها جيدة وتؤدي إلى جعل الأبناء صالحين، بل يمكن أن تكون لدى هؤلاء سمات شخصية وسلوكيات وطباع سهّلت على أسرهم مهمة تربيتهم بلا عناء، فالعبرة ليست في نمط التربية وإنما هي مرتبطة بميول الطفل نفسه.
ورأى الاستشاري محمد هاني أن استسهال نقل تجارب الآخرين في التربية يكرس الصراع بين الأجيال، لأن الأبناء في الوقت الراهن لديهم حالة من تقديس الاستقلالية والبحث عن تقرير مصيرهم بأنفسهم، وأقصى ما يمكن الالتزام به أن يسيروا على نهج آبائهم بحكم البيئة التي نشأوا فيها لا الالتزام الحرفي بما تفعله عائلات أخرى.
وتكمن مشكلة بعض الآباء في أنهم يهتمون بتقويم سلوكيات أولادهم دون الاهتمام بتحسين أسلوبهم داخل المنزل؛ فقد يكون الأب دائم الصراخ والتعنيف، ويمتعض من أبنائه إذا فعلوا ذلك دون إدراك أن القيم تُكتسب من العائلة، والآباء والأمهات قدوة أبنائهم طوال حياتهم، لذلك لا ينبغي إجبارهم على انتهاج مسارات محددة والتحلي بسلوكيات معينة لمجرد أنها نجحت عند أسر أخرى.
ويصعب تغيير هذه الثقافة بعيدا عن اقتناع الأسر بأن التربية ليست معركة بين الآباء والأبناء. واللجوء إلى استيراد تجارب في التنشئة وتطبيقها دون اختيار الأنسب منها يعكس فشل الأبوين في مهمة تقويم أنفسهم أولا، ويقود العكس إلى تربية مختلة. وقلة الخبرة الحياتية في التنشئة السوية لا يجب أن يكون علاجها استيراد تجارب تؤسس لأجيال غير متزنة سلوكيا ونفسيا.
المصدر : العرب اللندنية