صالح البيضاني
إذا ما أحصينا أسباب فشل خيارات الحرب والسلام في اليمن يمكن أن نضع “الفساد” على رأس قائمة تلك الأسباب التي ساهمت في إطالة أمد الصراع الذي يتخطى عمره السبع سنوات، وكذلك تعثر كل خطط التسوية السياسية، في ظل نشوء حالة متقدمة من “اقتصاد الحرب” تقاسمت مكاسبها شبكات النفوذ على جانبي الاصطفافات السياسية والجهوية والأيديولوجية.
وقد أنتجت الحرب في اليمن، إن جاز التعبير، “طبقة أوليغارشية” مثل تلك التي نشأت في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، حدث ذلك تحت رداء الحرب، وعندما تم تعطيل أجهزة الرقابة الرسمية والشعبية واختبأ الفساد تحت عباءة التخندق السياسي والحزبي، بالتوازي مع إلغاء هامش الحريات الصحافية في البلاد والتي كانت تسهم إلى حد معقول في فضح بعض مظاهر الفساد وإحراج السلطات المتعاقبة.
وعلى وقع الفساد المتفاقم زادت أوجاع اليمنيين ومعاناتهم، في حين تضخمت ثروات قيادات هامشية في الميليشيات الحوثية وأخرى في معسكر الشرعية، وتخلل ذلك نشوء شبكات فساد مشتركة عابرة لمتاريس الحرب بين الطرفين، حيث ظهرت منطقة رمادية داكنة تجتمع فيها مصالح الخصوم، ويتم خلالها تمرير الصفقات وتعطيل كل خيارات الحسم العسكري والسياسي والاقتصادي، أو حتى خيارات السلام التي يمكن أن ترفع الغطاء عن شبكات الفساد التي احتمى من خلالها الخصوم خلف شعارات الحرب، ولكنهم لم يجنوا منها سوى المنافع!
وتصدرت قطاعات بعينها قائمة الفساد الهائل الذي أنتج العشرات من الأثرياء الجدد وأضاف الملايين من اليمنيين إلى خانة الفقر المدقع، وفي مقدمة تلك القطاعات؛ الاتصالات والنفط والمضاربة بالعملات واستغلال القطاع المصرفي والنقدي في اختلاق أزمات وانفراجات كاذبة، تراكم أموال الفاسدين وتصادر مدخرات الفقراء وتحويلاتهم المالية القادمة من الخارج.
ومع انكشاف فضائح الفساد وصفقاته، التي لم تكن أكثر سفورا في تاريخ اليمن المعاصر كما هي عليه اليوم، بات اليمنيون يتحدثون عن هذا “الوحش” الذي حول حياتهم إلى جحيم بقدر ربما يفوق آثار الحرب التي تعطلت نتيجة لهذا القاتل الذي بات يلتهم قوت اليمنيين وحياتهم، ويعكر صفو أبسط الخدمات التي كانوا يتلقونها سابقا بقدر أقل من العناء والمشقة، وتحولت في زمن الحرب إلى مصادر إضافية لحصد الثروات من قبل شبكات الفساد التي باتت تتاجر بالمشتقات النفطية والغاز المنزلي وبالطاقة الكهربائية، وتخصص لكل شيء سوقا سوداء لمضاعفة الأرباح والمكاسب وتعميق المعاناة الإنسانية، كما يفعل الحوثيون في مناطق سيطرتهم على وجه الخصوص، حيث أصبح نهج “الجباية” ملمحا أساسيا للحياة في المناطق الخاضعة لسلطتهم، بالتوازي مع وقف ممنهج لصرف رواتب الموظفين، ونصب نقاط التفتيش لفرض الإتاوات على كل شيء تقريبا يمر في الشارع، تحت عناوين مختلفة تبدأ بالضرائب والجمارك ولا تقف عند المطالبة بالزكاة والمجهود الحربي.
ولم يكن الفساد كارثة فقط على اليمنيين البسطاء بل إن أثره المدمر امتد إلى مشاريع جميع الأطراف المتصارعة في اليمن، فبعد أكثر من سبع سنوات، على سبيل المثال، فشل الحوثيون في تغيير الهوية الثقافية والاجتماعية في مناطق سيطرتهم، رغم استخدامهم كل الوسائل السلمية والعنيفة في سبيل تحقيق هذا الهدف، والسبب الرئيس في ذلك أن منظومتهم السياسية غرقت في وحل الفساد، ولم تستطع أن تقدم نموذجا يقنع اليمنيين بأن ما يحدث هو تغيير للأفضل أو حتى للأسوأ، فما يجري يمكن وصفه بأنه دائرة مفرغة من الشعارات يمد في عمرها نهم القيادات الحوثية من مختلف المستويات لمراكمة المزيد من الثروات المنهوبة.
وفي المقابل يمكن القول كذلك، إن “الفساد” في “الشرعية” كان طوال السنوات الماضية هو خط الدفاع الأول عن الميليشيات الحوثية، والشواهد كثيرة في هذا السياق وباتت ملموسة عند الحديث مثلا عن شوائب رافقت الحرب كالقوائم الوهمية في الجيش وتسرب السلاح المقدم من التحالف، وصولا إلى الخلاف بين أقطاب ومراكز قوى سياسية، وهي عوامل تسببت في إهدار الكثير من الجهد والمال في صراع الاستحواذ على قطاعات النفط والاتصالات، بدلا من أن تمضي قدما في المشروع الذي ترفع رايته اليوم تحت عنوان استعادة الشرعية والدولة من قبضة الميليشيات المدعومة من إيران.
ولكن الوقت لم يفت باعتقادي، فما يزال الفساد في معسكر الشرعية أكثر خجلا وفتورا من نظيره في جبهة الحوثي، ويمكن معالجة الجزء الأكبر منه عبر تفعيل دور المجتمع المدني والإعلام وإعادة إحياء أجهزة الرقابة الحكومية مثل هيئة مكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، في الوقت الذي يحتمي فيه الفساد الحوثي بفظاظة المشرفين وشعارات مواجهة الخارج، والمبررات الأيديولوجية الغابرة.
نقلاً عن العرب اللندنية